مجلة الرسالة/العدد 374/القصص
مجلة الرسالة/العدد 374/القصص
هَّمام
للأستاذ محمد سعيد العريان
(أشكر للآنسة الأدبية (قدرية ف) رأيها في قصة (البعث)
المشورة بالعدد 362 من الرسالة، وأرجو ألا يقع في وهمها
أنني أصف بها أحداً بذاته من أدبائنا، وإن كان موضوعها
يتصل بحياة كثير من أدباء العربية يعرفهم القراء بآثارهم
ويجهلون كثيراً من شئون حياتهم)
عندما يهم قطار الصعيد أن يجتاز النيل من شاطئ إلى شاطئ عند قناطر نجع حمادى في طريقه إلى القاهرة - يرى الراكب عن يمينه قرية صغيرة يطيف بها الجبل الشرقي من ثلاث جهات ثم ينفرج عن سكة متعرجة تصل بين القرية والنهر، وتقوم على جوانبها باسقات النخل حداً فاصلاً بينها وبين الصحراء الشاسعة الممتدة بين النيل والبحر الأحمر
في هذه القرية كان يعيش (هَّمام) يكدح لنفسه ولزوجه عاملاً في مزرعة العمدة، كما يعيش عشرات مثله قانعين من العيش بالكفاف، راضين من متاع الحياة بنعمة الحياة نفسها!
ولكن هَّمام لم يكن من القناعة بحيث يرضى من الحياة بما يرضى سواد الفلاحين الذين يعملون معه أُجراء في مزرعة العمدة؛ فقد كانت له نفس طلعة تتسامى بها أماني جسام؛ وكان من المنزلة عند سيده بحيث يتهيأ له أن يكون أقرب إليه؛ فرأى ألواناً من العيش وفنوناً من اللذة خيلت له ما خيلت من الأوهام وأنشأت في نفسه ما أنشأت من المنى
ولم يكن قد مضى على زواجه (بمسعدة) غير بضعة أشهر حين جلس إليها ذات مساء يحدثها وتستمع إليه:
(مسعدة!. . . وسيكون لنا دار ونخيل، ومزرعة على الساحل إلى جانب مزرعة العمدة، وسأكون وتكونين. . .!)
واستمعت إليه زوجته فرحانة، وحلقت بجناحيه في وادي المنى، وراحت تعد له عدة الرحيل إلى القاهرة حيث يهاجر ليلتمس الغنى ثم يعود. . .
وخرج همام من القرية يحمل على كتفه خُرجاً فيه زاده ومتاعه حتى بلغ شاطئ النهر، وخلف زوجته في القرية تنتظر
وكان ثمة رمث من جرارٍ مشدودة عنقاً إلى عنق يتأهب لرحلة نهرية إلى القاهرة، فوضع همام متاعه عن كاهله وأتخذه مركباً إلى حيث ينشد أمانيه
وأرسى المركب بعد أيام على ساحل (الفسطاط)، فنزل هما يضرب في شوارع القاهرة ومتاعه على ظهره، حتى انتهى إلى مستقره في غرفة في دار في حي (بولاق) يساكنه فيها بضعة نفر قدموا لمثل غايته من بلاد متفرقة في الصعيد الأعلى فألفت بينهم الغربة وجمعتهم وحدة الأمل. ومضى يلتمس الرزق بساعدٍ قوي وعزم صليب، فلم يلبث أن انضم إلى جماعة من الفعلة في أعمال البناء، يمضي شطر نهاره يحمل مكتل الآجر صاعداً هابطاً على خشب مشدود من أسفل البناء إلى أعلاه ومن أعلاه إلى أسفله، ينضح العرق جبينه ولسانه لا يفتر عن الغناء، يصف أشجان الحبيب النازح إلى أمل يرجوه ومن خلفه حبيب ينتظر؛ فإذا حميت الظهيرة فاء إلى ظل جدار قائم يتناول طعامه لقمة من خبز قديد وملح جريش وماء؛ ثم يستأنف عمله. . .
