انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 371/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 371/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 08 - 1940



كأنها ذكرى:

أستاذها يوحي لها

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

في المرقص، جئن يتبارين، لتفوز المجيدة منهن بالعمل. فقد كن راقصات معطلات، وقد أعلن المرقص عن يوم قريب حدده ليبدأ فيه العمل بأبطال وبطلات جدد.

وكان يومنا هذا اليوم المختار لانتقاء الراقصات المتهافتات على هذا المجال الجديد الطلى.

وراحت كل واحدة منهن تعرض أبهى ما عندها، وأحيي ما عندها، وأشد ما عندها أخذاً، وأقواه أسراً، وأحلاه فجوراً، وأشهاه فتكا.

وكلما كانت واحدة منهن تفزع من جولتها كانت تجلس إلى جانب أخواتها اللائي فرغن لتشاهد أخواتها اللائي يتتابعن على الحلبة يذوبن أنفسهن حركات ونظرات وتشععاً. فمن أساءت حيينها، ومن أحسنت حيينها أيضاً.

وكانت صاحبة المرقص هي والأستاذ جالسين في ركن يتذوقان كل راقصة من هؤلاء كما يمضغ الأهتم التفاحة، يمصها مصاً في تريث وفي تأن، فما تفوته من حلاوتها ولا من نكهتها نسمة.

حتى انطلقت عذراء لترقص

كان الرقص ملهاتها في المدرسة، وكانت تتشرف به، وكانت تمنح عليه الجوائز دون أن تفكر في أنها ستستنجده العيش، ولكن أباها لما مات، وأمها المنهوكة ترملت، وأخوتها الصغار تيتموا، لم تجد مفراً من أن تعرض في السوق نفسها في أفضح ما تكون نفسها، ألماً وفرحاً، راحة وتعباً، رغبة وإعراضاً، تماسكا وتحطما. . . لتكون راقصة.

عذراء، لا يزال منها الحياء، انطلقت بين الأستار والأنوار، ونهشات الأنظار، فانعقدت، عقلها راح. انصدمت فوقفت، وتدلت، فتساقطت، ولو أنها عصرت ألمها دمعاً لما اختنقت، ولكنها ضعفت فلم تقو حتى على أن تبكي.

هذه. . . تريد أن تكون راقصة. من الذين رأوها من تألم، ومنهم من ضحك، ولكنهم جميعاً أسرعوا إليها، وحملها بعضهم، وأمرت صاحبة المرقص أن يذهب بها إلى حجرة ما تسعف فيها ثم تأخذ ملابسها وتمضي، فذهبوا بها، وعادوا عنها إلى ما كانوا فيه، ولكن صاحبة المرقص ألفت نفسها في ركنها قد طال مكثها وحدها، لم يرجع الأستاذ لها فسألت عنه فعلمت أنه لا يزال عند البنت التي أغمي عليها.

وكان وقت الراحة قد جاء فقامت السيدة إلى الأستاذ لتراه ماذا يصنع عند تلك البنت.

فلما جاءتهما وجدته يقول لها: (هذه الأنوار أنوار، فإذا كنت تكرهينها أطفأناها، وهذه الأستار أستار قطع من القماش مدلاة بحبال ومرسوم عليها صور وأشكال، فإذا لم تكن تعجبك رفعناها، وهؤلاء الناس الذين ينظرون إليك ناس مثلي أنا ومثلك أنت ومثل كل الذين عرفتهم وعرفوك، فإذا كنت تبغضينهم طردناهم. . . أيرضيك هذا؟ ولكن لماذا يرضيك؟ أما كنت ترقصين في المدرسة أمام أنوار وأستار وأنظار؟ هذه كتلك، فلم التخاذل هنا والشيطنة هناك؟ قومي. . . أعيدي الكرة. . . فإني أضمن لك في الرقص مستقبلاً قريباً ربما لم يكن أتيح مثله لراقصة من قبل. . . يا لله يا ماما. . . وهاك الشوكولاته!. . .)

ومصت العجوز المتصابية صاحبة المرقص شفتيها عجباً واستهزاء وقالت: اسمعي الكلام يا روحي وقومي أرينا البشائر وأشهدينا الفتح. . . يا لله يا ماما، وهاك أيضاً من عندي شوكولاته.

