انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 383/عراك في معترك أي معترك

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 383/عراك في معترك أي معترك

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 11 - 1940



للأستاذ زكي طليمات

هذا التحدي بالسباب من جانب الأستاذ محمد متولي نرده إلى صاحبه

نحن هنا، على صفحات هذه المجلة للأدب الصرف وللعلم الخالص، وقد نكون في غيرها لما يريده الأستاذ الجامعي الثقافة. لهذا نقول له إننا نحجم عن ذلك في هذه الصحيفة، لا إكراماً لشخصه ولا ترفقاً لحاله، لأن من يقذف الناس بالحجارة من غير مبرر لا يرده ويحسن تأديبه إلا القذف بما هو دون الحجارة، ولا لأي اعتبار آخر سوى وقار الموضوع الذي تبادلنا الحديث فيه، وهو موضوع جدير بالرعاية في معالجته على الوجه الصحيح. كشف عن لون جديد من ألوان المعرفة، وتقرير صنف حديث من أصناف التأليف المسرحي، نقول إنه موضوع طريف، أثار وسيثير حوله جدلاً طويلاً ستتبارى فيه الأقلام وتختبر المعارف وتسقط الأقنعة المزيفة عن الوجوه، فيتضح - وليس للمرة الأولى - كيف أن النقد يجب أن يقوم قبل كل شيء على الخلق الرضي المتواضع لا على التعلم المزهو فحسب، لأن التعلم وحده لا يحقق إنتاج الأديب الأصيل الذي يصدر أحكامه عن عقيدة مخلصة في الحق والعدالة، وكيف أن الذكاء وهو من صقل التعلم، مجرداً عن الخلق العادل، إنما يكون أداة للتضليل ومعولاً للشر، ثم ينهض البرهان من جديد على أن بعض التعلم (وإن أذهب عن العاقل طيشه، فإنه يزيد الأحمق طيشاً، كما أن النهار يزيد كل ذي بصر نظراً ويزيد الخفاش سوء النظر)

نحن إذن أمام قضية خطيرة للعلم وللقراء ولهذه المجلة، قضية يجب أن يقضي فيها بشرعة الحق وبقسطاس العلم، والعلم أمانة وذهن القارئ أيضاً أمانة لدى الكاتب، ولدى أستاذنا صاحب هذه المجلة

لهذا سنمضي في أثر الأستاذ متولي مهما شاء له أدبه

وتمهيداً للبراهين التي سنسوقها للتدليل على ما وصفنا به نقد الأستاذ متولي، نعرض أولاً للباب الموضوع حتى يحسن القارئ تفهمه

الرمزية المستحدثة أوسع نطاقاً من رمزية (ريبو)

مثار الخلاف أنني دفعت رأي الأستاذ متولي في أن الرمزية التي نحن بصدده مسرحية (مفرق الطريق) أوسع نطاقاً من الرمزية التي حددها الأستاذ متولي، نقلاً عن (ريبو) وحده في كتابه (المخيلة الخلاقة. باريس سنة 1900)

الأستاذ متولي يقول بلسان (ريبو): (إن الرمزية في الفن تستخف بتمثيل العالم الخارجي تمثيلاً صادقاً فإذا الناس والأشياء ثمر دون أن تنطبع بزمان أو مكان، ولكنها تمضي وما تدري أين حصلت ولا متى، فلا هي تمت بصلة إلى أي بلد ولا هي تمثل عصراً بذاته)، ولما كانت (مفرق الطريق) تعرض صوراً محلية تجري حوادثها في مصر؛ وما دام بشر فارس قد أسمعي بطل مسرحيته (هو) وأسمى بطلتها (سميرة)، إذن فالمسرحية لا تمت في نظر الأستاذ متولي إلى الرمزية في شيء وأنها محاولة مخفقة، وأن مؤلفها لا يصح له أن يؤلف، إلى غير ذلك من العبارات التي أصدرها بمراسيم تحمل أسمه الكبير!!!

