انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 372/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 372/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 08 - 1940


للدكتور زكي مبارك

الأستاذ سلامة موسى يتجنى على الأدب العربي - من واجب كل مصري أن يعطف على العروبة والإسلام لأنهما سناد مصر في الشرق - أدوات مدرسية - السوريون في مكاره الاغتراب - الخوف أنفع من الأمان.

درس ينفع

يظهر أن فصل الصيف تعوَّد الجدل والعناد؛ ففي الصيف الماضي كانت جناية الأستاذ أحمد أمين على الأدب العربي، وقد وأدنا تلك الجناية وهي في المهد. وفي هذا الصيف يتجنى الأستاذ سلامة موسى على الأدب العربي، فهل يكون من الواجب أن نوجه إليه التفاتة ترده إلى الصواب؟

ونذكر أولاً أن الأستاذ سلامة موسى صديق عزيز، وأنا لا أتخلى عن أصدقائي، ولا أذكرهم بغير الجميل.

ونذكر ثانياً أن هذه شنشنة نعرفها من أخزم، فقد وقعت بيني وبين الأستاذ سلامة موسى مناوشات كثيرة على صفحات البلاغ يوم كنا زميلين نتحارب بالأقلام ونتصافح بالقلوب.

والحق أن الأستاذ سلامة موسى له على أهل الأدب حقوق، فهو رجلٌ بنَّاء، وإن غلبت عليه الشهرة بحب الهدم، وقد يكون أقدر أدباء اليوم على مسايرة ما يجدّ من التطورات في الأدب الحديث، فهو لذلك صديقٌ روحيٌّ لأكثر أدباء هذا الجيل.

ثم أدخل في صميم الموضوع فأقول:

تحدث الأستاذ سلامة موسى في مقال نشره بجملة اللطائف عن الجهود الأدبية لجماعة من أدباء مصر هم: طه حسين والعقاد والزيات وزكي مبارك.

وهو يرى أن هؤلاء الأباء (لهم هموم ثقافية لا يمكن أن تحرك قراءنا وتحيلهم إلى مكافحين يجاهدون أو يجتهدون لخدمة الأمة، لأنهم في حقيقتهم وشعورهم متفرجون مستمتعون لأنهم يعالجون العاديّات العربية التي تدرس للذة والاستمتاع وليس للمغزى والكفاح)

ذلك كلام الأستاذ سلامة موسى، وهو كلامٌ برَّاق يُزيغ بصائر القارئين، فمن الواجب أن تنقضه من الأساس قبل أن يفعل فعله في القلوب والعقول.

وماذا يريد هذا الصديق أن يقول؟ إن كان يريد القول بأننا لم نلتفت إلى ما في عصرنا من ثقافات ومعارف وفنون فقد أخطأ كل الخطأ، وانحرف عن الصواب أشد الانحراف.

فالدكتور طه حسين الذي شغل نفسه بدرس عصر النبوة والعصر الأموي والعصر العباسي وتحدث عن المعري والمتنبي هو ذاته طه حسين الذي شغل نفسه بدرس طوائف من الآثار الجميلة للأدب الفرنسي الحديث، وهو ذاته طه حسين الذي التفت إلى مستقبل الثقافة في مصر فنشر عنها كتاباً في جزأين، فمن التجني أن يقال إن مثل هذا الرجل لا يعرف غير الهيام بأودية العصور الخوالي.

والأستاذ عباس محمود العقاد الذي شغل نفسه بدرس أشعار ابن الرومي، ومن إليه من أعيان الشعراء القدماء هو ذاته عباس العقاد الذي شغل نفسه بدرس جماعات من المفكرين الذين سيطروا على العقل الأوربي الحديث؛ وهو نفسه عباس محمود العقاد الذي ساير التطورات السياسية في مصر بذهن ثاقب وقلم وثّاب؛ وهو عينه عباس العقاد الذي ترجم لشعراء مصر في الجيل الجديد، فمن التعسف أن يقال إن مثل هذا الباحث لا يعرف غير الاشتغال بالعاديّات الأدبية.

