مجلة الرسالة/العدد 37/من صور الحياة في دمشق
مجلة الرسالة/العدد 37/من صور الحياة في دمشق
الشيخ عيد السفرجلاني
للأستاذ على الطنطاوي
. . . رفع الشيخ صوته مرة ثانية يأمر التلاميذ بالانصراف ولكنه لم يسمع لهم ركزا، فنظر فإذا المقاعد كلها خالية، وإذا آخر تلميذ قد بلغ الباب الخارجي، ثم قفز فرحاً مسروراً، وغاب في منعطف الطريق، وعم المدرسة السكون. . .
تنفس الشيخ الصعداء، وألقى عصاه جانباً، ثم تمدد على كرسيه المستطيل، يستريح من العناء الذي حمله في نهاره، وكأن هذا السكون العميق، وهذه الصفرة التي تبعثها في الغرفة أشعة الشمس المحتضرة قد ملأ نفسه كآبة ورهبة، فاغمض عينيه، وأسلم نفسه لخيالاتها:
أحس كأن هذه السجف التي أسدلها دون الماضي، ترتفع سجافاً سجافاً، وان هذا الماضي البعيد الذي لفه في ثوب النسيان، وألقى به في هوة العدم، قد استفاق في نفسه مرة واحدة، ثم عاد يكرر عليه كما يكر (شريط السينما)، ولكنها سينما حياة طويلة، مرت عليه كأنما هي يوم واحد أو بعض يوم، سبعون عاماً مرت به في لمحة عين، فلم يأخذ بصره فيها إلا العمل المستمر في تعليم صبيان دمشق، سبعون عاماً لم يسترح في خلالها إلا أيام الجمع، ثم يعاود عمله منذ الصباح السبت، هادئاً راضياً نشيطاً. . .
عادت به الذكرى إلى ذلك اليوم الذي بدأ فيه حياته التعليمية، وكان غض الشباب، يقطع مرحلة (العشرين)، وكان يوماً بعيداً طوى فكره الوصول إليه ثلاثة أرباع القرن، وأدار الفلك راجعاً سبعين دورة. . . يا لقدرة الفكر البشري! كيف يدير الفلك كما تدير الإصبع عقرب الساعة تقديماً وتأخيراً؟
كانت المدرسة التي استأجرها غرفة واحدة، في (المناخلية) قبالة الباب الحديدي الذي بقى مع قطعة من السور، تراثاً لدمشق المفتحة الأبواب لكل طامع، من دمشق المنيعة المتحصنة بسورها وقلوب أبنائها من كل طامح، وفي هذا الباب نفحة من نفحات الغساسنة (العرب الخلص) يحسها من يجوزه، كما يحسن من يدخل من الباب الشرقي روح خالد بن الوليد، بطل عصره، واينبال العرب، وكما يحس من يمر من باب الجابية روح أبى عبيدة بن الجراح، ولم يكن هذا الباب معروفاً بباب المناخلية كما يدعي اليوم، بل كان يدعى بالباب المسدود، وقد كان قبل أن يسد الباب الرسمي الملوك الغساسنة، وكان يقابل قصر البريص، حيث كان الغساسنة الكرام الحسب الشم الأنوف:
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
ذكر كيف لبث نهاره كله منفرداً لم يجئ إليه تلميذ واحد، وكيف أسرع المساء بالعودة إلى داره. قبل أن يقفل العسس أبواب دمشق، وبواباتها التي كانت تغلق منذ العشاء، أيام كان الناس جادين مستقيمين لا يعرفون ملاهي الغرب ورذائله، ولا يعرفون أحياء الليل في الفاحشة، وقتل النهار في الكسل. وكيف كان قوى الأمل، جم النشاط، لا يخالط اليأس قلبه، فلم ينثن عن عزمه. وغداً في اليوم الثاني إلى مدرسته التي أنشأها في البلد الذي لا يعرف القراءة إلا اثنان في الألف من سكانه. . . فجاءه خمسة تلاميذ، وشرع يعمل
