انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 379/عراك في معترك. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 379/عراك في معترك. . .

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 10 - 1940



أي معترك!

للأستاذ زكي طليمات

(بقية المنشور في العدد 378)

بعد هذا التمهيد ننزل إلى مناقشة الأستاذ متولي، وإن كنا في غنى عن ذلك.

يدعى الأستاذ، حفظه الله، أن بشر فارس في مقدمة مسرحيته (أراد أن يفسر الفنون الرمزية فطمسها). وحجته في ذلك كما يقول: (أن بشر فارس يحدثنا في مقدمته بالنزوع الصوفي ناسياً الفرق بين الرمزية الصوفية التي تفيض عن المخيلة والشعور، والرمزية الفنية التي تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي، كما يقول (ريبو) في كتابه (المخيلة الخلاقة) وهكذا يقرر متولي أن بشر يخلط بين ألوان الرمزية!

وقد رجعنا إلى هذا الكتاب وتتبعنا ما ذهب إليه متولي فوجدنا - ويا للعجب - أن كلام (ريبو) لا ينطبق على ما عناه متولي بالرمزية الفنية، بل هو كلام ينطبق على الرمزية الصوفية إذا اتجهت نحو ما وراء الطبيعة، والى القارئ نص (ريبو) كما ورد في كتابه المذكور المطبوع في باريس صفحة 196:

, ; ' , '

وترجمة هذا: (إن الرمزية الصوفية في اتجاهها إلى الدين تعتمد على عنصرين أساسيين، هما المخيلة والشعور، فإذا ما اتجهت إلى الفلسفة أو ما وراء الطبيعة، فإنها تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي واهن).

وعليه فالأستاذ متولي هو الذي يخلط خلطاً صريحاً بين (الرمزية الفنية) وبين (رمزية ما وراء الطبيعة)، على ما في كلام (ريبو) من الوضوح!

وقد تحدث (ريبو) عن هذه (الرمزية الفنية) في غير هذا المقام، وذلك عند معالجته الرمزية في الأدب، أو بعبارة أخرى، عند حديثه عن المخيلة الخاصة بطريقة الأدباء الرمزيين في أواخر القرن التاسع عشر، وهي مخيلة تقوم على قوة العاطفة والانفعال.

وثمة تعسف آخر: يقول الأستاذ متولي، مستنداً إلى (ريبو) أيضاً: (إن الرمز في الفن هو أن يفقد بعض الألفاظ استعماله المعقول المعروف ليدل على معنى جديد)، وعلى ذلك فمتولي يخطئ بشر فارس إذ يقول في مقدمة مسرحيته: إن الرمز الذي بنيت عليه المسرحية (بعيد أن يكون لوناً من التشبيه أو الكناية إلى غير ذلك من ضروب المجاز بل هو صورة، أو قل سرب صور ينتزعها المنشئ من المبذول).

ونحن لا نعرف وجهاً لهذه التخطئة إلا أن يكون كلام بشر خارجاً عما يفهمه متولي من الرمزية، ويؤسفنا أن نذكر متولي بحقيقة كان يجب ألا تغيب عن ذهنه، وهي أن بشر فارس حر في أن ينحو النحو الذي يوافق هوى نفسه من ألوان الرمزية المستحدثة، وأن يعرض عن (ريبو). ويؤسفنا أيضاً أن نقول لمتولي، إن الرمز عند (ريبو) - وذلك في حدود الجملة السابقة لا يخرج عن (المجاز)، إذ المجاز عندنا (هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة)، ومن ذلك ما يعرف في باب (الكناية) بالرمز، وهو الكناية التي قلت الوسائط فيها وخفيت.

وغريب ألا يفطن متولي إلى هذا، لا سيما بعد أن نبه بشر فارس إلى ابتعاد طريقته عن مثل هذا الرمز، فأورد في (مقدمته): (إن مسرحيته مجراة على الطريقة الرمزية إذا شئت)، ثم وضع بشر بعد ذلك فصلاً في هذه المجلة شرح فيه لم قال (إذا شئت)، فدلَّ على أن الرمزية التي أنساق إليها وارتاح، هي شيء بين (التأثرية) و (التعبيرية)، وقوامها الحياة الباطنة، واعتمادها الاضطراب الدفين!. . .

من هذه المآخذ المتعسفة في نقد مقدمة المسرحية، انساب الأستاذ بقلمه إلى المسرحية نفسها متسائلاً (ما قيمتها كقطعة رمزية؟) وسرعان ما أفتى بعد ذلك، وبلسان (ريبو)، فقال (إن ريبو فيلسوفنا نفسه يقرر أن الرمزية تستخف بتمثيل العالم الخارجي تمثيلاً صادقاً. . . فإذا الناس والأشياء لا تنطبع بزمان أو مكان. . . وقد تمعن في الإبهام فتقول هو - أو - هي - أو - أحدهم)، فهل هذا مستوفي في مسرحية بشر فارس بعد أن أسمى بطلة مسرحيته (سميرة)، وبعد أن حدد المكان الذي جرت فيه حوادث المسرحية وهو مصر؟

وجوابنا على هذا:

1 - أن (ريبو) قال (وقد تمعن)، و (قد) هنا للتقليل، وكان أن رجعنا بدورنا إلى النص الفرنسي فوجدنا أن (قد) هذه تساوي كلمة أي أن الإمعان في الإيهام ليس أمراً لازماً.

2 - لو أحسن الأستاذ متولي استيعاب التبيين الذي عمله بشر عن شخوص مسرحيته في النسخة المطبوعة لأحجم عن هذا المأخذ؛ فقد جاء في ذلك التبيين أن (هو) - أي بطل المسرحية - عنوان الإنسان العادي المنشأ في حلقة المواضعات الاجتماعية) أما (سميرة)، فقد بيّن المؤلف في نفس التبيين أنها امرأة معينة، فمن المعقول أن يكون البطل (هو) لأنه عنوان لفئة غالبة من الرجال في مصر، وأن تكون (سميرة) - سميرة - لا (هي)، لأنها ليست عنواناً لفئة خاصة.

3 - أن الأستاذ متولي أشكل عليه المر بين لون الرمزية عند (ريبو) وبين لونها عند بشر فارس، وأنه يعتبر رمزية (ريبو) هي ما انتهت إليه الرمزية المستحدثة، والأمر غير ذلك، فإن (ريبو) لم يفرض لونه في الرمزية إلا على بعض الكتاب الرمزيين في أواخر القرن الماضي، وفي مقدمتهم المؤلف المسرحي (ماتيرنيك) الذي وضع أكثر رواياته قبل عام 1900، فهل يريد الأستاذ متولي، وقد قطعت الرمزية مراحل بعد (ريبو) ألا يؤلف المعاصرون الذين يعيشون في عام 1940 إلا بحسب نظرية عمرها نصف قرن تقريباً؟

بعد هذا نقول إنه ليس للأستاذ متولي أن يفرض على مؤلف معاصر وضع مسرحية رمزية وفاقاً لمحرجات نظرية فلسفية سجلت عام 1900، وهو العهد الذي كان الأدب الرمزي فيه لم يتخط طوره الأول. وإنه لا يجمل بالأستاذ متولي - وهو ماجستير في الفلسفة - أن يقف علمه بالرمزية وعلم النفس عندما كتبه العلماء في القرن الماضي، فالعلم يتقدم، والنظريات تتحور، وإلا فما قيمه ما كتبه (بيرجسون) و (وليم جيمس)، وهما العلمان البارزان في عالم الفلسفة المعاصرة، وما نفع مسايرة الأدب للعلم في تقدمه وفي مستحدثاته؟

زكي طليمات