مجلة الرسالة/العدد 37/حنين المهد إلى الطفولة
مجلة الرسالة/العدد 37/حنين المهد إلى الطفولة
للآنسة أسماء فهمي
درجة شرف في الآداب
يكاد يكون الحنين إلى (المنزل الأول)، غريزة من الغرائز الإنسانية، تزداد قوة ورسوخاً كلما توغل المرء في عبور مرحلة الحياة. . . ولعل أعذب ذكريات الشيخ الفاني المثقل بتجارب الحياة أياماً قضاها على شاطئ اليم يلهو مع الصغار ويجمع الأصداف ويلقى الشباك للأسماك أو يصنع دوراً وقباباً من الطين والرمال، ثم يهدمها ليعيد بناءها. . بل إن الفتى اليافع ليتضاءل أمام عينيه ما يستمتع به من قوة ومرح وصفاء عندما تستعرض مخيلته صور عهد الطفولة المليء بالسذاجة والحركة المتواصلة والمرح البريء. . . وقد ينشأ المرء وضيعاً في كوخ حقير ثم يرتقى سلم العلياء ويسكن القصور ذات الحدائق الغناء ومع ذلك تتوق نفسه للحج إلى مهد الطفولة وتستحيل في نظره خشونته نعومة وقبحه حسناً وجدبه رخاء. . .
وهذا الحنين هو أساس الوطنية ونواة إعزاز القومية لا تخلو منه إلا القلوب الصماء المجردة من العطف والوفاء فلا بدع إذن أن يحط الركاب الشاعر الفياض العاطفة إذا مر بأطلال الديار ليذرف دمعة أو ليستعيد ذكرى أو ليرسل نجوى قبل أن يستأنف المسير ويخب الخطى به عشرا. . .
ولعل أشد الحنين هو حنين ذلك الذي ينتزع انتزاعاً من بين أحضان مهد طفولته ويقصى عنه قوة واقتداراً، ثم يشغل هذا المهد العزيز الوثير أعداؤه المغتصبون بينما هو لا يجرؤ أن يحاول منه اقترابا، إذ تحول بينهما الاستحكامات والحصون فلا يجد من وسائل الاتصال غير الذكرى والخيال. . . ولكن الذكرى التي لا أمل يصحبها ويجلوها تصبح كرياح القيظ اللافحة تحرك الأشجان كما تثير الرياح الرمال. . . والحنين يبعث الذكرى التي هي رمز الوفاء. . . .
إذن فبأجنحة الذكرى أحلق فوق مهد الطفولة المقدس - فوق ربوع السودان. . تلك الربوع التي كانت ميداناً لبطولة الأجداد والآباء، منذ عهد الفراعنة قبل أن تصبح مهداً لبراءة الطفولة ومرحها الفياض هنالك في إحدى بقاع السودان عند ملتقى النيل الأبيض بالأزرق قضت فتاة سني الطفولة التي مهدت لها الطبيعة هناك كل وسائل اللهو والنعيم، فحبتها ببساط لا نهاية له من الرمال الذهبية تنطلق فيه انطلاق الظبي في الفلوات. . كما زودتها بأشجار باسقة من دوم ونخيل وساسبان كانت رؤوسها حصناً منيعاً للطفلة التي كانت تهرع لتسلقها بمهارة القردة وخفة النسانيس إذا أصابها ذعراً أو لحقها وعيد! ولطالما وجدت الطفولة في أمطار السودان الغزيرة وسيوله المندفعة التي تكتسح الدور والأشجار والناس ما يثير اللذة والخوف معاً. . ومن ثوران الزوابع والعواصف التي كانتتنافس السيول في الجبروت وكثرة الأسلاب، كانت تستمد الطفولة الطليقة نوعاً من التسلية الممزوجة بالدهشة، وتنصت باهتمام إلى دوي العواصف وقصف الرعود التي تعلمت كيف تأنسن بها بعد أن تغلق الأبواب والنوافذ دونها! والحر على شدته وقسوته لا يضير الطفولة، لأنها بالنهار تلهو برؤية الطيور الفاتنة التي تنطلق أمامها مداعبة ومحاورة، فتطلق على ذات الريش الأخضر منها (عصافير الجنة) والأحمر (عصافير النار) وان كانت لا ترعى حرمة الأولى ولا تخشى حرارة الثانية! بل تجد في اللحاق بها دون جدوى. . على أنها سرعان ما تشعر بالجهد فتتجه دون ندم إلى مداعبة الغزلان الوديعة الجاثمة في الظل أو معاكسة الببغاء الثرثارة أو القردة والنسانيس المتمردة. . التي قلما تخلو منها حديقة من حدائق منازل السودان. . . وفي الأصيل عندما يهب عليل النسيم وتنخفض جذوة الحرارة ويسمع نعير السواقي يمتزج بأغاني السودانيين الرقيقة على ضفاف النيل، وتمتطى صهوة مهر أو حمار وتندفع بين الأدغال بمحازاة النهر العظيم بينما تتناثر عليها سلاسل ذهبية من أشعة الشمس المائلة للغروب. فتطل عليها من بين غصون الشجر مودعة وتكر راجعة إلى حيث تجتذبها أصوات الرفاق اللاعبين فوق بساط الرمل الوثير. . وسرعان ما تنبثق النجوم في القبة الزرقاء. . ويتهادى القمر حتى يستوي على عرشه المتلألئ في صدر السماء. . بينما تتعالى تهاليل الأطفال البيض منهم والسود سواء. . لأن الطفولة تسمو فوق فوارق الألوان والأديان والأجناس. .
وهكذا كان يسود التفاهم والوئام بين الطفولة والطير والعجماوات والأشجار والعواصف والأمطار والناس - في حين كانت رتع آمنة في ذلك الفضاء غير المحدود الذي حبب إليها الحرية المطلقة طبعها على الصراحة وجعلها تهيم بالجمال في شتى نواحيه. . .
ولكن ما هي إلا عشية أو ضحاها حتى زلزلت الأرض زلزالها وقبض (سنخاريب) على معول يهدم به وكر السعادة. . . فاستفاقت الطفلة مذعورة في أحد أيام شتاء سنة 1924 ونظرت حولها فكادت تنكر الدار التي بها ترعرعت إذ هنا وهناك تكدس أمامها الأثاث في غير نظام وعهدها بدارها نموذج التنسيق والجمال. . . وإذا بالأم تقبل مرتجفة واجمة وتنادي الطفلة بصوت تخنقه العبرات أن أسرعي فقد أزف وقت الرحيل عن الديار نعم، وا أسفاه. . . لقد حل بالمصريين في السودان عام 1924 ما دهى بني إسرائيل في أورشليم في القرن السادس قبل الميلاد على يد الكلدانيين. . . ولم تطلب الطفلة إيضاحاً لأنها أدركت بغريزتها حدوث أمر جلل. . وهل بعد الطرد والتشريد من الديار من مصاب؟. . تركت الطفلة حجرتها في صمت رهيب، وسارت حتى بلغت حديقة الدار الفسيحة فأطلت على النيل برهة امتزجت فيها دموعها بمياهه، ثم توغلت بين الأشجار التي طالما احتمت برؤوسها كلما توعدتها أمها بالعقاب وتعلقت بغصونها، وأخذت تقبلها قبلات الامتنان والوداع. ومازالت تسير حتى بلغت مكان طيورها وحيواناتها العزيزة ووقفت أمامها في خشوع فأقبلت إليها النسانيس وتعلقت بشعرها ونظرت في وجهها كما لو كانت تستفهم سبب وجومها، واقتربت منها الغزلان وقد كان عهد الطفلة بها شدة النفور والابتعاد فوقفت أمامها كتمثال. ولم تكد الطفلة تجثو على قدميها لتعانق أعزاءها العناق الأخير حتى أقبلت الأم مهرولة، وجذبتها معلنة قدوم العربات. فاستسلمت الطفلة استسلام اليائس، على أنها سرعان ما وقفت عن المسير وأجهشت بالبكاء إذ تذكرت أنها تركت وراءها عصافيرها المحبوبة دون ماء أو غذاء، ولكن الأم رغم تأثرها العميق لم تدعها تفلت من يدها إذ كان عليها أن تحلق القطار.
بمثل هذه العجلة المؤلمة ختمت حياة الطفولة الرغدة في السودان وبمثل هذه القسوة انتزعت الطفلة البريئة من بين أحضان المهد الرؤوم دون إنذار. . فلا غرو أن يتضاعف حنينها إلى المهد المغتصب الذي له فوق قداسة ذكريات الطفولة السعيدة قداسة الماضي التليد: ماضي البطولة وبذل النفوس من أجل الخلود. . .
أسماء فهمي