مجلة الرسالة/العدد 378/أوليفر جوزيف لودج
مجلة الرسالة/العدد 378/أوليفر جوزيف لودج
يونيو سنة 1851 - أغسطس سنة 1940
للدكتور أحمد موسى
ليس بين المثقفين من لا يعتبر أوليفر لودج من أئمة علماء العصر، كما لا يوجد من بين هؤلاء من لم يقرأ شيئاً له أو عنه. وإذا أراد أحد المؤرخين أن يسجل في قائمة أعظم عظماء التاريخ من الناحية العلمية، فإنه يضع اسم أوليفر لودج بين هذه الأسماء إن لم يضعه في مقدمتهم.
أنظر إلى حقل من الحقول وسر بنظرك إلى شجيراته التي غرست في وقت واحد وتعهدها الفلاح بالري في فترة واحدة، تر من بينها شجيرة تبز غيرها وترتفع عنها، مع أن البذور واحدة والعوامل الباقية مشتركة. وكذلك كان الحال منذ بدأ القرن العشرون، فظهر في الأفق العلمي كثيرون كان من أبرزهم أوليفر لودج الذي حلق في سماء الفكر تحليقاً عجيباً ووصل إلى نتائج من أبهر وأسمى ما يمكن الوصول إليه.
لم يكن أوليفر لودج موسيقياً، ولكنه كان يستمع إلى موسيقى الخلود؛ فيتخذ من هرمونيتها قواعد وأصولاً يجعلها أساس بحوثه في اللانهاية وفي علاقة الشموس والسيارات والكواكب بعضها ببعض، وكما يحافظ الموسيقي العبقري من أمثال بيتهوفن وفاجنر على الانسجام والاتزان والارتباط الفائق في مقطوعاته، كان أوليفر لودج يتخذ القاعدة البسيطة إلى المبادئ المركبة، وينتهي بالنتائج المحدودة إلى ما هو غير محدود.
وإذا كان العلم رهيناً بالبيئة والاستعداد المولود مع الموهوبين فإن المصادفة قد لعبت دوراً هاماً في توجيه أوليفر لودج إلى العلم.
كان الفضل في توجيهه لمجلة قديمة اسمها: (الميكانيكي القديم) تناولها صدفة فأثارت كامن استعداده، ولم يكن فقر أبيه ليحول بينه وبين العلم؛ فدرس وحفظ وأتقن وتفنن وتعلم وعلم من أجل الاستمرار في الدرس.
ولد أوليفر لودج يوم 12 يونيو سنة 1851 في بيكنهال بمقاطعة ستافورد بإنجلترا من أبوين متوسطي الحال، وكان أبوه مشتغلاً بصناعة الخزف، وقد تعلم الابن في المدرسة الابتدائية في بيوبورت إلى أن بلغ الرابعة عشرة، واستمر مع أبيه سبع سنوات جمع خلالها بين العلم والعمل، بحيث لم يكن اتجاهه العلمي متصلاً أقل صلة بحرفته التي كلفه بها واختاره أبوه، وقد صادف يوماً تلك المجلة التي سبقت الإشارة إليها؛ فانكب على الدرس والبحث والاستقصاء، فما كان من أبيه إلا أن أرسله إلى لندن ليستمع إلى ما يروقه من المحاضرات.
رأى الفتى أنه لا بد له من الدراسة الجامعية المنظمة، ولابد له من مال ينفقه في هذه السبيل؛ فاستعان بإعطاء الدروس الخصوصية للحصول على النفقات الضرورية، وأمكنه بعد الجهد أن يحصل على أسمى شهادة تمنحها جامعة لندن وهي إجازة الدكتوراه بعد خمس سنوات قضاها في الدرس المرهق.
وعين في سنة 1879 مساعداً للرياضة التطبيقية بجامعة لندن، وانتخب عضواً في الجمعية الملوكية سنة 1887، وانتقل أستاذاً للعلوم الطبيعية في جامعة ليفربول سنة 1881 وظل فيها إلى سنة 1900 حيث انتقل عميداً لجامعة برمنجهام.
ومنحه الملك إدوارد السابع لقب فارس سنة 1902 وحصل على لقب (سير) فيما بعد.
ومن أوائل مؤلفاته (نظرات جديدة في الكهربائية) وهو المؤلف الذي ترجمه إلى الألمانية العلامة هلمهولتس سنة 1896 وله كتاب ألفه سنة 1908 أسماه (الحياة والمادة) تناول فيه بالنقد آراء الفيلسوف الألماني هيكل صاحب كتاب (لغز الكون).
وألف بعد ذلك الكثير من الكتب، وله مقالات ومحاضرات لا يتناولها الحصر، منها ما ألقاه في الجامعات ومنها ما ألقاه في مجمع تقدم العلوم البريطاني. أما مقالاته فقد نشرت عنها نبذة جيدة في مجلة الطبيعة ومجلة الاكتشافات وغيرهما من المجلات الأمريكية والألمانية والفرنسية والإيطالية.
أما الجرائد اليومية التي نشرت له، فأهمها التيمس التي بدأت منذ فجر القرن العشرين تنشر مقالاته وخلاصة محاضراته عن: (الكهرباء) و (الأتوم) و (المغناطيسية) و (المادة والروح) وغير ذلك.
ولم يقف نشاطه عند حد التدريس والتأليف، بل تعداه إلى الاشتغال العملي كمستشار لإحدى الشركات الكهربائية الكبرى؛ فقام لديها بتطبيق أبحاثه النظرية في الوقت الذي فيه استفادت الشركة فائدة عظمى.
