مجلة الرسالة/العدد 370/نهاية أديب. . .
مجلة الرسالة/العدد 370/نهاية أديب. . .
في الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر يولية، لفظ البحر على ساحل (جليم) بالإسكندرية جثة كانت في رونق العمر. وإن بدا على محاسرها مسحةٌ من شفوف الهم وشحوب الألم. لم يكد يلقيها الموج الصاخب المتعاقب بالرمل المستوي المنضوح حتى أخذتها عيون الحرس الساحلي، فظنوها لأول وهلة ضحية من ضحايا الحرب الإنجليزية الإيطالية في هذا البحر المسجور العذاب والموت؛ ولكنهم علموا من بذلة الغرق ومعطفه وسلامة بدنه أنه مدني سقط في البحر أو ألقي فيه. فلما فتشه رجال الشرطة ليكشفوا عن هويته عثروا في جيب معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يقول فيه:
(إنه قتل نفسه بالغرق يأساً من الدنيا وزهادة في العيش، ويوصي بأن يحرق جسده ويشرَّح رأسه)
إذن هو رجل من رجال الفكر والرأي، جعل للحياة مثلاً لم يحققه فهو يجتويها، ورأى في العقيدة رأياً لم يرقه فهو لا يرتضيها، واعتقد أن في مخه عبقرية فهو يرجو أن يظهر بالتشريح خافيها.
فهل تدري من هو؟
هو الدكتور (إسماعيل أحمد أدهم) عضو أكاديمية العلوم الروسية، ووكيل المعهد الروسي للدراسات الإسلامية، كما كان يخبر عن نفسه؛ وهو صاحب المقالات العلمية والنقدية في الرسالة والمقتطف، ومنشط الحركة الأدبية في الإسكندرية وجمعية الثقافة. نَجَله أبوان مختلفان: تركيٌّ وروسية، ثم غُذي في يفاعته بثقافة البحر الأسود، فتأثر بنفسية الترك الجمهورية، وعقلية الروس الشيوعية. وتزوج أبوه مرة أخرى من مصرية فعاش معه في الإسكندرية حيناً من الدهر تعلم فيه العربية. ثم ترك له بعد موته بيتاً صغيراً كان يعيش على أجرته هو وأخته عيش الكفاف الضيَّق. واعتراه داء السل فكان يراوغه بالسكنى في جفاف (أبو قير)، ولكنه كان مضطراً إلى أن يشق طريقه في زحمة الحياة بسن القلم: فكتب وألف وحاضر وناظر، حتى كان له في كل كتاب رأي، وعلى كل مسألة اعتراض، ومع كل كاتب موقف. وأعانه على هذا الجهد العظيم قريحةٌ طيعة وبصيرة ناقدة وعزيمة نافذة وطبع عمول؛ ومع ذلك ظل في عزلة عن القلوب المؤاسية أو المشجعة من جمهرة القراء وقادة الأدب، لأن نشأته اللادينية، ونزعته العلمية، وطبعه الجرىء الحر، وأسلوبه الجاف القلق، كانت تجعل لسطوره ظلالاً من الإلحاد والمادية والغثاثة تبغّضها إلى صاحب الدين وصاحب الفن. ثم وصل أسبابه ببعض ذوي القلم النابه فاستخدموه فيما لا يكسبه المودة والعطف. وجابه قوماً من المتصوفة وطلاب العلم بوقاح الرأي في الدين فآذوه في بدنه وسمعته. ووجد رضَى نفسه وراحة عقله في تسليط الطبيعة على العقيدة وتحكيم الفلسفة في الشعور، فساءت ظنون الناس فيه، وأُرهفت الألسن عليه، حتى عجز أن يعيش على ثمرات فكره.
وكان المرحوم إسماعيل أدهم عفيف النفس يتقنع بميسور الرزق، ويتكرم عن طلب المعونة ولو كانت جزاء على عمله. وكان مرضه الدخيل المزمن يقتضي وفرة الغذاء وجودة الهواء وراحة الجسد، ولكنه كان لا يجد الكفاف لضيق مضطربه، ولا ينال الدعة والجمام لقوة عزمه؛ فتظاهر عليه الداء والشقاء والإباء واليأس من روْح الله حتى زلزلت هذه المحن في نفسه الثقة، وأذهبت عن قلبه السكينة.
ونُكبت الإسكندرية الجميلة بالغارات الجوية الإيطالية، فجلا أكثر الساكنين عن الثغر المروَّع، فأقفرت المنازل حتى منزل أدهم وهو مرتزقه الوحيد، فلم يكن بد من هذه النهاية المخزنة التي انتهى إليها هذا الأديب البائس.
كان الدكتور أدهم - غفر الله له - شديد الذكاء أصيل العقل رياضي الفكر واسع الثقافة لا يؤمن إلا بالعلم والمنطق. وقد أضاف إلى ثروة الأدب العربي الحديث جهداً مهما اختلفت الآراء فيه فإن له قيمته. وكان من الممكن أن يعيش في ظلال أدبه رخي البال مكفول الرزق لو أنه وصل ما بينه وبين الله. ولكنه خضع لسلطان طبيعته ونشأته فعالج الموضوعات الإسلامية معالجة الملحد المخلص الذي يجد سعادته في الكفر ورسالته في التكفير. ولو أنه خادع الناس عن عقيدته كما يفعل بعض الأكياس من الأدباء، لأدرك السلام في الأرض وإن لم يدركه في السماء؛ ولكنه كان أشبه بشهداء الكفر الذين يجدون اللذة في الألم، ويبتغون الخلاص في الموت!
رحم الله الدكتور أدهم! حسب أن أرقام العلم واقيسة المنطق هل كل شيء في تقدير المعلوم واكتناه المجهول، فاعتمد في أدبه على العقل القعيد الذي يرى ولا يطير، واتكأ في فلسفته على الفرض البعيد الذي يطير ولا يرى، وتحامل في مُعتقده على الضمير البليد الذي خبا وَهجُه بين فتور الخيال وخمود العاطفة. ثم غره أن معارضة الدين سبيل من سبل الشهرة فأوغل فيها بعنف حتى انقطع في صحراء الحياة عن الله والناس! فهو لا يملك النور الذي يضئ ظلمة القلب، ولا الرجاء الذي يخفف وطأة الكرب، ولا الحب الذي يؤنس وحشة الطريق. وحكم القدر على السائر في الظلام والوحدة أن ينزلق من صخرة الحرمان إلى لجة العدم؛ وهناك لا يدركه إلا رحمة الله التي وسعت كل شيء وشملت كل شخص!
إن الأدب الملحد قد يعيش في الغرب لأن الظلام يمدْه الظلام، ولكنه لا يستطيع أن يعيش في الشرق لأن الظلام ينسخه النور!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات