انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 367/الحرب في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 367/الحرب في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1940



للأستاذ فوزي الشتوي

سكون الميادين البرية

سألني بعض القراء من أيام عن مدى التغير الذي حل بالموقف العسكري منذ تسليم فنسا (وهل يضعف تسليمها إنجلترا أم يقويها؟) وردنا على هذا السؤال بنعم ولا؛ فهذا التسليم يضعفها ويقويها، كما ترتبت عليه نتائج لها خطورتها. فبعد ما كانت نهاية الحرب رهن معركة برية وانهزام بري، يعقبه انحلال ألمانيا السريع، لم يبق تسليم فرنسا من مجال يؤدي إلى هذا الغرض، وتبعاً لذلك يرى بعض العسكريين أن الحرب قد تطول فيمتد زمنها إلى عدة سنوات

أما الأسباب التي يستندون إليها لإطالة الحرب فهي:

أولاً: سكون القوات البرية، فلم يعد من صلة مباشرة بين قوات إنجلترا وقوات المحور في أوربا، فلا توجد منطقة تعتبر معاركها حاسمة وتقرر النصر والهزيمة، فإن السلاح الجوي وحده ليس كفيلاً باحتلال البلاد، ويقتصر عمله على إضعاف الروح المعنوية في الشعوب، وعلى تدمير المرافق الحيوية التي تغذي الجيوش.

ثانياً: اتساع موارد دولتي المحور، مما يتيح لهما إطالة زمن الحرب، فهما تسيطران الآن على جميع موارد أوربا من صناعية وغذائية، ونضوب هذه الموارد ليس من الأمور اليسيرة؛ فموارد بلدان أوربا عظيمة، وبهذه البلدان أكبر مصانع العالم، وضعفها الوحيد، هو حاجاتها إلى بعض المواد الأولية التي تستورد من أمريكا أو من المستعمرات كالقطن والمطاط والبترول وغيرها من المعادن التي تدخل في صناعة الطائرات والذخائر.

موطن قوة ألمانيا

وإذا كان اختفاء الميادين البرية من الحرب الحالية يطيل الحرب، فإنه قد قوى مركز إنجلترا قوة لا يستهان بها وجعلها حصناً منيعاً، فإن استعداد ألمانيا البري والجوي استعداد لم يسبق للعالم أن رأى شبيهاً له، فهي تمتاز بمعدات برية سلم قادة الحلفاء أنفسهم بأنها معدات ساحقة. ومن حسن حظ إنجلترا أنها جزيرة لا تستطيع ألمانيا أن تنقل إليها هذه المعدات فبطل عملها. فالموقف الحالي إذن وفر على إنجلترا الاصطدام بنقط ألمانيا القوية، وأتاح لها تدميرها شيئاً فشيئاً، كما أتاح لها الوفرة من الزمن إذ تستطيع أن تعد ما يضارعها ويفوقها

حكم تسليم فرنسا على قوات ألمانيا البرية بالنوم، ولم يبق لها إلا القوة الجوية، وهي تفوق القوة الجوية البريطانية من الناحية العددية، ولكنها في الوقت نفسه تعتبر أضعف من القوة الجوية البريطانية إذا نظرنا إلى مجال كل من القوتين ومدى تأثيرهما. ونستخلص هذه النتيجة من ثلاثة عوامل:

1 - اتساع رقعة الأراضي التي يحتلها الألمان

2 - صغر رقعة الجزر البريطانية

3 - استعداد إنجلترا للدفاع الجوي

فأما اتساع رقعة الأراضي التي يحتلها الألمان، فتستطيع إدراكه من نظرة واحدة نلقيها على خريطة أوربا فنرى المساحة العظيمة التي يضطر الألمان للدفاع عنها، وصغر الرقعة التي يدافع عنها الإنجليز. وفيما يلي بيان تقريبي لمساحات هذه الأراضي التي يحتم موقف ألمانيا العسكري الدفاع عنها

الدولة

مساحتها بالميل المربع

ألمانيا

185. 998

النمسا

32. 000

دانزج

745

تشيكوسلوفاكيا

40. 865

بولندا (الألمانية) 70. 000 (؟)

بلجيكا

11. 752

هولندا

12. 582

دنمرك

16. 570

النرويج

124. 964

فرنسا (المحتلة)

141. 972 (؟)

إيطاليا

119. 744

ألبانيا

10. 600

المجموع

767. 784

ويقابل هذه مساحة الجزر البريطانية وهي 115. 338 ميلاً مربعاً. أي أن مساحة الأراضي التي تدافع عنها دولتا المحور ستة أمثال مساحة الجزر البريطانية. فلتساوي قوات الدولتين الجوية يجب أن تكون قوات ألمانيا ستة أمثال قوات إنجلترا وهذا يخالف الواقع