وقد ظل عميداً لجامعة برمنجهام حتى سنة 1919، أي أنه ظل في هذا المنصب عشرين عاماً لا يتوانى عن العمل والإنتاج والسعي وراء ما هو جديد في العلم.
وقد انتخب رئيساً لمجمع تقدم العلوم البريطاني سنة 1933، ورئيساً للجمعية الطبيعية وجمعية الأبحاث النفسية وجمعية الأشعة المجهولة.
بهذا الوضع ترى أن لودج جمع بين العلم التجريبي والفلسفة، وكان وسيطه الأثير، وظل يتفلسف حتى حلق بفكره الصافي وخياله السامي إلى عالم الروح!
ما هو الفضاء؟ وما حدوده؟ وماذا يشغله؟ وما هذه الكواكب المنثورة في رحابه؟ وما الذي يربط بينها؟ وما هي المادة، ومم تتكون؟ وماذا يربط بين الذرات؟
صراع عنيف هذا الذي بين العالِم وبين ظواهر الكون! شجار هائل بين العقل البشري وظاهرة اللانهاية. ينظر العالِم البصير إلى الوجود نظرة المتأمل؛ فيرتد منه البصر خاسئاً وهو حسير! لقد قال (كانت) في كتابه (نقد العقل الخالص): إن العقل البشري محدود لا يستطيع اختراق الآفاق للوصول إلى ما يشفي غلته، وهذه حكمة الخالق!
ولعل ما وصل إليه أوليفر لودج كان من نوع الانبثاقات المشابهة لتلك التي فاز بها أينشتاين دون مقارنة. ومهما يكن من شيء فإن العقل الخصب لا يقف في البحث عند حد؛ لذلك ترى لون التفكير الحديث عند لودج بمعناه الكامل.
يتجه التفكير الحديث إلى تحقيق تأليف كل مادة من جزيئات منفصلة هي ذرات العناصر المركبة من كهارب وبروتونات وهذه هي الشحنات الكهربائية الدقيقة إلى أقصى ما يمكن للعقل أن يتصوره.
أخذ هذا المبدع في التفكير على هذا النمط، واتخذ من البسيط قاعدة للمركب، واستطاع إدراك الموسيقى الكونية المعبرة عن الكمال المطلق في الهارموني الأزلية الأبدية!
كان لودج مؤمناً وكان ينبذ مذهب المادية كنتيجة لإيمانه. فتراه يقول: إن العالم لا يمكن أن يكون مادة خالصة، فهناك رابط وضابط يربط بين الكائنات ويضبط علاقاتها، وليس هو بالذات مادياً.
وما هو الأثير يا ترى؟ أهو مادة ترى أم تلمس؟ يقول لودج في تعريف صفاته: إنه لا يرى ولا يلمس ولا يسمع ولا يشم! بل هو ناقل الضوء وهو الرابط بين جزئيات المادة، كما أنه الوسيط لنقل الأشعة الكونية إلى الأشعة اللاسلكية، والأشعة الكونية تبلغ حداً قصيراً جداً بينما اللاسلكية قد تصل موجتها إلى اثني عشر ميلاً أو أزيد.
أما جولاته وصولاته في عالم الروح فهي مشهورة وعظيمة فاعتقاده في بقاء الروح بعد الموت نتيجة لتجاربه التي يقرر في إحداها أنه استطاع التحدث إلى ابنه المتوفى، ويعلل ذلك بقوله: إن الحياة والعقل يبدوان في مجال لا يشترط أن يكون مادياً دائماً، وعلى ذلك فبقاؤهما بعد انحلال الجسم المادي محتمل.
ولم يصل لودج إلى التحقيق العلمي في هذا الشأن، ولذلك فتعاليمه الروحية مثار كثير من الجدل، ولكن هذا لا يمنع من اعتباره واضع النواة لاتجاه لا يبعد أن يميط البحث عنه لثام الغموض، لا سيما وأن الكثير من المبادئ العلمية كانت في أول أمرها مثار الشكوك ثم ثبت صدقها ونفعها فيما بعد.
تذكر (لامارك) واذكر أبحاثه التي ظلت أعواماً طويلة في عالم النسيان بعد طول الجدل والمناقشة، وبعد أن كانت مثار الحقد والكراهية له من معاصريه العاملين معه في معهد واحد، وتذكر ما قاله (دارون) عن هذه الأبحاث تر أنه لا يبعد أن يجود الزمان بمن يواصل البحث في عالم الروح على ضوء ما تركه لودج من تراث عظيم في هذا المجال.
جمع لودج بين عالم الروح وعالم المادة، وله أبحاث هامة عظيمة قد أيدت، وأبرزها النتائج التي وصل إليها في ظواهر البرق والصواعق، والمسلك الذي سلكه للوقاية منها.
وله فضل عظيم على نظريات اللاسلكي والأمواج القصيرة والطويلة، فلا غرابة إذا اعتبره البعض إمام الابتكارات اللاسلكية الحديثة قبل ماركوني.
لقد وهب الله هذا الرجل صدق النظر وعلو الهمة والرغبة في العلم والإنتاج، كما منحه إلى جانب ذلك عمراً مديداً، فهو في هذا كله قد وفق تمام التوفيق وأدى رسالته على أحسن وجه.
فإذا سجلنا اليوم بعض مآثره وتناولنا حياته ببيان قصير، فإن هذا إلى جانب مكانته لا يعد شيئاً مذكوراً.
ولعلنا نعود إلى أبحاثه الروحية في وقت أكثر رحابة وأوسع مجالاً من هذا الذي اكفهر فيه الجو وخيم الظلام على عقول الناس؟
أحمد موسى