مجلة الرسالة/العدد 380/في الاجتماع اللغوي
مجلة الرسالة/العدد 380/في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤها
أثر العوامل الأدبية المقصودة: الرسم
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تكلمنا في المقال السابق عن أنواع الرسم وتاريخه، وسنعرض في هذا المقال لموضوع مطابقته للنطق ولأثره في حياة اللغة وتطورها.
الأصل في الرسم الهجائي أن يكون معبراً تعبيراً دقيقاً عن أصوات الكلمة بدون زيادة ولا نقص ولا خلل في الترتيب؛ فيرسم في موضع كل صوت من أصواتها الحرف الذي يرمز إليه، ولا يوضع فيها حرف زائد لا يكون له مقابل صوتي. وقد حوفظ على هذا الأصل لحد كبير في بعض اللغات الإنسانية، وخاصة القديم منها. فرسم الكلمة في السنسكريتية مثلاً لا يكاد يختلف في شيء عن صورتها، ولكن معظم أنواع الرسم، وخاصة الحديث منها، لا تتوافر فيه هذه المطابقة. فكثيراً ما يرسم في حرف زائد أو حروف زائدة ليس لها مقابل صوتي في النطق ((مائة) في اللغة العربية؛ في الفرنسية؛ في الإنجليزية. . . الخ). - وكثيراً ما تشتمل الكلمة على أصوات لا تمثلها حروف في الرسم ((هذا) في العربية؛ في الإنجليزية. . . الخ). - وكثيراً ما يرسم في الكلمة حرف أو أكثر للتعبير عن صوت غير الصوت الذي وضع له في الفرنسية؛ في الإنجليزية. . . الخ) - وكثيراً ما ينطق بالحرف الواحد أو بالمقطع الواحد في صورة صوتية مختلفة تبعاً لاختلاف الكلمات أو اختلاف أزمنتها، أو اختلاف موقعه فيها، أو اختلاف ما يسبقه أو يلحقه من حروف. . .؛ فيرقق في بعض الكلمات ويفخم في بعضها الآخر، أو يمد في بعضها ويقصر في بعضها الآخر، أو يضغط عليه في بعضها ويرسل في بعضها الآخر. . . وهلم جرا (اللام) في (والله) (بالله) , , , , ; ; ,. .) ; ,
وكثيراً ما تختلف الحروف في كلمتين ويتحد النطق بهما.
ويرجع السبب في هذه الظواهر وما إليها إلى عوامل كثيرة من أهمها عاملان: أحدهما: أن حروف الهجاء في معظم أنواع الرسم لا تمثل جميع أصوات اللغة التي تكتب بها. فقد جرت العادة مثلاً في معظم أنواع الرسم ألا يوضع لكل صوت عام أكثر من حرف هجائي واحد، مع أن الصوت العام كثيراً ما يندرج تحته أصوات مختلفة في مخرجها ونبراتها وقوتها ومدة النطق بها وما إلى ذلك. فالصوت العام للام مثلاً ليس له في معظم أنواع الرسم الحديثة إلا حرف واحد (ل!. . .)؛ مع أن هذا الصوت يختلف نطقه باختلاف الكلمات والمواقع. فأحياناً ينطق به مرققاً (بالله , وأحياناً مفخماً (والله، وتارة ينطق به مضغوطاً عليه (أقسم بالله) وأخرى ينطق به مرسلاً (نستعين بالله). . . وهلم جرا؛ ورسمه واحد في جميع الحالات. والصوت العام للألف اللينة ليس له في العربية إلا حرف واحد؛ مع أنه أحياناً ينطق به مستقيماً وأحياناً ينطق به ممالاً. والصوت العام للجيم ليس له في العربية إلا حرف واحد؛ مع أنه في بعض اللهجات ينطق به مجرداً من التعطيش، وفي بعضها ينطق به معطشاً كل التعطيش، وفي بعضها ينطق به بين هذا وذاك.
وثانيهما: أن أصوات اللغة في تطور مطرد وتغير دائم. فالأصوات التي تتألف منها كلمة ما لا تجمد على حالتها القديمة، بل تتغير بتغير الأزمنة والمناطق، وتتأثر بطائفة كبيرة من العوامل الطبيعية والاجتماعية واللغوية: فأحياناً يسقط منها بعض أصواتها القديمة، وأحياناً تضاف إليها أصوات جديدة، وتارة يستبدل ببعض أصواتها أصوات أخرى، وتارة تحرف أصواتها عن مواضعها فيختل ترتيبها القديم. . .؛ وقد ينالها أكثر من تغير واحد من هذه التغيرات. على حين أن الرسم لا يساير النطق في هذا التطور، بل يميل غالباً إلى الجمود على حالته القديمة أو ما يقرب منها؛ فلا يدون الكلمة على الصورة التي انتهت إليها أصواتها، بل على الصورة التي كانت عليها من قبل؛ وهذا هو منشأ الخلاف في معظم اللغات الأوربية الحديثة بين النطق الحالي لكثير من الكلمات وصورتها في الرسم. فمعظم وجوه الخلاف ترجع إلى جمود الرسم وتمثيله لصور صوتية قديمة نالها مع الزمن كثير من التغير في ألسنة الناطقين باللغة.