والأستاذ أحمد حسن الزيات الذي اهتم بتأريخ الأدب العربي، والذي عنَّى نفسه بنقد كتاب ألف ليلة وليلة، والذي يحرص أشد الحرص إلى إحياء ما اندثر من آثار القدماء، وهو نفسه أحمد حسن الزيات الذي جاهد أصدق الجهاد في نقل الغُرر من آيات الأدب الفرنسي الحديث، وهو عينه أحمد حسن الزيات الذي عالج المشكلات الاجتماعية بأسلوب يشهد بأنه مجروح القلب من أزمات هذا الجيل. فكيف يقال إن مثل هذا الكاتب لا يعرف غير الطواف برسوم العهود السوالف؟

بقي الكلام عن الدكتور زكي مبارك وهو رجلٌ أُدرك أسرار أدبه بعض الإدراك لأن اسمه يشابه اسمي.

وأعترف بأني أوغلت في دراسة الأدب القديم كل الإيغال، ولكن عذري في ذلك مقبول، فقد أفهمني جماعة منهم الأستاذ سلامة أني قضيت عشرين سنة في الحياة الجامعية، وأن من الواجب أن أقيم الدليل على أني أصلح لأستاذية الأدب العربي والفلسفة الإسلامية، وكذلك خصصت الأدب والفلسفة بجهود لا ينكر قيمتها أحدٌ من المنصفين. . . وهل فسد الزمان حتى أحتاج إلى الاعتذار عن الأعوام الطوال التي قضيتها في تأليف (الأخلاق عند الغزالي) و (النثر الفني) و (التصوف الإسلامي) و (الموازنة بين الشعراء) و (عبقرية الشريف الرضي)؟

وإلى من أعتذر؟ إلى الأستاذ سلامة موسى الذي أعجب بهذه المؤلفات كل الإعجاب!!

وأنا مع ذلك لم أنس نصيبي من معالجة معضلات العصر الحديث، وقد سجّل الأستاذ سلامة موسى في (المجلة الجديدة) أنه كان يجدرُ بالدكتور زكي مبارك أن يجمع مقالاته التعليمية في كتاب خاصّ لتكون نبراساً يهتدي به المعلمون.

وقد زكَّيت عن الأعوام التي قضيتها في فرنسا بكتاب (ذكريات باريس) وهو كتابٌ يشهد بأني عشت في فرنسا وأنا حادَّ البصر، وافر الذكاء، وهو كتاب يصوّر كثيراً من أزمات فرنسا في هذا الجيل.

والعام الذي قضيته في بغداد صورتُ به في كتاب (ليلى المرضية في العراق) أعظم المعضلات التي تعانيها فلسطين وسورية ولبنان ومصر والعراق؛ ولو أن الأستاذ سلامة موسى قرأ كتاب ليلى لعجب من أن يستطيع الرجل في عام واحد أن يدرك سرائر هذه البلاد، مع أنه كان موظفاً مسئولاً يحضّر في كل أسبوع نحو اثني عشر درساً لفتيان ناضجين هم طلبة دار المعلمين العالية في بغداد.

لا يهمني أن أدفع الاتهام الموجَّه إليّ العقاد والزيات وطه حسين، فلي ولهم أقلام تدفع ما يوجّه إلينا من العدوان بأيسر مجهود حين يشتجر القتال.

وإنما يهمني أن أدفع الشر عن الأدب العربي، فهو ليس أدباً ميتاً، كما يتوهم بعض الناس، وإنما هو أدب يتوثب من قيض القوة والحيوية، وبفضل الأدب العربي بقيت الذاتية الشرقية إلى اليوم، ولولا الأدب العربي لكان الأستاذ سلامة موسى في أيامه هذه كاتباً يرطن في لغة الأرمن أو لغة اليونان!

ومن محاسن الأستاذ سلامة موسى أنه وطنيٌ صادق الوطنية، ومن هذه الناحية أغزوه بلا رفق.

فمصر التي يحبها أصدق الحب لم تَسُد في الشرق إلا بقوتين عظيمتين: هما اللغة العربية والشريعة الإسلامية.

