انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 381/نفثات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 381/نفثات

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 10 - 1940



أماه. . .

للأستاذ سيد قطب

من نحن اليوم يا أماه؟ بل ما نحن اليوم عند الناس وعند أنفسنا؟ ما عنواننا الذي نحمله في الحياة ونعرف به؟

إننا لم نعد بعد أسرة، ولم يعد الناس حين يتحدثون عنا يقولون: هذه أسرة فلان؛ بل أصبحوا يقولون: هذا فلان وهذا أخوه، وهاتان أختاه!

اليوم فقط مات أبي؛ واليوم فقط أصبحنا شتيتاً منثوراً، وإني لأضم اليوم إلى صدري ابنكما وابنتيكما. أضمهم بشدة لأستوثق من الوحدة، وأشعرهم بالرعاية. ولكن هيهات هيهات. فأنا وهم بعدك أيتام يا أماه!

لقد شعرت اليوم فقط بثقل العبء، وعلمت أنني لم أكن أنهض به وحدي، وأنني كنت أرعاهم وأرعاك معهم، لأنني قوي بك. أما اليوم فالعبء فادح، والحمل ثقيل، وأنا وحدي ضعيف هزيل!

إن الشوط لطويل، وإني لوحدي في الطريق، وأخي وحده كذلك، وأختاي وحدهما أيضاً، وإن كنا نقطعه جميعاً!

والعش الذي خلفته ستظل فراخه زُغباً مهما امتد بها الزمن، لأن يدك الرفيقة لا تمسح ريشها وتباركه، وكفك الناعمة لا تدرب أجنحتها على التحليق، وروحك الحنون لا تكلؤها في أجواز الفضاء

نحن اليوم غرباء يا أماه

لقد كنا - وأنت معنا - نستشعر في القاهرة معنى الغربة في بعض اللحظات؛ وكنا نشبّه أنفسنا بالشجرة التي نقلت من تربتها، والتي ينبغي لها أن تكّثر من فروعها، لتتقي الاندثار في غربتها

أما نحن اليوم فغرباء في الحياة كلها. نحن الأفرع القليلة ذوى أصلها، بعد اغترابها من تربتها، وهيهات أن تثبت أغصان في التربة الغريبة. . . بلا أم!

أماه. . .

لقد امتلأ حسي إرهاصاً بالكارثة قبيل وقوعها، يوم لم يكن يبدو في الأفق نذير بها. ولقد حدثت بهذا الإحساس بعض الإخوان فعجبوا من أمري، وحسبوها وسوسة الشعراء. وقد ناديتها مراراً: (أقبلي أقبلي لطال انتظاري!). ولكنني لم أكن أتخيل الكارثة فجيعة فيك. لقد دعوتها لتقبل وأنا قوي بك، فكم من كوارث صمدت لها وأنا معتصم بركنك الركين!

لقد تمتمت قبل الكارثة بليلتين اثنتين أقول: كم أنا في حاجة لمن يربت على كتفي ويضمني إلى أحضانه! ولقد دعوتني مرة - في دعابة من دعاباتك الحلوة - أن آوي إلى حضنك كما كنت طفلاً. وكم كنت مشوقاً لتلبية دعوتك، لولا الكبرياء، الكبرياء التي أودعتها نفسي منذ الطفولة، فجعلتني أهرب من كل مظاهر الطفولة. ولو علمت ساعتها يا أماه أنك راحلة لنسيت كل تعاليمك لأرتمي لحظة واحدة في حضنك الرفيق. . . كما كنت طفلاً!

أماه. . .

من ذا الذي يقص علي أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب، ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود؟

لقد كنت تصورينني لنفسي كأنما أنا نسيج فريد منذ ما كنت في المهد صبياً. وكنت تحدثينني عن آمالك التي شهد مولدها مولدي، فينسرب في خاطري أنني عظيم، وأنني مطالب بتكاليف هذه العظمة التي هي من نسج خيالك ووحي جنانك. فمنذا يوسوس إلي بعد اليوم بهذه الخيالات الساحرة؟ ومنذا يوحي إلي بعد اليوم بتلك الحوافز القاهرة؟

منذا الذي يصوغ لي الأحلام الذهبية في الآمال، ويبني لي قصور المجد في الخيال، فتصح الأحلام بعد لحظة، ويتجسم الخيال بعد برهة، لأنك تنفخين فيها من حرارة القلب، وتوسوسين لها برُقى الإيمان، وتسكبين عليها إكسير الوجدان

لمن أصعد درج الحياة بعدك يا أماه؟ ومن ذا الذي يفرح بي ويفرح لي وأنا أصعد الدرج، ويمتلئ زهواً وإعجاباً وأنا في طريقي إلى القمة؟

قد يفرح لي الكثيرون، وقد يحبني الكثيرون. . . ولكن فرحك أنت فريد، لأنه فرح الزارع الماهر يرى ثمرة غرسه وجهده؛ وحبك أنت عجيب، لأنه حب مزدوج: حبك لي وحب نفسك في نفسي. . .!

أماه. . .

عندي لك أنباء كثيرة، كثيرة جداً ومتزاحمة، تواكبت جميعها في خاطري على قصر العهد بغيبتك. وإنه ليخيل إلي في لحظات ذاهلة أنني أترقب عودتك لأسمعك هذه الأنباء، وأحدّثك بما جدّ في غيبتك من أحداث؛ وأنك ستسرين ببعضها وتهتمين ببعضها. . . وهي مدخرة لك في نفسي يا أماه، ولن تدب فيها الحياة إلا حين أقصها على سمعك. . . ولكن هيهات، فسيدركها الفناء الأبدي، وستغدو إلى العدم المطلق، لأنك لن تنصتي إليها مرة أخرى. . .!

أماه. . . أماه. . . أماه. . . . . .

(حلوان)

ابنك المفجوع

سيد قطب