هذا، وللرسم في حياة اللغة ونهضتها آثار تجل عن الحصر، فبفضله تضبط اللغة وتدون آثارها، ويسجل ما يصل إليه الذهن الإنساني، وتنشر المعارف وتنتقل الحقائق في الزمان والمكان. وهو قوام اللغات الفصحى أو لغات الكتابة ودعامة بقائها. وبفضله كذلك أمكننا الوقوف على كثير من اللغات الميتة كالسنسكريتية والمصرية القديمة والإغريقية واللاتينية والقوطية. فلولا ما وصلنا من الآثار المكتوبة بهذه اللغات ما عرفنا منها شيئاً ولضاعت منا مراحل كثيرة من مراحل التطور اللغوي. غير أن عدم مطابقة الرسم للنطق يجعل له بجانب المحاسن السابقة بعض آثار ضارة، فهو يعرض الناس للخطأ في رسم الكلمات، ويجعل تعلم القراءة والكتابة لأهل اللغة أنفسهم من الأمور الشاقة المرهقة، ويطيل مدة الدراسة، فيسبب إسرافاً كبيراً في الوقت والمجهود، وما يلاقيه أهل اللغة من صعوبات بهذا الصدد يلاقي أضعافه الأجانب الراغبون في تعلمها، ومن الواضح أن هذا يعوق انتشارها في خارج، ويضيق سبل الانتفاع بآدابها وعلومها، فيصعب التفاهم بين الشعوب وتضعف بينها حركة التبادل العلمي والثقافي. هذا إلى تمثيل الرسم لصور صوتية قديمة يعمل على رجع اللغة إلى الوراء وردها إلى أشكالها العتيقة. فكثيراً ما يتأثر الفرد في نطقه للكلمة بشكلها الكتابي، فلا يلفظها بالصورة التي انتهى إليه تطورها الصوتي، بل ينطق بها وفق رسمها فتنحرف إلى الوضع الذي كانت عليه في العهود القديمة. وليس الأجانب وحدهم هم المعرضين لهذا الخطر، بل إنه كثيراً ما يصيب أهل اللغة أنفسهم. وإليك مثلاً الحرف المضعف في اللغة الفرنسية في مثل ,. . الخ فقد كان ينطق به وفق رسمه في العصور الأولى لهذه اللغة. ثم انقرضت هذه الطريقة منذ خمسة عشر قرناً تقريباً، وأخذ الفرنسيون ينطقون به مخففاً كما ينطقون بحرف , ولكن منذ عهد قريب أخذت عادة النطق به مشدداً تظهر في ألسنة كثير منهم تحت تأثير صورته الخطية. فمن جراء الرسم نكصت اللغة على عقبيها في هذه الناحية خمسة عشر قرناً إلى الوراء.
ومن أجل ذلك كان العمل على إصلاح الرسم وتضييق مسافة الخلف بينه وبين النطق موضع عناية كثير من الأمم في كثير من العصور. فقد ظهر في هذا السبيل بعض حركات إصلاحية عند اليونان والرومان في العصور السابقة للميلاد. وفي أواخر القرن التاسع عشر عالج الألمان أساليب رسمهم القديم وأصلحوا كثيراً من نواحيه. ومثل هذا حدث منذ عهد قريب في مملكة النرويج ثم في جمهورية البرازيل. وقد بدت بهذا الصدد محاولات إصلاحية كثيرة في البلاد الواطئة (هولندا) وإنجلترا والولايات المتحدة؛ ولكن معظم هذه المحاولات لم يؤد إلى نتائج ذات بال.
وأدخلت الأكاديمية الفرنسية - يشد أزرها ويعاونها طائفة من ساسة فرنسا وعلمائها - إصلاحات كثيرة على الرسم الفرنسي. وقد جانبت في إصلاحاتها هذه مناهج الطفرة، واتبعت سبل التدرج البطيء. فكانت تدخل في كل طبعة جديدة لمعجمها - بجانب التنقيحات اللغوية والعلمية - طائفة من الإصلاحات الإملائية. وقد أقرت في عام 1906 مجموعة هامة من القواعد الجديدة في الرسم الفرنسي. هذا إلى إصلاحات العلامة جريار التي تناولت كثيراً من نواحي الرسم وأقرتها الأكاديمية الفرنسية. وكانت كل مجموعة من هذه الإصلاحات تلقى مقاومة عنيفة من جانب غلاة المحافظين. وعلى الرغم من ذلك فقد عم الأخذ بها، وكان لها أكبر فضل في تيسير الرسم الفرنسي وتضييق مدى الخلاف بينه وبين النطق الحديث.
