انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 369/رسالة العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 369/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1940



الوضع الحقيقي لمشكلة

جابر بن حيان

للأستاذ أحمد زكي صالح

تقرير الأستاذ برتلو

وبرتلو هذا هو أول من تعرض لبحث مشكلة جابر بن حيان على منهج علمي منظم، وذلك في ثنايا عرضه لتاريخ الكيمياء في كتابه حيث يعرض برتلو منهجه قائلاً: (ولكي تجزئ هذه المشاكل العسيرة، ونعين بها مشاكل كتب جابر بن حيان، التي تعانيها هذه المرحلة العلمية، فإن الدراسة المباشرة للنصوص أو للتراجم اللاتينية تفيدنا أكثر إفادة، ولكن هذه الدراسة النقدية لا تكفينا تماماً، إذ أنه يبدو لي أنه من الضروري أن نستعين بدراسة المؤلفات العربية نفسها، وأن نقارنها بالنصوص اللاتينية المعروف أنها ترجمة لها. ولكن في ركاب الدهر، ولكن يوجد بعضها في المكاتب الأوربية مثل ليدن وباريس، وإن نشر هذه المخطوطات من الضرورة بمكان كبير، حتى تتم الدراسة المقارنة ذات الأثر الفعال في تاريخ العلوم. وحتى يتيسر لنا أن نضع تاريخ الكيمياء في وضعه الصحيح)

ثم بعد أن برتلو كتب جابر بن حيان التي لا يشك في أنها من تصنيفه يقول:

يسمح لنا تحليل هذه الكتب بأن نكون الفكرة العامة لمميزات جابر، وأن نتبين كيف أن هذا الكتب ترتبط ارتباطاً مباشراً مع عدد معين من الأفكار والآراء والنظريات التي تبسط في التراجم اللاتينية للكتب العربية مثل كتب أفلاطون وأرسطو والرازي وابن سينا وغيرها من الآراء والنظريات التي انتقلت عن طريق الكيمياء العربية إلى الكيمياء اللاتينية في القرن الرابع عشر من الميلاد. وفي حركة النقل هذه ظهرت قيمة جابر بن حيان وكيف عُد أستاذ الكيمياء في الإسلام

ويمكن أن ترد بعض هذه النظريات إلى أصول يونانية، ولكن الأعمال العربية لجابر تختلف تماماً من حيث عرض الأفكار وأسلوب البحث ومنهجه أو إثبات الظواهر ووضوح النظريات عن تلك الكتب التي ألفها منتحل اسم جابر - ليس فقط في أن الظواه الجديدة التي يشرحها هذا المؤلف كانت مجهولة تماماً عند العرب بل إنه من المستحيل أن نجد في المؤلفات التي تحمل اسم جابر في اللاتينية صفحة حتى ولا فقرة يمكن أن تعتبر ترجمة لنص عربي

ولكن هذا لا يمكن أن يقلل من شأن الكيمياء العربية التي أثارت تاريخ العلوم إثارة كبيرة إذ أنه عن طريقها أمكن معرفة تاريخ الكيمياء عند المصريين واليونان ثم في بيزنطة وعند السريان، ثم عند العرب أنفسهم

ثم أن كتاب ال لا يحتوي أي دليل يشير إلى أصله العربي سواء في منهجه أو في حقائقه أو في كلماته أو الأشخاص المذكورين فيه، ولا في الخرافات الإسلامية التي هو خلو منها تماماً

وليس شكي في أن كتاب السوما قد أُلف قبل القرن التاسع بأقل من شكي في أنه لا يوجد ثمة أصل عربي هو ترجمة له في مثل هذا التنظيم البديع وتلك الإبانة الوافية. إذ أن مؤلفات جابر العربية وأبحاث ابن سينا لا يمكن أن تملي علينا التسليم بان كتاب السوما ترجم عن أصل عربي

ونحن لا ننكر أن بعض العبارات قد اقتبست من مؤلفات جابر العربي، الذي لا زال وجوده. ولكن على الرغم من ذلك لا نستطيع أن نقول بإمكان أن يكون مؤلف هذا السفر الجليل عربياً مسلماً، إنما الافتراض الذي يبدو لي معقولاً هو أن مؤلفاً لاتينياً لا زال مجهولاً لنا تماماً كتب هذا الكتاب في النصف الثاني من القرن الثالث عشر من الميلاد ونسبه إلى جابر كما فعل الكيميائيون اليونان في مصر الذين وضعوا اسم ديمقريطس على مؤلفاتهم لديمقريطس كي تشتهر وكما فعل الكيميائيون السريان في نحلهم مؤلفاتهم لديمقرطيس كذلك