لم يكن العمل الذي يزاوله همام مما ألِفَ حين كان يعيش بين أهله في القرية المطمئنة في أحضان الجبل الشرقي، ولكنه كان أحب إليه لأنه كان أكثر جدوى عليه. واستطاع أن يجمع من فضل أجرته بعد شهرين جنيهاً وبعض جنيه، أرسل منه ما أرسل إلى زوجته وادخر الباقي لنفسه، ودأب على ذلك من بعد؛ فكان لزوجته من فضل أجرته كل شهر نصيب معلوم، ولصندوق الادخار ما بقى. . . ولما جاءه النبأ أن زوجته قد وضعت، أرسل إليها بهدية وعلاوة تشتري بها كسوة للصبي، ولكنه لم يغفل أن يضع في صندوق الادخار ما يضع كل شهر، رجاء أن يكون له يوماً دار ونخيل، ومزرعة على الساحل إلى جانب مزرعة العمدة، هناك، حيث تنتظر زوجته وأم ولده. . .!
لقد مضى عام منذ هجر همام القرية يسعى إلى الغنى، وأنه هنا وزوجته هناك، وولده؛ أما هو فكان له شأن يشغله عن الفكر والحنين، وأما هي فكان لها أمل تأمله في يوم قريب - يربط على قلبها ويزيل وحشتها، وأما الصبي. . . وماذا يدري الصبي بعد؟ وتتابعت الأعوام وشب الغلام، لم ير أباه ولم يره أبوه؛ وماذا يهم الفتى من ذلك وليس بدعاً هناك، وفي كل قرية من قرى الصعيد العشرات من مثل همام نزحوا عن أهلهم وولدانهم يلتمسون مثل ما يسعى له، لا يتواعدون على لقاء ولا يتراءون منذ الشباب إلا على هرم. . .! ومضت بضع سنسن، قبل أن يفكر همام في زيارة زوجته وولده؛ وراحت (مسعدة) تستقبله على شط النيل حيث ترسى به السفينة؛ وقال الفتى لأمه وهو يشير إلى رجال على ظهر المركب: أيهم هو؟ ونظر همام إلى غلمان وقوف على الشاطئ وقال لنفسه: أيهم هو؟. . . ثم التقيا فتعارفا وحن الدم إلى الدم. . .
. . . وعاد الزوجان إلى حديثهما، وعاد همام يقول: (بلى، وسيكون لنا دار ونخيل. . . وسيكون. . .) وهمت المرأة أن تقول شيئاً ثم سكتت، ورفعت إليه عينين فيهما ظمأ وشوق، وفيهما إعجاب وزهو، وأنستها حلاوة اللقاء مرارة الفراق، وعادت الأماني تخيل لها، وحلقت بجناحيه في واديه، وقالت لنفسها هامسة: (سيكون لنا دار ونخيل ومزرعة، وسيكون وأكون. . .) ثم فاءت تنظر إليه وفي عينيها لهفة وحنين!
. . . وقضى همام في القرية أياماً، ثم استأنف رحلته يسعى إلى أمله، وخلفها وخلف ولدين: أما أحدهما فغلام لم يكد يرى أباه حتى فقده، وأما الثاني فإنه لم يره قط، لأنه لا يزال بينه وبين الحياة تسعة أشهر. . .!
لم يكن عبثاً ما تحمل همام من مشقة البعد سنين وما لقي من جهد الحياة؛ فلم يكد يمضي عليه في القاهرة بضع عشرة سنة حتى تغير من حال إلى حال؛ فلم يعد العامل الذي يمضي بياض نهاره حاملاً مكتل الآجر، صاعداً هابطاً على خشب مشدود بين السماء والأرض، ليس له إلا وجبة واحدة من طعام؛ إنه اليوم رجل غير من كان؛ لقد عاد ذلك الثوب الخلق جديداً على جسد ناعم، وعاد البطن الخاوي شبعان ريان من طيب الطعام والشراب، وعادت الغرفة المشتركة بين بضعة نفر يفترشون الأرض شقة ذات أثاث ورياش؛ وعاد الأجير الفقير سيِّداً يجري النفقة على أجرائه وخوله؛ وتلاحقت دراهمه فنتجت وأصبح ذا مال!
وتصرمت بضع سنين لم تره زوجته ولم يرها، أما هي فعاشت هناك صابرة قانعة بما يرسل إليها كل شهر من نفقة، تمسي وتصبح حالمة بالدار النخيل والمزرعة، ويوم تكون ويكون؛ وأما هو، فتبدلت حياته بما تبدل من حال إلى حال، وأجدت له النعماء أماني فأنسته أماني، وعاش لنفسه وماله!
وشب الغلام وأخضر شاربه، ونهدت البنت وكعب ثدياها، وشابت الأم وتخدد لحمها، وما زال شاب قلبها يجد لها أملاً بعد أمل، وينشئ لها في كل مشرق شمس ومغربها حنيناً ولهفة؛ والرجل هناك يبيع ويشتري ويتعوض ويراوح بين جنبيه من فراش إلى فراش!
وفجأةً أظلمت القاهرة بعد نور، وهمدت بعد نشاط، وسكنت بعد حركة، ونعب النذير يوقظ النائم ويحرك الساكن ويبدد الشمل المجتمع ليجمع الشمل المتفرق؛ وكسدت سوق همام بعد نفاق، فأزمع الغريب الإياب!
لم يعد همام في هذه المرة إلى القرية على رمث في البحر تدفعه الريح، ولم يكن على كتفه خرج فيه زاده ومتاعه، ولم تكن رحلته طويلة موحشة تقاس بالليالي والأيام؛ ولكنه عاد في القطار السريع يؤنسه أنيس غير مملول؛ في يمناه حقيبة سفره وفي يسراه زوجته الحضرية المصقولة! وكانت (مسعدة) وولداها ينتظرونه لميعاده،. . . ونظرت امرأة إلى امرأة ثم أغضتا؛ أما واحدة فصبرت وشكرت؛ لقد سلخت شبابها متزوجة ولا زوج لها، فإنها لنعمة أن تظفر اليوم بنصف زوج!. . . وأما الأخرى فخنقت وسخطت؛ لقد كان لها زوج يؤثرها ففقدت نصفه!
وأغلق الباب على رجل وامرأتين؛ وعرفت كل واحدة منهما مكانها من صاحبتها ومن صاحبها؛ أما مسعدة فراحت تتجه إلى صاحبتها وتتعبد لها لتنال رضاها ورضا همام، وأما صاحبتها فراحت تشمخ وتتأمر لتتسلط وتحظى؛ واقتسمت المرأتان الدار فواحدة لها الفراش وواحدة للمهنة والعمل؛ وقالت المرآة لكل منهما: لقد عرفت مكانك؟. . . ولكن أحظاهما كانت اسخط لحظها وأشقى؛ لأنها لم تألف الحياة في القرية ولم ترض الشركة في رجل. . .
وأصبح همام ذات صباح فإذا امرأة واحدة في الدار وقد فرت الأخرى. . . وثارت نخوة الرجل وغضب لعرضه غضبة أهله، فأزمع أمراً؛ وغضب الولد لأبيه وأقسم ليغسلن العار بالدم
. . . وعاد (حمدان) بن همام من القاهرة بعد أيام وسكينة يقطر دماً. . . وأستقبله أبوه مزهوا فخوراً فضمه إليه وقبل جبينه، واستقبلته أمه وأخته. . .
وجلست الأسرة الأربعة مجلسهم لأول مرة، مجلساً لم يجمعهم مثله منذ كانوا على صفاء ومودة، وقالت مسعدة: (همام!)
وكان في عينيها عتاب وفيهما رضاً واطمئنان
وقال همام: (مسعدة! معذرة إليك؛ إنك أنت وحدك. . . وكانت غلطة. . .!)
وابتسمت مسعدة وعاد الشباب يتألق في جبينها بشراً ومسرة، وانبعثت الأماني تحدثها حديثها، وحلقت بجناحين في وادي المنى، وقالت: (. . . ويكون لنا دار ونخيل، ومزرعة!)
وافترت شفتاه وقال: (ذلك أولى لك يا مسعدة وأنت له أهل؛ وهذا المال. . .)
ودق الباب وانقطع الحديث، ودخل الداخل ثم خرج، وخرج وراءه همام وزوجته وأبنته يشيعون حمدان وفي يديه الحديد مسوقاً إلى السجن!
لم يشتر همام داراً ولا نخيلاً، ولا مزرعة على الساحل؛ ولم يبق له من ماله باق، وأنفق ذخيرة العمر ليفتدي ولده من زلة ساعة فلم يُجد عليه!
وعاد همام كما بدا، أجيراً يكدح لنفسه وزوجته وأبنته عاملاً في مزرعة العمدة، قانعاً من العيش بالكفاف، راضياً من متاع الحياة بنعمة الحياة نفسها. . .
وخرج حمدان من السجن بعد عشر سنين لتستقبله أمه الأيم العجوز وحيدة فتصحبه إلى قبر أبيه يترحم عليه، أبوه الذي لم يره إلا مرةً ثم مضى كل منهما لوجهه، كما يلتقي اثنان اتفاقاً في طريق ثم يتدابران فلا لقاء!
محمد سعيد العريان