والرسم العربي نفسه قد تناولته يد الإصلاح أكثر من مرة من قبل الإسلام ومن بعده. ومع ذلك لا يزال عدد كبير من المفكرين في عصرنا الحاضر يأخذون عليه كثراً وجود النقص والإبهام، وينادون بإصلاحه من عدة نواح وخاصة فيما يتعلق برسم الهمزة والألف اللينة، وابتداع طريقة لإحلال علامات ظاهرة ترسم في صلب الكلمة محل الفتحة والكسرة والضمة حتى يتقى اللبس في نطق الكلمات: (عَلِم، عُلِم، عِلْم، عَلَمَ. . . الخ). ولكن الرسم العربي ليس في حاجة إلى كثير من الإصلاح، فهو أكثر أنواع الرسم سهولة ودقة وضبطاً في القواعد ومطابقة للنطق.
هذا، وعلى الرغم من المساوئ السابق ذكرها، فإن لجمود الرسم على حالته القديمة أو ما يقرب منها بعض فوائد جديرة بالتنويه، فهو يوحد شكل الكتابة في مختلف العصور، ويسهل تناقل اللغة، ويمكن الناس في كل عصر من الانتفاع بمؤلفات سلفهم وآثارهم. فلو كان الرسم يتغير تبعاً لتغير أصوات الكلمات لأصبحت كتابة كل جيل غريبة على الأجيال اللاحقة له، ولا احتاج الناس في كل عصر إلى تعلم طرق النطق والإلمام بحالة اللغة في العصور السابقة لهم حتى يستطيعوا الانتفاع بمخلفات آبائهم. هذا إلى أن جمود الرسم على حالته القديمة يفيد الباحث في اللغات أكبر فائدة. فهو يعرض له صورة صحيحة لأصول الكلمات، ويقفه على ما كانت عليه أصواتها في أقدم عصور اللغة فالرسم للألفاظ أشبه شيء في هذه الناحية بالمتحف للآثار.
وقد كان للرسم في اللغات الأوربية فضل كبير في تيسير النطق بكثير من الأسماء المتداولة المركبة من عدة كلمات، فقد جرت العادة أن يكتفي في التعبير عن هذه الأسماء بذكر الحروف الأولى للكلمات التي تتألف منها:
- وشاع هذا الاستعمال في أسماء المخترعات، والشركات، والأحزاب، والفرق الحربية، والنظريات، والشهادات العلمية. . . وما إلى ذلك. وقد أنزلت هذه الرموز منزلة الكلمات، وأخذ الناس يصرفونها وينسبون إليها ويشتقون منها أفعالا وصفات. وللاقتصار عليها وكثرة استخدامها في الحديث والكتابة تنوسي أصلها عند عامة الناس، وأصبح كثير منهم يعتقد أنها كلمات كاملة (النازي، الأنزاك. . . الخ).
وللرسم أثر كبير في تحريف النطق بالكلمات التي يقتبسها الكتاب والصحفيين عن اللغات الأجنبية. وذلك أن اختلاف اللغات في الأصوات وحروف الهجاء والنطق بها وأساليب الرسم، كل ذلك يجعل من المتعذر أن ترسم كلمة أجنبية في صورة تمثل نطقها الصحيح في اللغة التي اقتبست منها. فينشأ من جراء ذلك أن ينطق بها معظم الناس بالشكل الذي يتفق مع رسمها في لغتهم، ويشيع هذا الأسلوب من النطق، فتصبح غريبة كل الغرابة أو بعض الغرابة عن الأصل الذي أخذت عنه. وليس هذا مقصوراً على اللغات المختلفة في حروف هجائها كالعربية واللغات الأوربية، بل يصدق كذلك على اللغات المتفقة في حروف هجائها كالفرنسية والإنجليزية. فجميع الكلمات الإنجليزية التي انتشرت في الفرنسية مثلاً عن طريق رسمها في الصحف والمؤلفات ينطق بها الفرنسيون في صورة لا تتفق مع أصلها الإنجليزي: - ; - ; ; ; ;. حتى أن كثيراً منها لا يكاد يتبينها الإنجليزي إذا سمعها من فرنسي.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون