انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 379/كلمة في القرآن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 379/كلمة في القرآن

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 10 - 1940



(إلى كبار العلماء، ومشيخة القراء، وجماعة الأزهر المعمور)

للأستاذ على الطنطاوي

قال لي صديق عالم في بعض حديث كان بيني وبينه: ما بال أحدنا يأخذ ديوان المتنبي مثلاً، فما يدع منه واحدة حتى يقتلها فهماً، ويحيط بأسرارها علماً، ويغوص على جواهر معانيها، ويتبع خفيف إشاراتها، وبعيد كناياتها، حتى ينتهي إلى مراد الشاعر منها، وقد تنطبع على صفحة قلبه آراء الشاعر فيؤمن بها إيماناً، ويتخذها قدوة وإماماً، وربما يدل ذلك من خلائفه، وعدل من سلائقه، مع أن ديوان المتنبي، وإن علت في الكلام مرتبته، وسمت في البلاغة منزلته، لا يعدو أن يكون كلام مخلوق يخطئ ويصيب، وليس من شأنه أن يكون كتاب هدى ولا إرشاد. . . ثم نتلو القرآن أناء الليل وأطراف النهار، فلا يأمرنا ولا ينهانا، ولا يكون له أثر في حياتنا، وٍالقرآن كلام الله رب العالمين، أنزله رحمة وهدى للناس أجمعين؟

تأملت فوجدت كلامه حقاً، فأطلت التفكير فيه، فرأيت النقص إنما دخل علينا من أنفسنا لا من القرآن، والقرآن لم يزل على ما كان عليه يوم أخرج من الأمة البدوية الجاهلة خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وأعطاها مقاليد الأرض، ففتحت بها ما بين مشرقها والمغرب. . . فما له اليوم وما لنا؟ وكيف غدونا وأمورنا في يد كل واغل علينا، يغلبنا كل مغلب، ويستنسر في أرضنا البغاث، ومن إذا استغاث لا يغاث، وإن أتى في عقر بيته لم يملك دفعاً ولا منعاً؟

النقص منا لا من القرآن، فلو أنّا أخذنا القرآن على وجهه ولم نعدل به عما أنزل له، لم نذل، والقرآن بين أيدينا، وبالقرآن عز من عز من أسلافنا.

نزل القرآن آمراً وناهياً، ومذكراً وواعظاً، وكان للمسلمين دستوراً وقانوناً، فلم نفهم منه إلا أنه كتاب تبرّك، نتخذه تمائم ورقي، أو نتلوه تلاوة تطريب وتلحين، وتطربه وتليين، نؤخذ بحلاوة صوت القاريء، وبراعة إلقائه، وحسن تصرفه في ألحانه، ولا نتنبه الانتباه المطلوب إلى المعاني، ولا نخشع الخشوع اللائق بمن يسمع كلام الخالق، وإن كنتم في شك من الأمر فاسألوا من يفتح (الرادّ) لسمع قراءة الشيخ محمد رفعت، أكان يسمع لو قرأ غيره ممن لم يؤت الجرس الحلو ولا اللحن المطرب؟ واسألوهم ألا تهزم (سحبة) صبا، أو (حطّة) على الرصد، أكثر مما تهزم معاني كلام جبار السماوات والأرضين؟

أما إنه لا جدال في وجوب ترتيل القرآن وتجويده، وضبط مخارجه وأحكامه وأدائه، أما أن يكون القصد من الإصغاء إليه الطرب، والغاية من تلاوته الإطراب، فلا، ثم لا. . . وما مثل من يفعل ذلك إلا مثل ضابط في الجيش بعث إليه القائد برسالة فيها بعض أمره ونهيه، فلا هو ائتمر ولا انتهى ولا فهم معناها ولا حاول، وإنما قبلها ووضعها من التعظيم على جبينه ثم تلاها خمسين مرة، يتغنى بها ويرتلها، ثم جعلها تميمة تعلق على الصدر. . . ولله المثل الأعلى!

وقد حدثني الصديق الفاضل الأستاذ عبد المنعم خلاف أن في مصر قارئاً (سمّاه ونسيته) إذا قرأ أعطى المعاني حقها ففخّم وهوّل عند وصف العذاب، ورقق وجمّل عند ذكر النعيم، وحكى رنة صوت المستفهم والمتعجب عند الاستفهام والمتعجب، فإذا صار إلى آخر الآية ليسمعه الناس فيكون قدوة للقارئين صالحة؟ إن القائمين على أمر الإذاعة يحسنون صنعاً إذا سألوا الأستاذ خلافاً عن اسمه ودعوه. . . وأنا واثق أنهم لن يفعلوا!

هذه هي حال القراء، جعلوا القرآن كالغناء، بل ربما عدوه سلماً إلى الغناء! ألا ترى إلى بعض المطربات المصريات المشهورات، كيف ابتدأن قارئات، فارتقين حتى صرن مغنيات؟ أو لا ترى أن من كتاب الرسالة من ذكر المغنين مرة فعد الشيخ محمد رفعت في أهل الغناء؟

ثم إن القراء خصلة أخرى.

ذلك أن منهم من أولع بالقراءة على السبع، في المساجد والمجامع، يكرر الآية الواحدة على الأوجه المختلفة، فلا يأتي من ذلك إلا فتنة العامة، وتشكيك الجهلاء، وما يخالط القارئ من العجب والزهو، وذلك ما لا يستحبه الشرع. ولقد ثبت في الحديث أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، تسهيلاً على العرب المختلفة لغاتهم، وكانوا يقرؤون عليها جميعاً، حتى إذا كان زمان عثمان رضي الله عنه، وسيطرت لغة قريش أو كادت، وتوحدت اللغات ولم يبق للسبعة الأحرف من فائدة إلا اختلاف الناس، أمر عثمان بالاقتصار على واحد منها ومنع ما عداه، وكتب المصحف الإمام وبعث به إلى الأمصار، واقتصر الناس على الحرف الواحد حتى نشأ النحاة وأهل اللغة والقراء، فوقع بينهم اختلاف يسير في حركة أو إمالة أو مد أو همز فكان من ذلك القراءات السبع، وهي على حرف واحد وليست على الأحرف السبعة كما يظن بعض من لا علم له. . .

فإذا كان عثمان قد أمر بالاقتصار على حرف واحد من الحروف السبعة المنزلة ضماناً للمصلحة، فلم لا نقتصر على قراءة أو قراءتين فقط من القراءات السبع نقرأ بها في المساجد والمجامع، وندع لمن شاء من المتخصصين أن يحفظها ويرويها كلها من غير أن يذيعها على العامة الذين لا يعرفون إلا قراءة حفص في المشرق كله وورش عند المغاربة؟

هذا رأي فيه المصلحة، وهو من روح الشريعة التي تكره الاختلاف والفتنة أرجو من سادتنا العلماء المقلدين المقدسين لكل ما درجوا عليه الثائرين على كل رأي جديد، أن يفكروا ويتثبتوا قبل أن تقوم قيامتهم عليّ!

أما العامة وأشباههم فإن أكبر همهم أن يستكثروا من المتلوّ ولو أهملوا قواعد التجويد، ويتسابقون إلى الختمة، ولو قرؤوا شاردة أذهانهم؛ حتى أن لي عمة عجوزاً تقرأ كل يوم ختمة وتفخر بذلك، مع أن عمر بن الخطاب وهو أعلم من عمتي - ولو لم تقر بذلك - أنفق دهراً في البقرة حتى قرأها فقيه متدبر. . . وسبب هذا التسابق على الاستكثار من المقرؤ اعتقادهم أن للتالي بكل حرف عشر حسنات ولو قرأ قراءة ببغاويه. . .

ولندع هؤلاء ولنعرج على العلماء فنسألهم إذا لم يكونوا ممن يحرم الاجتهاد، ويرى أن الأئمة قد استنبطوا من القرآن كل شيء، ولم يبق إليه حاجة إلا استنباط. . . البركة!

