مجلة الرسالة/العدد 368/لمح وجيزة عن
مجلة الرسالة/العدد 368/لمح وجيزة عن
كتاب الديارات
لأبي الحسين علي بن محمد الشابشتي
للأستاذ صلاح الدين المنجد
. . . وبعد فهذا كتاب جليل، حوى ما طَرُف من أخبار الأدباء وما لَطُف من سِيَر الشعراء وما فُقد من أحاديث الندامى وأفاكيه الأمراء في العصر العباسي الأول، سمّاه صاحبه (كتاب الديارات)، وجعلها سبيلاً إلى سرد ما حفظه من أخبار أهل الأدب وطرائفهم؛ فجمع فيه ما لا تجده في غيره من الكتب. فهو مؤلّف ثمين جدير بأن ينوّه به ويكتب عنه
كيف عثرنا عليه
عنيت منذ زمن طويل بدراسة أثر الأديار في الأدب العربي، فقد كان أهل بغداد يعيشون في عالم مِلؤه الهدوء والسلام، ساجين في النعيم، غارقين في اللذائذَ واللهو والمجون. وكانت الديارات من المواطن التي يحلو فيها الغناء والشراب، وتصفو بها القلوب والنفوس. وكان يرتادها خلعاء الشباب ومترفو الناس، ومُجّان الأمراء والشعراء؛ يجدون فيها ما تشتهي الأنفس من خمر ولذة وجمال. وكان أهل هذه الدايارت يرحبون بالطُرَّاق: يهشون لهم ويأنسون بهم، ويعطونهم من أنفسهم وأموالهم ما يشتهون، ليفتنوا المسلمين عن دينهم ويوجهوهم وجهة كلها فتون ومجون وإغراء، فكان الشعراء ومن اتبعهم يهتزون لمرأى الراح والريحان والبيض الحسان، فيجيش في صدورهم الشعر، ولكنه شعر رقيق فيه صفاء وملؤه أنغام، وصفوا فيه الدير والديار، والقسَّان والغلمان، والعذارى والمتبتلات، والصليب والناقوس، والخمر والنديم، والمسوح والصلاة. فقد وجدوا في هذه الأديار عالماً جديداً فيه بشر وانطلاق وسرور وحبور وسع الأخيلة وأبهج النفوس
وقد أورد ياقوت في معجمه طرفاً من الأشعار التي قالها روَّاد تلك المواطن. وقد نقل عن (الشابشتي) مؤلف هذا الكتاب كثيراً. ثم جمعت ما ذكره صاحب مسالك الأبصار في الديارات وأهلها، ووددت لو أقع على نسخة من كتاب الشابشتي، حتى زرت مكتبة المجمع العلمي العربي بدمشق، وعثرت فيها على نسخة فوتغرافية له، أخذت عن نسخة مصور أخرى من الخزانة التيمورية. وكان أحمد تيمور باشا قد أرسل فصوّرها عن نسخة خطية فريدة موجودة في خزانة برلين تحت رقم (1100)
قرأت الكتاب فأغرتني طريقته ونوادره وأخباره، وما ضم من أحاديث مفقودة وأشعار رقيقة مجهولة، وتراجم شعراء جمعوا بين الرقة والعذوبة فأتوا بشعر منه المطرب ومنه الراقص، فنسخت الكتاب، وعزمت على تحقيقه وفهرسته وشرحه وجمع ما ضاع منه وحفظته الكتب الأخرى، وبدأت العمل منذ شهور وشهور، ووضعت للأديار مخطَّطاَ يبيّن مكان كل منها. على أنى لاقيت في تحقيقه العناء والبلاء، ولا يعرف الجهد إلا من يعانيه، ولن يمضي إلا القليل - إن شاء الله - حتى يكون الكتاب جاهزاً
أول من نوه بالكتاب
وأول من نقل عن هذا الكتاب ونوه به هو السيد حبيب الزيات، فقد أخرج للناس في تموز من عام 1935 عدداً خاصاً من مجلة (المشرق) الكاثوليكية في بيروت عن (الديارات النصرانية في الإسلام)، فنقل عنه نقولاً كثيرة وبحث في الديارات ونشأتها وأهلها. ولكنه لم يتجرد في بحثه عن تعصب وافتراء، شأنه في مباحثه التي يديرها حول النصرانية وأهلها وأمورهم في الإسلام. على أنه نوّه بالكتاب وقال عنه: إنه جدير بالخدمة وجدير بالتحقيق
وصف الكتاب
والكتاب يقع في (135) صفحة فوتغرافية، كل صفحة ضمت صفحتين من صفحات الكتاب الأصلية، فيكون عددها إذن (270) صفحة، في كل صفحة - على الغالب - خمسة عشر سطراً، وقد كتبت بخط شديد الشبه بالنسخي، مضبوط قليل الأخطاء، أسقطت منه الهمزات، كما أسقطت منه (التعقيبة) في كثير من الصفحات، وما وضع منها فهو بخط يختلف عن خط الناسخ. وقد سقطت من أوله أوراق كثيرة فيها ذكر ديارات الشام. على أن في ياقوت ومسالك الأبصار نقولاً عن الشابشتي تتعلق بها
أما الصفحة الأولى منه فلم يظهر فيها إلا:
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد ثم يلي ذلك جمل مضطربة سقطت بعض كلماتها، وحروف وأرقام، ثم يبتدأ الكتاب بما يلي:
(الدار التي بناها الديلمي أحمد بن بويه بباب الشَّماسيَّة. وموقعه أحسنُ موقع. . . وهو نَرِهٌ كثير البساتين والأشجار. . . الخ)
وفي آخر صفحة منه:
(تمَّ كتاب الديارات بحمد الله وعونه وقوته وحسن توفيقه. ووافق الفراغ منه في ليلة صباحها يوم الخميس السادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلثين وستماية).