سجل متولي هذا في أول مقال له فرددنا عليه في مقالنا السابق

1 - بأن (ريبو) واحد ممن كتبوا في علم النفس وأن ما أدلى به هذا (الريبو) بصدد الرمزية في الأدب، قد فات أوانه بعد أن انبسطت للرمزية أطراف جديدة أخذ بها مؤلفون محدثون في تأليف المسرحية والقصص والشعر، وذكرنا أسماء لبعض هؤلاء المؤلفين وكلهم من المبرزين في عالم الأدب الرفيع أمثال (بيراندللو)، (جيرودو)، (حانتيون)؛ وهم مؤلفو مسرحيات رمزية صميمة لم تتقيد بآراء (ريبو) من حيث الاستخفاف بتمثيل العالم الخارجي وغير ذلك؛ بل هي مسرحيات تنطبع بزمان ومكان، وشخوصها يحملون أسماء كسائر الناس، وتجري حوادثها في مدن معروفة. وذلك أن الرمزية المستحدثة أصبح مدراها الأول استكناه خفايا النفس وبواطن الشياء، أو بمعنى آخر (استنباط ما وراء الحس من المحسوسات الخ)، كما أورده بشر فارس في مقدمته لمسرحيته المذكورة

2 - ولم نقف من هذه الأقوال عند مجرد الرد فحسب، وإنما أضفنا إلى هذا النقص عند (ريبو) ذكر نقص آخر، قرره العالم (أبيل راي أستاذ تاريخ العلوم وفلسفتها بجامعة السربون. وذلك في بحث له عن الاختراع بكتاب لجورج دوماس (صفحة 1441 السطر 14 - 20 الجزء الثاني طبعة باريس 1924) هذا نصه:

' , ' - ' - , '

ومجمل ترجمته: (يلوح لنا أن علم النفس عند (ريبو) في مسائل (المخيلة) والاختراع لا يزال تحت تأثير النظرية الآلية البسيطة الخاصة بتجزؤ الذهن إلى ذرات متجاورة)

3 - وأيدنا هذا النقص بذكر تقدم علم النفس في هذه المسألة بعينها على أيدي الفيلسوفين (وليم جيمس) و (بريجسون)!

(وقبل أن أنتقل من هذه النقطة أرجو القارئ أن يقف قليلاً أمام هذا النص الفرنسي ومجمل ترجمته فله قصة طريفة سنوردها بعد قليل!)

4 - ولم نكتف بكل هذا، وهو من صميم العلم الذي لا ترقي إليه الشبهات، بل رجعنا إلى (ريبو) نفسه في كتابه المذكور (المخيلة الخلاقة) ووقفنا عند النص الذي اقتطعه الأستاذ متولي ليدعم دعواه في الرمزية، فوجدنا، ويا للعجب، أن (ريبو) لم يتحرج التحرج الذي أراده متولي، إذ أنه، أي (ريبو) لم يحتم التحتيم كله أن أن تكون الرمزية ممعنة في الإبهام إذ يقول (إنه كثيراً ما تفلت الرمزية - في عهده طبعاً - من التحديد الزماني والمكاني، وإذ يقول إن الأسماء، أسماء الأشخاص في المسرحية يعبر عنها أحياناً بهو أو هي، أو هم!

5 - ثم تساهلنا مع الأستاذ متولي فقلنا إنه على فرض أن (ريبو) إله في علم النفس، وأن آراءه في الرمزية لم يشحب لونها، وعلى فرض أن العلماء مثل لم تطعن في صحة موقف (ريبو) في كلامه عن (الاختراع) و (المخيلة) كما قدمنا، على فرض كل هذا، فإنه من الغريب أن يأتي متولي عام 1940 فيفرض على كل كاتب في الرمزية أن يخضع ما يكتبه فيها لآراء (ريبو)، فيقول للدكتور بشر فارس إما أن تنشئ على آراء (ريبو) وإما فما تنشئته لا يمت إلى الرمزية بصلة ما! ثم سألناه، بعد أن قررنا له أن العلم يتقدم والنظريات تتطور: وما نفع مسايره الأدب - وفيه الرمزية - للعلم في تقدمه وفي مستحدثاته؟

أين موضوعية النقد يا أستاذ؟

بهذا المنطق الواضح والبرهان المستقيم دفعنا أقوال الأستاذ متولي، وهي أقوال أتخذها أساساً لانتقاص مسرحية (مفرق الطريق)، فلم يدفع ما أدلينا به بحجة علمية واحدة مع أن ما نحن بصدده في هذا يؤلف جوهر الموضوع!

فهل قرأ متولي هذا في مقالنا ولم يفهمه، أو هو قرأه ووعاه ثم أسقطه من حسابه في رده علينا خشية أن يبدو أمام القراء في غيبوبة وتباطؤ في التحصيل لا يصح أن يكون عليهما مزهو بإجازة الماجستير!!

لئن كان الأمر الأول فله العذر ولنا العزاء، ولئن كان الأمر الثاني فيا خيبة الأمل في نزاهة النقد وصدق النفس!!

الهارب المهزوم!!