لم يكن الشيخ يحمل شهادة، ولم يكن في دمشق كلها من يحمل شهادة البكالوريا أو الكفاءة، ولكنه قد أتقن العلوم الإسلامية والعربية، وثابر سنين طويلة على (الطلب) حتى ألم بالثقافة العامة المعروفة في زمانه إلماماً حسناً. وانصرف للتعليم ابتغاء لمثوبة الله، وأجابه للرغبة القوية الجامحة. فلما جاءه هؤلاء التلاميذ، رأى فيهم تحقيقاً لحلمه فأكب على تعليمهم وتهذيبهم
- أحسن الله لأولئك التلاميذ! لقد كانوا أشرافاً عاملين، ثيابهم كاملة. وحركاتهم وأفعالهم فياضة بالرجولة، وحياتهم مقصورة على البيت والمدرسة، لا تعرف الرذيلة الغربية طريقاً إلى نفوسهم، ولم يكن الغرب قد غزانا بأزيائه وملاهيه وأبنائه، وأبنائنا الذين علمهم العلم والعقوق. وأعطاهم السلاح ولقنهم كيف يقتلون به (التقاليد) الشرقية الشريفة، فكانوا بمنجى من هذا كله.
لقد هاجت الشيخ ذكرى أولئك التلاميذ الذين أصبحوا اليوم شيوخاً ومات منهم من مات، وقارن بينهم وبين تلاميذ اليوم المتأنثين المتخنثين الذين يتقنون التجمل ويغوصون في الملاهي القذرة إلى أعناقهم فاسترجع وهم بالبكاء. وازدحمت في ذاكرته الصور المؤلمة، فرأى كيف كان يتلقى الفوج من تلاميذه أطفالاً، فيعلمهم ويربيهم، ويجعل منهم شبانا عاملين، ثم يودعهم بعد أن يوليهم من نفسه أسمى ما يولى والد ولده، فيغادرون المدرسة، ليدخلوا الحياة، ويرتقون من مقاعد النظارة إلى خشبة المسرح، ويحسبون أن هذه الشهادة غاية العلم، وهي فاتحته، وانهم إذا نشروها، طويت لهم المراتب إلى الصدر وقدم لهم من كل شيء ما يشتهون، لا يدرون أن للحياة فناً غير فن الكتب، وفى العلم آفاقاً لا تحيط بها المدرسة. . . وكيف كان يلبث الأيام الطويلة يستوحش بالمدرسة والمنزل، ويحس بالفراغ في قلبه بعد أن اقتطع منه كل فوج قطعة ويتألم ويجفوه النوم. فلا يعلم إلا الله بألمه. ثم يستعين بالله ويستأنف العمل مع تلاميذه الجدد. ويحاول أن يجد فيهم بدلاً مما فقد، حتى إذا أنضجت الثمرة خرجت من يده. وكان حظه من هؤلاء حظه ممن سبقهم: ينسونه مذ يتخطون بأقدامهم عتبة الباب، وينصرفون عنه إذا لمحوه في طريق، مصعرين خدودهم، شامخين بأنوفهم - وهم التجار الأغنياء، أو الموظفون الكبار، أو الوجهاء الكرام - على هذا الشيخ المسكين (معلم الكتاب)
- أحد عشر ألف تلميذ. . . أحد عشر ألف. . . علمتهم وأفنيت فيهم حياتي، فضاع تعبي فيهم أدراج الرياح. . . يا الله! وفتح عينيه فوقع بصره على مرآة كانت إلى جانبه فنظر فيها وأطال النظر كأنما قد انتبه الآن إلى لحيته البيضاء الناصعة، والى سنيه التسعين فاسترجع مرة ثانية. . . وسأل الله حسن الخاتمة
- سقياً لتلك الأيام الهنيئة. حين لم يكن في دمشق إلا هذه المدرسة. ومدرسة الشيخ الصوفي، أما الآن فالمدارس تعد بالمئات، ولكن الناس لا يميلون إلا إلى المدارس الأجنبية، إنهم يضنون على مدرسة كهذه المدرسة تقدم أبناءهم لفحص الرسمي العام، وتحفظ لهم دينهم ووطنيتهم بعشرين قرشاً في الشهر، ثم ينفقون مائتين وثلاثمائة في المدارس الفرنسية أو الإيطالية أو الإنجليزية، ليعود اليهم أبناؤهم فرنسيين أو طلياناً أو إنكليز. . . آه، الحمد لله على كل حال الحمد لله. . . إننا نجد ثمن الخبز.