نسألهم: كيف يتدبر القارئ الآيات للتدبر المطلوب، وليس عند المسلمين إلى اليوم تفسير لمعاني القرآن مختصر، حاوٍ لأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وبيان المحكم والمتشابه، خالٍ من فروع النحو والبلاغة ومسائل الفلسفة، مبرأ من الأكاذيب والإسرائيليات وتضارب الروايات في وضوح عبارة وبيان إشارة يفهمه الغبي قبل الذكي، وطالب العلم قبل العالم؟ ومتى يظهر التفسير الذي انتهى إلينا من سنوات عزم إدارة الأزهر على إخراجه للناس، وأنها ألفت له لجنة وسمّت لها رجالاً؛ فما صنع الله بلجنته ورجالها؟

وإذا لم تكن لجنة أفليس في العلماء من يستطيع أن يؤلف هذا التفسير لمعاني القرآن، لا كتفسير الجلالين المخل باختصاره ولا كالنسفي المقصور على النحو، ولا كالكشاف المعنيّ بالبلاغة، ولا كالفخر الرازي المترع بالفلسفة والعلوم والإشكالات والردود، ولا كالخازن الفياض بالإسرائيليات المكذوبة، ولا كالطبري الذي يشتمل على الروايات الكثيرة المختلفة، ولا كتفسير طنطاوي جوهري الذي حشد فيه من قضايا العلم الطبيعي التي لم يكن من أهلها ما لم يدع مكاناً للتفسير، ولا كتفسير المنار المطول الذي يشبه دائرة معارف تحتاج إلى عمر كامل، بل يأخذ من كل مزايه ويجتذب عيوبه، ويضم على ذلك ما لم يكن يدركه المتقدمون.

هذا ولم نزل نسمع بالإعجاز، ونعرف عجز العرب وهم شياطين البلاغة ومردة القول، عن أن يأتوا بمثل سورة من القرآن برغم التحدي الموجع، والاستفزاز البين، وقد قرأنا ما كتب في بيان الإعجاز وأسراره من لدن عبد القاهر والباقلاني إلى الرافعي ولكنا لا نزال نجهل أسرار الإعجاز، ولا نجد في كل ما كتب ما يبرئ من علة، أو يشفي الغلة، على طول البحث، وامتداد الزمان، حتى كدت أقول بالصرفة كما قال المعتزلة، فمتى يؤلف في الإعجاز الكتاب الذي يضع أيدينا على سره حتى تلمسه لمساً؟

إن كتاب الرافعي في حسن عرضه، وبلاغة عبارته، وصفاء ديباجته، يكاد يكون معجزاً لكتاب العصر عن تأليف مثله، ولكن اقرأه، ثم أطبق الدفتين ولخص لي رأيه في الإعجاز، وقل لي ما هي (نظريته) فيه؟ وهل تشبع الباحث، وتروى ظمأ الحيران؟

هذا وإن ما تقدم من تصحيح التلاوة، والتفسير والبحث في الإعجاز، إنما هي مقدمات، وجوهر الموضوع في دعوة العلماء إلى العودة إلى القرآن والسنة، ودرسهما دراسة المجتهد الفقيه المتبصر، واستنباط الأحكام منهما، وتنقية عقائد المسلمين مما يخالفهما، والفتوى بهما لا بالدر وحواشيه، ولا بأقوال أئمة المذاهب، فإنهم على ما بذلوا رحمهم الله وما أحسنوا، إنما راعوا مصلحة الناس في زمانهم، واعتمدوا العرف المعروف في أيامهم، والقرآن لكل زمان ومكان. وليس القصد أن ندع المذاهب جملة، ونأمر الناس جميعاً بالاجتهاد، فهذا ما لا يقوله ذو مسكة من عقل، ولكن القصد النظر في أدلة الأحكام الفقهية، فما كان دليله النص فلا مساغ للكلام فيه، وما بني على العرف يتغير بتغيره، وهذا معنى القاعدة المعروفة: (لا ينكر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان).

فأفهموا الناس أن القرآن لم ينزل ليكون تمائم ورق، ولا ليتخذ منه غناء وطرب، ولكنه (كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتنى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هدى إلى صراط مستقيم.

علي الطنطاوي