وأصرت الصغيرة على أنها تكره الرقص، وتنفر منه وتخشاه وتضرب عنه. . . وجمعت أشياءها في حقيبتها وتمتمت بكلمات شكر مما تحفظه وترويه بدون أن تتدبره أو تفكر فيه، واستأذنت لنمضي، ولكن الأستاذ وقف في طريقها وأقسم ليحبسنها، فلا تخرج إلا إلى الأنوار والأستار والأنظار.

الرجل أحبها، هذا المغمور في متابع الهوى، المنغمس ليله ونهاره بين أذرع الغيد، المنطبق بروحه على أرواحهن، المتقبل بحواسه نفثاتهن وصرخاتهن وهمهماتهن وغليانهن. . . هذا العليم الخبير، الغني الوفير الصيد إذا أراد صيداً، كان يزهد في كل ما كان يرى، لأنه لم يكن يرى إلا صنعة هو أستاذها. . . أما هذه فقد رأى فيها أشياء أخرى، ولم يكن ينقصها إلا هذه الصنعة الني هو أستاذها، رآها الراقصة التي ظل يحلم بها ليحبها وليعلمها ولترقص له فتلهبه، وتلهمه، فيعود يوحي لها. . . الأخريات لم يقبلن على الرقص إلا حين أردن أن يسفكنه ذهباً، وهذه حين أرادت العيش من الرقص استعصى عليها واستعصت عليه. . . الأخريات عيونهن مفتحة وأرواحهن غائبة، وهذه عيناها محتشمتان مغضوضتان، وروحها هي العاصفة. . .

هذه هي الفنانة الراقصة

قالت صاحبة المرقص للأستاذ (ما دامت الآنسة مصرة على الذهاب فدعها تذهب، وإني أصدقها النصح وأؤكد لها أنها غير مخلوقة لهذه الحياة الصاخبة التي نحياها، وأنه من الخير لها أن تعمل في متجر أو مصنع فهو أليق بها وأوفق لها). . .

فما عارضت هذا الآنسة وإنما هزت رأسها. وقالت: (شكراً، وإن هذا ما اعتزمته، ثم شكراً للأستاذ فقد كان رؤوفاً رقيقاً)

فضحك الأستاذ وقال: (إذا خرجت فأنا معك)

وترك عمله وخرج معها، وصحبها إلى بيتها، فاستقبلته أمها وإخوتها وكانوا ينتظرون عودتها في اشتياق وإشفاق، وكانوا يرجحون أن تزف إليه خبر فوزها في المباراة واضطلاعها بالعمل، فلما دخلت هي والأستاذ أسرعت إليها وسألتها: (ما الخبر؟) فأسرع الأستاذ بالإجابة قائلاً: (إن هي إلا سنة، إن لم تكن بعدها ابنتكم هذه سيدة الراقصات فإني لست إياي). . . فقالت الأم: (على الله، ولكن أما اتفقتم معها لتعمل عندكم هذه السنة؟) فقال الأستاذ: (سأعمل معها أنا). . .

وأخذ الأستاذ بعد ذلك يهرج مع الصغار ويعابثهم ويضحك معهم ويلعب، ثم أولم لنفسه وليمة عندهم فآكلهم وشاربهم ومازحهم، وما غادرهم حتى كان قد أشاع في نفوسهم جميعاً الفرح، والأمل، والإيمان بأن رضواناً من الله قد انساق إليهم. . . .

إلا الراقصة فقد كانت تسايرهم بما يبدو فرحاً وأملاً وإيماناً، ولكن نفسها كان فيها غير هذا يأس وقنوط وظلمات ووحشة. وكان الأستاذ يحس هذا كله ولكنه لم يكن يعبأ به ولا يخاف منه على صغيرته فقد كان يعد هذا كله من علامات التوفيق الذي كان يتوقعه.

وانتهت زيارة اليوم، وعاد إلى الزيارة في الغد وقال لها: (أما رأيت فروجاً يخرج من بيضة؟) فقالت: (رأيت) فقال لها: (وكيف رأيته؟) فقالت له: (هكذا رأيته، بمنقاره ينقب البيضة وهو فيها، فإذا انفتحت فيها ثغرة أطل برأسه منها، فإذا رأى الدنيا أمامه نظر إليها عن يمينه وعن يساره، ثم إذا حلت له الدنيا عاد إلى البيضة، فإذا كره الحبسة فيها عاد فنقبها، حتى يتسع له فيها مخرجه منها، فينطلق من محبسه، جرياً، وقفزاً، لا ينظر إلى مثواه القديم، وإنما ينساه، وينجذب إلى أمه، يعرف أنها أمه، وهكذا يخرج الكتكوت من البيضة) فقال لها الأستاذ: (لو أنك انتبهت إلى نفسك وأنت تقصين عليَّ هذه القصة، لعلمت أنك قد ابتدعت رقصة، هي رقصة بريئة طاهرة ترضيك وتوافقك، وقد أخذتها أنا الآن عنك، وسأعود إليك بها غداً، مقسمة، منظمة، منغمة، مزيداً عليها تزاويق من عندي على الأصل الذي كان عندك، فإلى اللقاء غداً. . .