وانتبه فإذا الباب يقرع قرعاً متواصلا
- ادخل، تفضل. . . ممن هذا الكتاب؟
- من وزارة المعارف
قرأ الشيخ الكتاب أولا وثانياً، وقرأه مرة ثالثة، فغشيت وجهه سحابة أليمة من الغم، ثم قام إلى مكتبته صامتاً، فأخرج من قراراتها دفتراً كبيراً مسح الغبار عنه، وأخذ يقلبه يفتش عن هذا الاسم، بين أحد عشر ألف اسم حواها هذا الدفتر، فلما وجده تناثرت الدمع من عينه.
وارتمى على كرسيه محطماً.
- أهذه خاتمة المطاف؟. إه. . الحمد لله على كل حال. . الحمد لله لك يا رب. . انه تلميذي علمته ومنحته قسطاً من قلبي، وعلمت أباه من قبله، وعلمت أبنه من بعده، ولكن لا بأس، إن أمور المعارف بيده. ومن حقه ان يفعل ما شاء، وعاد فقرأ الخطاب للمرة الرابعة: (. . . ولأنكم لا تحملون شهادة تخولكم حق إدارة مدرسة ابتدائية لا نرى بداً من أن. . .)
كنت منذ عامين محرراً في الجريدة الوطنية الكبرى (الأيام) فجاني يوماً ناع، فنعى إلى الشيخعيد السفرجلاني. واخبرني أن هذا منصرفه من دفنه، فبلغ بي الألم مبلغه، وجعلت مقالي في ذلك اليوم عن الشيخ. ولما قدمته لرئيس التحرير. قال لي أحد الرجال الكبار في دمشق، وكان في غرفة الرئيس ما نصه بالحرف:
بلا مسخرة، شيخ كتاب مات!
قلت: ولكنك يا سيدي تلميذه
- وإذا كنت تلميذه؟. . شيخ كتاب!
وبعد يا مولاي الشيخ:
لا تأس على أن ذهبت في غير ما ضجة ولا صخب، وأن قد سكنت قبراً في (الدحداح) لا يمتاز من مئات القبور التي حوله ولا تحيط به النصب والنقوش، وان الناس لم يأبهوا لك كثيراً، ولم يقيموا لك الحفلات، ويلقوا على قبرك الخطب. . . فأنت أشرف وأجل من كل هؤلاء الصاخبين الضاجين، ومجدك الصامت الذي بنيته في سبعين سنة لبثت فيها مناراً للعلم - وهادياً ومرشداً. أسمى من مجد هؤلاء الذي ينبى على خطبة جوفاء، أو ليلة في السجن ظلماء، أو مقالة في صحيفة رعناء.
وان كنت شيخ الكتاب، فذلك فخر لك، وحسبك فخراً أن الذين سرقوا مجدك ومجد أمثالك - هم - كما هي سنة الحياة - أشد تلاميذك حماقة وجهلاً، وأقلهم استقامة وشرفاً، وانهم ما قفزوا إلى هذه المراتب، إلا ليجحدوا فضلك وفضل أمثالك، ويسخروا منك ومن أمثالك، هي سنة الحياة، يعمل أناس ليجني الثمرة آخرون يا مولاي الشيخ:
نم مستريحاً في ظلال الخلد، فأنت أبو النهضة العلمية في دمشق، أنت صفحة من تاريخها الحديث، أنت معلم كل من قرأ في دمشق كتاباً أو خط بقلم عليك رحمة الله وبركاته.
علي الطنطاوي