بماذا طلع علينا متولي في مقاله الأخير؟؟

1 - سبحات في خيال، ونطحات في جدار، وسباب ساقه إليَّ وإلى بشر فارس يعزيني فيه، كما يعزي - على ما أظن - بشر فارس، أنه في غير حياء إلى المستشرق الكبير الأستاذ (بركلمن)، الحجة في تاريخ الأدب العربي، هجم متولي، الماجستير في الفلسفة من الجامعة المصرية على هذا الإمام الكبير فنعته (بالغفلة) لأنه قرر في تاريخه عن الأدب العربي الحديث عن مسرحية (مفرق الطريق): (نحن هنا عند استهلال تطور يستطيع أن يحدث تجديداً في الحياة الأدبية أو قل يجلب ثروة إليها)

ما رأى أساتذة كلية الآداب في هذا، وبماذا يعاقبون التلميذ محمد متولي؟

2 - عمد إلى المغالطات الصريحة والادعاءات الجريئة، وإلى القارئ بعضاً منها:

(ا) أدعى أننا نسبنا - غفلة وجهلاً وإمعاناً في تزييف الحقائق

العلمية - ما قاله العالم (أبيل راي خاصاً بنقد (المخيلة) عند

(ريبو) - ونص هذا القول سجلناه بالفرنسية مع ملخص

ترجمته قبل هذا بسطور ورجونا القاري أن يقف عنده - أدعى

الأستاذ متولي أننا نسبنا هذا إلى (وليم جيمس) الفيلسوف

المعاصر، ولا نعرف لهذه الدعوى وجوداً إلا في مخيلة متولي

المبتدعة، لأننا أوردنا نص ما قال في مقالنا السابق مع إشارة

صريحة إلى أنها واردة في كتاب لجورج دوماس، ولم نغفل تاريخ طبع الكتاب وأرقام الجزء والصفحة والسطر! وما

على القارئ إلا أن يتفضل بالمراجعة ليحكم هل أنا المزيف أم

الأستاذ متولي!

(ب) يدرس لا يدرس

قلنا في مقالنا السابق إن كتاب جورج دوماس هذا يدرس اليوم في جامعة السربون بباريس، ولم نضع شكلاً على كلمة (يدرس) باعتبار أن المعنى صريح لا يحتاج إلى ضبط لدى كل من له معرفة بدراسة الجامعات، وقد قمت بدراسة في جامعة السربون لتاريخ الفن ' الذي يصح أن يعرفه الأستاذ متولي، ولكن مخيلة الأستاذ شاءت أن ترى في كلمة (يدرس) بمعنى يقلب ويقرأ، معنى آخر تحدده كلمة (يُدرَّس) أي واجب على الطلبة الأخذ بكل ما جاء فيه. كبا متولي هذه الكبوة ليقول مزدهيا: إن زكي طليمات لا عهد له بالدراسة الجامعية وعليه فلا يجوز أن يناقش خريجاً من جامعة

(ج) ولو!!

أراد متولي أن يسجل علينا رذيلة التطاول والتهجم على رجال العلم، وأولهم في نظره (ريبو)، لأنه عكازه ومنظاره فيما يكتب، فقال: إن (ريبو) هذا الذي لا يرضينا هو الذي عرف (جورج دوماس) فضله فاختاره ليكتب له مقدمة كتابه السابق الذكر. هذا في حين أننا لم ننتقص قدر (ريبو) هذا ولم نتطاول عليه، وكل ما قلناه عنه أن آراءه في الرمزية قد فات أوانها، ولم نكن في هذا أقل براً من جورج دوماس نفسه الذي أصطفى (ريبو) لكتابة مقدمة كتابه، ثم سجل عليه في نفس الكتاب ما أخذه عليه العالمِ السابق الذكر!

(ء) الفيلسوف المعاصر!

قرر الأستاذ متولي إرسالي إلى محكمة تحفظ كرامة العلم وتحاسب المستهترين بقدسيته لتعاقبهم، قرر هذا تتقدمه عريضة اتهام مفادها أنني وصفت (وليم جيمس) بالفيلسوف المعاصر، هذا في حين (وليم) هذا توفي في عام 1910، فهو بذلك غير معاصر! وهنا أقول إنه يؤسفني أن أصرح بأنه ما كان يدور بخلدي أن متولي يجهل كل المعنى التي تحت كلمة معاصر وموعدنا العدد القادم ليحكم القراء فيمن يقدم إلى هذه المحكمة وإلى محاكم أخرى من نوعها، أنا أم الأستاذ محمد متولي؟

(الحديث بقية)

زكي طليمات