وفي الغد عاد الأستاذ بالراقصة. . . وليس في البيت أنوار ولا أستار ولا أنظار إلا أمها وإخوتها، وهؤلاء جميعاً يفيض من أعينهم الحب والإعجاب والتشجيع. . . فرقصت وأحسنت

فلما رآها أحسنت قال لها: (الآن تستطيعين أن تقصدي المرقص، وأن تتحدي الراقصات فيه بهذه الرقصة، فإذا كنت ستشعرين بشيء من التهيب أو شيء من الوجل فإني سأقف على قرب منك تجاه عينيك، فانظري إلي، وأرقصي لي، ولا ينشغل بالك بمن هم حولك، وانسيهم، وازعمي لنفسك أني سألتك ثانية كيف يخرج الكتكوت من البيضة وأنك تجيبين عن سؤالي هذا رقصاً. . . يا لله يا ماما. . . وهاك الشكوكولاته. . .

اضطربت قليلاً، ولكنها قامت معه.

ولم يكن باقياً على موعد البدء في العمل إلا يوم، ولم يكن عند صاحبة المرقص من الصبر ما تحتمل به اختبار راقصة جديدة بعد ما أعدت برنامجها واطمأنت لم نظمت به عملها. . . ولكن تحمس الأستاذ، وإصراره، وأيمانه التي كان يقسم يؤكد بها نجاح راقصته. . . كل هذا حمل العجوز على أن ترضخ وأن تصبر وأن ترى. . . فرأت عجباً. . . فناً رشيقاً بريئاً حلواً مبعوثاً من نفس بكر خالصة صادقة ساذجة ذكية ناصعة، موشى بحلي صاغتها روح هذا الأستاذ العارف المدرك الدقيق المتأنق. . .

فرضخت العجوز واعترفت. . .

وبدأت الراقصة العمل. . . ونجحت في الليلة الثانية، وواصلت النجاح بعد النجاح، وبدلت الرقصات رقصة بعد رقصة، وتفتحت نفسها بعد ما كانت مظلمة معتمة وبارحها اليأس، وتبدل قنوطها فرحاً ومرحاً وبهجة وإيمانا ورضى. . .

ولكنها لم تنتبه إلى الأستاذ، لم يكن تطلق إليه روحها إلا وقتما كان يعلمها، ووقتما كان يقف لها على بعد أو قرب لترقص له. . . أما في غير هذين الوقتين فقد كانت تنشغل بالدنيا، وبما فيها، وبمن فيها. . . كلما قال لها واحد من الناس كلمة إعجاب صدقت أنها كلمة إعجاب، وما بالها لا تصدقها والأستاذ نفسه معجب بها. . . كان عليها أن تسأل نفسها: هل هؤلاء الذين يبدون الإعجاب بها يعرفون أين موطن الحسن فيها، وما مبلغ هذا الحسن وما مبعثه. . . ولكنها لم تفكر في شيء من هذا، ولكنها تلقت إعجاب الأستاذ، وحسبت أن الناس كلهم مثله، ثم راحت تحسب بعد ذلك فيهم ميزات ليست فيه هو، فهذا غني، وهذا وجيه، وهذا شباب، وهذا صحة، وهذا اسم، وهذا مجد، وهذا ظرف، وهذا تودد، وهذا هدايا، وهذا ولائم. . . وهذا وهذا. . .

أما الأستاذ فإنه لم يزد عندها على أن يكون معلمها وهدف فنها. . .

لم تفكر في أنه يحبها. انفرد بها يوماً وقال لها كلاماً كثيراً دس فيه أنه يحبها فسمعتها منه كما كانت تسمع منه كل شيء: حقيقة تتلقاها خالصة، وتستغلها. فلم يعد يعيدها

ومرت السنة.