وهل من القليل أن تأخذ بلاد العرب ثقافتها العربية عن مصر؟ هل من القليل أن يأخذ وطن الرسول معارفهُ الدينية عن مصر؟ هل من القليل أن تكون مصر هي البلد الذي صارت العربية لغته القومية الوحيدة وصار الإسلام هو دين الأكثرية الساحقة من أبنائه الأوفياء؟

قد يكون سلامة موسى في دينه أصدق مني في ديني - والله أعلم بالسرائر - ولكن من المؤكد أني أصدق منه في الوطنية، فأنا أحرص على اللغة العربية والإسلام خدمةً لوطني، وأنا أغض النظر عن هفوات كثير لرجال الدين، لأنهم على أي حال من الشواهد على أن وطني له سلطة روحية. وقد تطوع المسلمون في مصر لمعاونة الأحباش أيام محنتهم بعدوان الطليان لغرض وطني الشعور بأن الكنيسة القبطية لها سلطانٌ روحيٌ على عقائد الأحباش.

فهل يغار الأستاذ (سلامة موسى) على الأزهر الشريف كما أغار على الكنيسة القبطية؟ وهل يحب المسلمين كما أحب الأقباط؟

استغفر الله واستغفر الوطن، فالأستاذ سلامة موسى بحق وصدق من أكرم أصدقاء العروبة والإسلام، لأنه بالفعل من مشاهير الكتاب في اللغة العربية.

وإنما أعيب على سلامة موسى أن يكون أقل وطنية من مكرم عبيد الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب ليكون من أفصح الخطباء باللغة العربية.

وإنما أعيب عليه هذا لأني أكره أن يكون السياسي أصدق وطنية من الأديب.

ولنفرض جدلاً أن طه حسين والعقاد والزيات وزكي مبارك لا يشتغلون بغير دراسة الأدب العربي القديم، فما العيب في ذلك؟

وهل من الكثير أن يكون منا عشرة أو عشرون أو ثلاثون يقضون أعمارهم في دراسة ماضي اللغة العربية، وهي اللغة القومية في مصر منذ ثلاثة عشر قرناً؟ وهل تعاب فرنسا وإنجلترا وإيطاليا بأن فيها مئات من الباحثين لا يهتمون بغير درس الذخائر من الأدب القديم عند اليونان والرومان؟

وما رأي الأستاذ سلامة موسى في التوراة والإنجيل وهما من النصوص العتيقة بلا جدال؟

هل يرى أن الاهتمام بدرس التوراة والإنجيل من العبث السخيف بحجة أنهما لا يمثلان معضلات العصر الحديث؟

وهل يرى أن نحرق جميع ما حفظ الزمن الشحيح من تراث المصريين القدماء؟

الأستاذ سلامة موسى رجل مثقف، فهو يدرك أن العقل الإنساني يتطلع إلى فهم جميع الآثار الإنسانية، وإن قَدُم عهدها في التاريخ. فهل يوجِّه ثورته إلى العرب لأنهم عرب؟

إن كان ذلك فلينتظر، فقد ارجع إليه بعد أيام ومعي وثيقة تشهد بأنه عربيّ الأصل، وفي العرب نصارى ويهود ومسلمون لأن العروبة هي مصدر هذه الديانات الثلاث.

الدنيا كلها تجتمع، ونحن نفترق، مع أننا أحوج من سائر العالمين إلى الائتلاف، والعرب والمسلمون في جميع بقاع الأرض يرون مصر مشرق الأنوار العربية والإسلامية، وأخونا سلامة موسى يريد أن ينزع عن رأس مصر هذا التاج المرموق.

ولو كان سلامة موسى من أرباب المآرب المادية لعذرناه، وقلنا إنه رجل ينتفع من مؤازرة خصوم العروبة والإسلام، ولكن سلامة موسى رجلٌ عفيف القلب والجيب، ولن يترك لأطفاله غير ما ورث عن أبويه الكريمين، فكيف يستبيح أن يسيء إلى سمعة مصر العربية والإسلامية بلا جزاء؟

سلامة موسى من أعز أصدقائي

فهل أرجو أني يراعى خاطر صديقه الأمين حين يتحدث عن صلة مصر بالشؤون العربية والإسلامية؟

إلى صديقي سلامة أُوجِّه هذا الرجاء، ففي الدنيا مكاره تشغلني وتشغله عن مكايدة الصديق للصديق.

وسبحان من لو شاء لهدانا جميعاً إلى سواء السبيل، فإني أو إياه لعلى هدىً أو في ضلال مبين.

أدوات مدرسية!