(كتبه العبد الفقير إلى رحمة الله عبد الحليم بن محمد ابن عبد الوهاب بن أحمد بن عربي الدمشقي، المعروف جده بالنحوي. وهو يسأل الله أن يغفر ذنوبه ويستر عيوبه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين).
نسخ الكتاب
وفي دار الكتب المصرية نسخة مخطوطة من هذا الكتاب. وقد أخبرني صديقي الأستاذ شكري فيصل بأنها رديئة قليلة الضبط لا يستطيع المحقق أن يعتمد عليها. وكنت أخبرت بذلك صديقي الجليل سيد النثر الأستاذ أحمد حسن الزيات بغية أن يعلمني شيئاً عن الكتاب، ولكنه تكرم فطلب أن (أنشر فصلاً منه وأن أكتب كلمة عنه) فخصصت هذه الكلمة بالرسالة، ومن أحق من الرسالة بهذه البشرى وهذه المباحث؟
وقد ذكر الأستاذ حبيب الزيات في رسالته (الديارات النصرانية في الإسلام):
(إنه كان من هذا الكتاب نسخة ثمينة مزوقة وقف عليها شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي في القرن العاشر للهجرة (عن ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر لابن طولون الحنفي، رقم 1422 من الخزانة التيمورية) ولا يخفى ما فاتنا بفقدها من الفائدة الجُلَّي، لإمكان دلالة ما فيها من الصور والأشكال على رسوم الديارات وضروب أبنيتها) (الديارات النصرانية: مقدمة)
فالكتاب إذن قيم ذو شأن لما جمع وحوى. ترى من هو مؤلفه الشابشتي. . .؟
والشابشتي هذا نديم بارع وأديب فاضل، ولاّه العزيز صاحب مصر خزانة كتبه، ولعله ألف هذا الكتاب وهو قائم عليها، وله تآليف كثيرة ضاع أكثرها، منها (اليسر بعد العسر) نهج فيه نهج القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) وما ندري أيهما أخذ عن صاحبه نهجه فقد كانا معاصرين ولكن توفي القاضي التنوخي قبل الشابشتي بأربع سنوات (توفي الشابشتي سنة 388 هجرية، وتوفي القاضي سنة 384) والمرجح أن الشابشتي أخذ عن التنوخي
طريقة الكتاب
قلنا إن المؤلف قد جعل الديارات سبيلاً إلى ذكر أخبار الشعراء والأمراء، فهو يذكر الدير وموقعه وما يحده وما يتصف به، ثم يذكر من زاره من الشعراء، ثم يستطرد إلى الشاعر فيورد ما قاله في الدير من شعر، ثم يتنقل إلى سرد أخباره، فإن كان الزائر من الندامى ذكر الخلفاء الذين نادمهم واستطرد إلى ذكر بعض نوادرهم، وإن كان من الأمراء ذكر بذخه وترفه ومجونه ولهوه ولك ما يتصل بحياته الخاصة بسبب، وهو بطريقته هذه قد ترجم لكثير من الشعراء والندماء والمغنين والولاة والخلعاء والأمراء والخلفاء وما بنوه من قصور وما أقاموه من حفلات وما أنفقوه من أموال. وفي الكتاب فصل فريد لم أعثر عليه في كتب الأدب وهو وصف حفلة أقامها المتوكل لأعذار المعتز وهو في منتهى الطرافة، وسننشره إن شاء الله في العدد القادم:
(دمشق)
صلاح الدين المنجد