وكان اسمها قد لمع. ولم يعد أحد يجهلها. الجمهور يتهافت عليها، والصحافة تتلقف أخبارها، ولمراقص تتنافس لتتعاقد معها. وهي ناعمة راضية. . .

والأستاذ عاشق يكتم العشق، وصار راض بأن تكون تلميذته الموفقة إن لم تكن له أكثر من ذلك.

وأقاموا لها حفلة يكرمونها. وانحشدت الدنيا في هذا الحفلة: العشاق، والهواة، والمعجبون، والمتطفلون، والزملاء، والأستاذ. . .

وألقيت الخطب، والقصائد، ونثرت الزهور والرياحين، وطالبوها برقصة (الكتكوت) فقال لها الأستاذ: (لا ترقصي) فقالت: (عجباً! ولماذا؟ لا بد أن أرقص، هؤلاء جميعاً جاءوا ليكرموني فلا أقل من أن أكرمهم برقصة. . . وهي بعد ذلك وقبل ذلك رقصتك التي علمتني إياها، ثم إني أريد أن أرقص) - إذا كنت تريدين أن ترقصي فهيا إلى البيت أرقصيها بين أمك وأخوتك، وإني أذهب معك.

- وهؤلاء الناس؟

- هؤلاء الناس ليسوا شيئاً. إنهم ناس! بشر لا أكثر ولا أقل.

- وأنت ألست من الناس؟ ألست من هؤلاء البشر. . . هذه غيرة وغرور.

- قد تكون غيرة، ولكن أين منها الغرور؟ أنسيت أنك حتى الأمس لم ترقصي إلا لي. . .

- ومنذ اليوم سأرقص للناس لا أريدك أن تقف في طريقي.

-. . . أوروفوار!

. . . ولم تستغرق هذا التهامس إلا دقائق قليلة مرت بسرعة. . . ثم أشارت بعدها إلى العزاف فبدءوا اللحن، واعتدلت الرقص. . . وبدأت. . . وأخذت تطرد من مخيلتها صورة هاتين العينين اللتين اعتادت أن تسيل بفنها فيهما. . . وأخذت تسفك فنها في الفضاء وتنثره على عيون منها البلهاء، ومنها المتلصصة، ومنها السفاحة الخاطئة. . .

اضطربت المسكينة. وعاودتها تلك الرجفة التي دهمتها في ليلة المباراة الأولى، فسقطت كما سقطت إذ ذاك. وانقلبت حفلة التكريم إلى مأساة حملوها إلى البيت، وأرقدوها في الفراش، وتسللوا وتركوها بين أمها وإخوتها، ومعها مندوب من المرقص ليقف على خدمتها ريثما يطمئن على صحتها. . . ولكنها ظلت في غيبوبة تائهة. . . ولم تفق وإن كانت تردد نداءها للأستاذ.

ولم يكن أحد قد علم بشيء مما دار بينهما، فلم تر أمها إلا عجباً في انقطاع أستاذها عنها، فأرسلت إليه تستدعيه، ولكن الرسول عاد يقول لها أن الأستاذ مريض هو أيضاً وإن لم يكن طريح الفراش. فعادت وأرسلت إليه فجاءها. . .

دخل إلى تلميذته المريضة متثاقلاً من تعبه، محطماً من تلك اللطمة التي تلقاها إذ اعتبرته واحداً من الناس، من هؤلاء الناس.

جلس إلى جانبها، ومد يده فأمسك بيدها، ففتحت عينيها فلما رأته قالت له بصوت متكسر:

- سامحني يا أستاذ

- إنك لم تسيئي إلي، فليس ما حدث إلا قضاء الله، وأنا الذي أرجو أن تسامحيني أنت.

- إذن فقبلني. . .

فقبلها. . . ولكن في جبينها، ومكث عندها ما مكث ثم مضى ولكنه لم يمض إلى بيته، ولم يعرف بعد ذلك أحد إلى أين مضى ثم أذيع أنه مات.

أما هي. . . فقد انهارت بعد ذلك وأصبحت راقصة كبقية الراقصات. . .

غير أنها كانت تسكر أحياناً، وتمعن في السكر، وعندئذ كانت إذا رقصت نظرت إلى فضاء ما.

وعندئذ كانت تلم بها أطياف من المجد القديم، وعندئذ كان يتهامس المقربون منها والذين عرفوا قصتها قائلين: (أستاذها يوحي لها)

عزيز أحمد فهمي