كان المألوف في مثل هذه الأيام أن ينص أصحاب المدارس فيما ينشرون من إعلانات على ما تمتاز به مدارسهم من جمال الموقع، وكثرة المختبرات وأهلية المدرسين، وحسن النتائج.

ولكن الزمان يأتي بالأعاجيب، فلأول مرة في تاريخ مصر تقول إحدى المدارس في إعلاناتها إنها مزوّدة بمخبأ طويل عريض يؤوي مئات التلاميذ! هي محنة جديدة لم تخلُ أخبارها من جديد، والله الحفيظ أبَعدَ الحديث عما في المدارس من أفنية وملاعب يجيء الحديث عما في المدارس من مخابئ وسراديب؟

وأنا مع هذا أرحّب بهذه الشدائد، فالأمم لا تضعُف إلا حين يسود فيها الأمان، والأمن نعمةٌ عظيمة جدّاً، ولكنه يغري بالطمأنينة وهي ضربٌ من السكون، والسكون نذير الخمود.

السوريون في مكاره الاغتراب

وهنا تسنح الفرصة للجواب عن سؤال وجَّهه إلينا الأستاذ محمد حلمي وقد لا حظَ أن السوري المسلم والسوري المسيحي يختلفان في النشاط وفي الحظوظ حين يهاجران إلى أحد البلاد العربية؛ مع أنهما انحدرا من بلد واحد ومن جنس واحد، ثم سأل: أيرجع ذلك إلى فروق خفية بين العقلية الإسلامية والعقلية النصرانية؟

وأجيب بأن ذلك لا يرجع إلى فروق ظاهرة أو خفية بين الديانتين، وكيف والإسلام دين جهاد، وهو يدعو أبناءه إلى الكسب والمعاش والاضطراب في بقاع الأرض، على حين تدعو المسيحية أبناءها إلى الزهد في المنافع الدنيوية والتطلع إلى المصاير المأمولة في رحاب السماء؟

إنما برجع السبب إلى أن السوري المسلم حين يفد على أحد البلاد العربية يندمج بسرعة في البيئات الإسلامية بسبب اتحاد الدين: فتنزل عنه وحشة الاغتراب، ويذهب عنه الخوف، ولا يشعر بالحاجة إلى التسلح بالمال، وهو عماد المغتربين.

أما السوري المسيحي فيشعر بأنه بعيد بعض البعد عن المجتمع وهو مجتمع إسلامي، وبذلك تقوى فيه القدرة على الكفاح في سبيل الحياة ليعوِّض ما فاته من الأنس الذي يوجبه اتحاد الدين.

ويظهر هذا لجيَّا حين نتمثل حالة السوري الذي يهاجر إلى أمريكا وهو مسيحي، فإنه في أمريكا أقوى في أي بلد عربي، لأن البلد العربي يوافقه في اللغة وإن خالفه في الدين، أما أمريكا فتخالفه من جميع النواحي وإن وافقته أحياناً قليلة في النحلة المذهبية، وكذلك نرى السوري المسيحي في أمريكا أقوى من أخيه في الشرق بسبب ما يعانيه هنالك من قسوة الاغتراب.

ولن يطول اختلاف الحظوظ بين السوري المسلم والسوري المسيحي في البلاد العربية، لأن التسامح الديني يزداد من يوم إلى يوم، لأن العروبة تقوى من يوم إلى يوم، وبذلك ينعدم شعور السوري المسيحي بأنه في الشرق غريب، فلا يصل النهار بالليل مكافحاً في سبيل المعاش، اكتفاءً بالأنس الذي يجده من مشاركة الجمهور في العواطف والآمال.

فمن ارتاب في هذا التفسير الفلسفي لهذه الظاهرة الاجتماعية فلينظر حالي في دنياي: فهذا النشاط الذي حيَّرتُ به الناس يرجع مصدره إلى الخوف، وإنما أخاف لأني أشعر بالغربة في وطني ولوفرة ما خلق قلمي من الضغائن والحقود.

اللهم أدِمْ علينا نعمة الخوف فهو أنفع من الأمان، ونسألك اللهم أن توالي فضلك فتهبنا القدرة العارمة على وأد ذلك الخوف، كما نسألك أن ترزقنا الخوف منك حتى لا يكون في أنسنا برعايتك العالية ما يحمل على سوء الأدب مع عبادك، ولله الحمد وعليك الثناء

زكي مبارك