انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 376/رسالة الشعر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 376/رسالة الشعر

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 09 - 1940



من أدب الحرب

محنة فرنسا

للأستاذ محمود غنيم

رحماكَ ربِّ إلام تصلى نارَها؟ ... فنَى العباد ولم تضع أوزارَها

غابت ملائكة السلام وأصبحت ... تذرو أبالسة الجحيم غبارها

قبضت على سكانها يدُ مارد ... جعل الصبيب من الدماء بحارها

رقطاء حول الكون لفَّتْ جسمَها ... فقضت عليه وما قضت أوطارها

في كل وادٍ ثورة مشبوبة ... لا يطفئ البحرُ الخضم شرارها

حتى كأن الأرض من إعيائها ... سكنت وأخطأت النجوم مدارها

كتب الفناء على البرية ويحهم ... ما بالهم يستعجلون دمارها؟

زمر من الأسماك ناطقة إذا ... ما جاعت ازدرد الكبار صغارها

حرب رأيت الجوع بعض سهامها ... فرضت على المتراشقين حصارها

غدت الجبال الشامخات سفينها ... والزاحفات من الحديد مهارها

الزيت والبترول من آلاتها ... والعلم ينفخ إن خبت أكوارها

قد سيَّرت فوق الثرى دبَّابها ... وإلى الكواكب صعَّدت طيارها

ملأت قذائفها المحيط فعكرت ... زبد البحار وكدرت أغوارها

يا بحر ما فعلت مياهك ويحها ... برفات قوم يسكنون قرارها؟

كم لابن آدم في المحيط عجائبا ... قلَّتْ عجائبه الكثيرة جارها

ضجت بنات الماء منه وأوشكت ... تجفو الطيور لأجله أوكارها

يا رُبَّ شعب في حماه وادعٍ ... جرفته لجتها فخاض غمارها

ومحاربين لغيرهم أسلابها ... لكنهم يتحملون خسارها

وذوى عروش طوحت بعروشهم ... وتخطفت من حولها أمصارها

تتطاير التيجان عن أربابها ... كالقِدر ترسل في الفضاء بخاره عبر على مر القرون تشابهت ... حتى أجاد العالم استظهارها

ورواية من عهد ذي القرنين ما ... برح الزمان مردِّداً أدوارها

أو كلما كادت تتم فصولها ... منيت بشيطان يزيح ستارها؟

سائل ضفاف السين كيف استهدفت ... للغزو واقتحم العدا أسوارها؟

خط حسبنا الجن لو طافت به ... ولت أمام حصونه أدبارها

أتُرى فرنسا أطبقت أجفانها ... من خلفه وتجاهلت أخطارها؟

هيهات لا الحصن المنيع أقالها ... كلا ولا الأدب الرفيع أجارها

لا تعدم المرآة كسر زجاجها ... يوماً وإن كان الحديد إطارها

إن المعاقل لا تحصن أهلها ... ما لم تحاكِ طباعُهم أحجارها

قالوا: مهادنة. فقلنا: حبذا ... لو أن هدنتها تقيل عثارها

هيهات ما أرضت بذاك خصومها ... كلا ولا استبقت به أنصارها

ماذا تقول إذا الجدود تعثرت ... وإذا المشيئة أنفذت أقدارها؟

وإذا قضاء الله أحدق بالشرى ... لم تلق آساد الشرى أظفارها

كالوا الملام لها فقلت: تريثوا ... يا قوم والتمسوا لها أعذارها

أو ما كفاها أنها ما سلمت ... حتى روت بدمائها أنهارها؟

إن قيل عار أن تسلم أمة ... نهض الدم المسفوح يغسل عارها

إني لأشفق أن يكون مصيرها ... أزرى بجوهرها وشاب نضارها

ومحا محاسنها فعدن مساوئاً ... وأحال لؤلؤها فصار محارها

من يكبُ لم تعذِره عثرتُه ومن ... ينهضْ تقلدْه الأعادي غارها

والنفس تُعجب بالقوي وإن يكن ... جلادَ تلك النفس أو جزارها

أسألت باريس الجريحةَ ما لها؟ ... سل أهلها هل قوموا منهارها؟

سلها بربك كيف ذل عزيزها ... وتحملت أسد العرين إسارها؟

كيف الغواني والمغاني بعد ما ... طمس المغير بجيشه آثارها؟

بالله هل عاث العدو بأرضها ... وهل استرقَّ ببأسه أحرارها؟

ماذا أصاب مدينة الأزياء هل ... أبلى القتال المستحرُّ إزارها؟ هل أظلمت آرادُها ولطالما ... حسد النهار وشمسه أسحارها؟

وهل المخابئ أصبحت مأوى لمن ... كانت مقاصير المسارح دارها؟

راعت أراملها الحروبُ وخلفت ... في حسرة لا تنقضي أبكارَها

من كل نافرة يدق فؤادها ... لم يتقر الظبي الغرير نفارها

نفرت من الحرب الضروس وربما ... كان النفار من الدلال شعارها

ما للتي ألف المزاهر سمعها ... وزئير آلات الوغى وخُوارها؟

حملت هموم الحرب في باريس مَن ... كانت يداها تشكوان سُوارها

كم غبَّرت بدخانها وجهاً إذا ... بصرت به شمس السماء أغارها

سائل عن القبلات أهليها أما ... زالت تحس شفاههم تيارها؟

كيف القلوب الخافقات صبابة ... تفشي مواعيد الدجى أسرارها؟

شهدت خمائلُها مواقع الهوى ... ما حركت من خيفة أطيارها

شتان بين مواقعٍ ومواقعٍ ... كلتاهما تشكو الضلوعُ أوارها

ما كنت يا باريس إلا روضة ... منيت بسائمة رعت أزهارها

أصمى الحضارةَ من رماك فإنما ... قد كان شعبك للبلاد أعارها

وجنت يداه على علوم طالما ... أجريتِ شرعتها وشدتِ جدارها

ما ضرني إن لم أزرها طالباً ... وقد اقتبست ممن زارها؟

باريس أين دمشق أم بغداد هل ... قصَّت عليك رواتها أخبارها؟

المدن مثل الناس في آجالها ... تفنى البلاد إذا قضت أعمارها

محمود غنيم

مدرس بمدرسة فؤاد الأول الثانوية