وقصارى القول إذن أن المؤلف اللاتيني - (المدعي الجابرية) قد احتل مكانة سامية في العالم الكيميائي بفضل وضوح منهج الـ وبامتيازها عن غيرها من المؤلفات العربية البحتة حتى صار هذا المؤلف في القرن الرابع عشر من الميلاد أساس الدراسة الكيميائية في العالم أجمع، ولكن نسبة هذا الكتاب للعرب أنفسهم أفسد كل تاريخ العلم لمنحه لهم هذه القدرة العلمية الإيجابية التي ما وجدت لديهم يوماً ما) مناقشة تقرير برتلو

يرى الأستاذ برتلو أن وضوح كتاب السوما وأسلوبه وتنظيم أبوابه وقوة نظرياته ومنهجه الخاص تكفل لهذا السفر الخروج عن دائرة التأليف الإسلامية، والدخول في دائرة التأليف اللاتينية، ولكن لم لا يكون جابر هو الذي كتب هذا المؤلف، بالعربية طبعاً، في أخريات حياته، بعد أن اكتمل له حظ كبير من المعونة العلمية ومن الآراء والنظريات السابقة له؟ ولكن هبني سلمت بأن جابراً لا يعرف التنظيم في مؤلفاته، وهذا بعيد جداً، فلم لا يكون هذا التنظيم وذلك الأسلوب اللذان ركز عليهما برتلو نقده الطويل، من عمل المترجم؟ وكل ما هنالك أن هذا السفر الكيميائي كان حظه أوفر من حظ غيره من الكتب، إذ وهب مترجماً ميالاً للأدب، ضليعاً في لغته، فاهماً تمام الفهم ما هو في سبيل ترجمته. وأؤكد أن هذه الأمور لو توافرت في أي مترجم لخرجت الترجمة وهي تضارع الأصل في وضوح الفكرة وجمال العرض

فالأساس الذي يعتمد عليه برتلو في نقده كتب جابر بن حيان أساس خاطئ، حظ الشك فيه راجح على حظ اليقين. ونحن نكتفي بان نسأل سؤالين:

أليس من اليقين القاطع أن أعمال جابر العربية التي في متناول أيدينا تدل على نبوغ وعبقرية؟؟ ولم لا تكون هذه الكتب اللاتينية الأربعة التي سبق أن أشرنا إليها في بدء المقال، قد ترجمت عن أعمال أخرى لجابر بن حيان؟

أما السؤال الأول فإن برتلو يسلم بأن الكتب العربية لجابر ابن حيان تدل على نبوغ وعبقرية

ولقد لاحظ الأستاذ رسكا خليفة برتلو في الاهتمام بمشكلة جابر بن حيان، أن عملين من المؤلفات التي نشرها برتلو إنما تدل على سمو وامتياز، وعلى عقلية نامية نابغة

أما السؤال الثاني: فإن إجابة برتلو عليه كما سبق أن بينا، لا تلزم الباحث بضرورة الاقتناع برأيه

وعلى ذلك فإن القول بأن هناك أسباباً وجيهة جعلت كيمائياً لاتينياً ينسب أعماله لجابر ين حيان لشهرته التي لم تأت فقط عن طريق التراجم العرضية كمذكراته ورسائله، إنما كذلك عن طريق التراجم اللاتينية لبعض المؤلفات العربية لجابر بن حيان الدالة على نبوغ وعبقرية، والتي أكثرها أهمية بدون شك هو كتاب السبعين الذي نشره برتلو وهوداس في سنة 1903 حسب مخطوط بالمكتبة الأهلية بباريس

ولما كان من المستحيل أن يكون لدينا رأي جازم في مستوى الأسلوب العلمي في ذلك الوقت فإنه ليس من الممكن أن نسلم بأن كتبا كتبت على أسس جديدة غير الأسس القديمة ليست من أعمال جابر بن حيان

ونحن لا نكتفي هنا ببيان استحالة صحة رأي برتلو من الناحية الأسلوبية فقط، إنما كذلك تحت أيدينا من النصوص ما يثبت قطعاً أن رأى برتلو في معالجته لمشكلة جابر بن حيان من الناحية الموضوعية خاطئ كل الخطأ كذلك

ونحن لا نكتفي هنا ببيان استحالة صحة رأي برتلو من الناحية الأسلوبية فقط، إنما كذلك تحت أيدينا من النصوص ما يثبت قطعاً أن رأي برتلو في معالجته لمشكلة جابر بن حيان من الناحية الموضوعية خاطئ كل الخطأ كذلك

والآن فلنقارن بعض النصوص اللاتينية التي يذهب برتلو أن جابراً لم يفطن إلى معانيها، أو إلى التجارب التي تشرحها، ببعض النصوص المسلم بأنها من عمل جابر بن حيان، من جميع العلماء المستشرقين:

أولاً: كتاب الاستتمام، هذا الكتاب ذكر في الفهرست لابن النديم، ويذهب المستشرقون إلى أن هذا الكتاب، أعني ترجمة باللاتينية التي نقلت بدورها إلى الإنجليزية تحت عنوان إنما هي منسوبة إلى جابر بن حيان انتحالا، التي لم يحاول العرب التفكير فيها. ونحن الآن نقتطف نصاً من هذه الترجمة اللاتينية ونصاً آخر من كتاب لجابر بن حيان بالعربية وهو (الإيضاح) وترى بعد ذلك هل حقاً يوجد تباعد بين الفكرتين؟

يقول كتاب ما ترجمته (تتركب جميع المعادن من أصل واحد هو الكبريت سواء كان نقياً أم لم يكن)

ويقول كتاب (الإيضاح) (مخطوط بدار الكتب بالقاهرة): (تتكون جميع الأجسام المعدنية في جوهرها من الكبريت الممتزج مع الزئبق. . . وإنها إن يختلف بعضها عن بعض فما ذلك إلا لسبب اختلاف خواصها العرضية) فأين إذن هذا التباعد بين النظريتين؟

ثانياً: كتاب السوما أي الجمع: ولعل هذا البرهان الذي سنسوقه الآن هو الذي سيضع المشكلة في وضعها الصحيح، فمقدمة الكتاب اللاتيني ترجمت عن العربية، إذ جاء فيها ما ترجمته (إن ما ذكر غير كامل في كتبنا السابقة قد أكملناه في كتابنا هذا)

وهذا ما يتفق تماماً وملاحظات جابر وتعليقاته في أنه قد فرق براهينه في كتب مختلفة. وهو قد قال: (إن البحث ينبغي أن يعمل بالشكل الذي يوافق الطبيعة)؛ كما يذكر أن الكيميائي يريد أن يقلد الطبيعة بوسائل مصطنعة. كما يذكر أيضاً أن الكيميائي ينبغي أن يكون مجتهداً في عمله مواظباً على الوصول إلى نتيجة نهائية، وألا يسلم لنتائج سريعة وظواهر خداعة

ففي كتاب الجمع أتى ذكر عملية التكليس في الفصل الرابع عشر؛ فبالرغم من أن التعاليم والأوصاف التي أعطاها جابر اللاتيني في وصفه لجهات التجربة وخطوات العمل فيها تتفق تماماً مع تلك التي قال بها جابر بن حيان في كتاب الخواص، الذي لا يشك أحد أنه من عمل جابر، فإن الأستاذ برتلو يعترف بأن عملية التكليس هذه لا نطير لها في الكتب العربية، ولكن من حسن الحظ، أو من سوئه، لا أدري، أن جابر بن حيان قد أفرد كتاباً لهذا الموضوع فقط هو كتاب (التكليس)، ولا يشك أحد أنه من عمل جابر بن حيان

فلنقارن النصوص، ونتركها تتكلم:

جاء في كتاب الجمع في النص اللاتيني ما ترجمته: (التكليس هو تأكسد المادة بواسطة التسخين، وذلك أنه يسلب الماء والرطوبة منها فتتجمع أجزاؤها، والسبب في ذلك هو أن تجفيف الكبريت وتلوينه وإفساده يمكن أن تمنع بواسطة التسخين، ولكن هذا المنع يختلف باختلاف الأشياء المتكلسة إذ أن الأجسام تكلس كما تكلس الأرواح، ولكن رغم ذلك توجد بعض الأشياء الخارجة عن طبقة هذه وتلك. . .)

(وكل معدن يكلس بطريقة تختلف عن الطريقة التي يكلس بها معدن آخر، ذلك لأنه يوجد بعض المعادن النقية الصافية بطبعها وفي هذه الحالة يكون الغرض من التكليس هو تحويل المعدن إلى مسحوق نهائي. أضف إلى هذا كله أن الحقيقة القائمة بأنه إذا طرقت الفضة حتى صارت صفائح رقيقة ثم سخنت بعد ذلك في درجة الحرارة الملائمة يمكن سحقها بعد ذلك مباشرة كالزجاج تماماً، ثم إذا صهرت مع البورق ترجع ثانياً إلى حالتها الأولى أي على صورة سبائك غير مطروقة). أقول إن هذه الحقيقة إنما وجدت في كتاب الخواص قبل غيره من الكتب، وهو كتاب لا يمكن أن يتطرق شك إلى أنه من عمل جابر بن حيان

وآية ذلك كله أن محتويات الكتب اللاتينية لها شبيه في محتويات الكتب العربية إن لم نقل إنها هي نفسها، وهو القول الأقرب إلى الحقيقة والصواب

(يتبع)

أحمد زكي صالح