سلاح الطيران

فقد كان مجموع الطائرات الألمانية في سبتمبر سنة 1939 22 ألف طائرة يضاف إليها سلاح الطيران الإيطالي وعدد طائراته خمسة آلاف طائرة. وكان عدد الطائرات البريطانية في ذلك الوقت 17 ألف طائرة يضاف إليها ما اجتلبته من الولايات المتحدة وكان مجموعه إلى الشهر الماضي 2500 طائرة، وقد تدرج هذا المجموع في النمو تدرجاً مطرداً بفضل نشاط المصانع الإنجليزية حتى أصبح التفوق العددي لدولتي المحور تفوقاً غير مذكور

ولا ننسى في هذا المجال جرأة الطيارين البريطانيين وحسن مرانهم، مما يتيح للسلاح البريطاني التفوق الفني على السلاحين الألماني والإيطالي، مما ألقى الرعب في قلوب الطيارين النازيين ودفع بإذاعة برلين إلى الشكوى من قسوة الإغارات البريطانية على ألمانيا

أما العامل الثالث وهو استعداد الجزر البريطانية للدفاع الجوي، فقد ثبت أن الطائرات الألمانية تجد صعوبة كبيرة في مهاجمة إنجلترا وخصوصاً المرافق العسكرية فيها؛ فلندن مثلاً تحاط بسور من المناطيد الجوية التي ترتفع إلى طبقات الجو العليا وتهبط منها أسلاك متينة مشدودة إلى الأرض، فإذا حاولت الطائرات اختراق هذا السور فإنها تصطدم بالأسلاك وتتحطم، فإذا أرادت التحليق فوق المناطيد، استحال عليها ذلك نظراً لتخلخل الهواء في تلك المناطق وقلة الأكسيجين اللازم للجسم، فيموت الطيار قبل أن يصل إلى ارتفاعها

وأفاد تسليم فرنسا من جهة أخرى، فإن معدات الدفاع ضد الغارات الجوية من طائرات مطاردة ومدافع مضادة للطائرات بعدما كانت موزعة في فرنسا للدفاع عن القوات والبلاد الفرنسية عادت إلى الجزر البريطانية وتركزت في رقعتها الصغيرة لاستقبال الطائرات المعادية، فازداد عددها وأصبح مجموع النيران التي تقابل بها الطائرات المغيرة أكثر مما كان قبلاً، ففشلت الطائرات الألمانية في الوصول إلى أهدافها

ولسنا في حاجة إلى تكرار القول بأن قوات بريطانيا البرية أصبحت الآن مركزة في الجزر البريطانية لاستقبال ما قد يرسله هتلر من قواته إليها مما يضمن لها التفوق على ما قد تنقله الطائرات، أو ما قد يفلت من حصار الأسطول البحري، إذا تيسر لبعض السفن الإفلات

وكان من نتيجة تسليم فرنسا زيادة أعباء الأسطول البريطاني واتساع مساحة المناطق المحصورة بحرياً، فبعدما كانت مناطق الحصر قاصرة على بحر الشمال مرتكزة إلى القواعد الفرنسية، شملت جميع سواحل أوربا مرتكزة على جبل طارق، وهي مهمة قاسية خبر الأسطول البريطاني تنفيذها في تاريخ إنجلترا وحروبها الطويلة لأسباب عائلية

وكنا نأمل أن تنضم قوات المستعمرات الفرنسية إلى الجانب البريطاني، ولكن يظهر أن حال الفرنسيين تغيرت، وأن دعاة الهزيمة في فرنسا غلبوا على ما في القواد الفرنسيين من وطنية وحب للحرية؛ فأعلنت قوات الجزائر وتونس وسوريا تسليمها لأسباب مضحكة، فقال الجنرال ميتلهوزر إن له عائلة في ستراسبورج فهو يخشى إذا استمر على القتال أن تضطهد، فهو على رأي أحد القراء الكرام: يقف القتال (لأسباب عائلية)

فهذا السبب يدعو إلى الضحك، وشر البلية ما يضحك، فهل هؤلاء قادة؟ ألم يكن في استطاعته أن يستقيل بدل أن يقول مثل هذا اللغة؟

في المستعمرات

وخسرت إنجلترا في المستعمرات الفرنسية القوات المقاتلة في تونس والجزائر، فإن وجودها كان عاملاً له أثره في القتال في ليبيا، لأنها كانت تضطر القوات الإيطالية هناك إلى القتال في جبهتين، فتقاتل من الغرب القوات الفرنسية، ومن الشرق القوات البريطانية؛ ولكنها الآن تستطيع أن توجه جهودها إلى الميدان الشرقي وحده. وأدى تسليم قوات سوريا ولبنان إلى فائدة تلك البلاد، فاتفقت تركيا والعراق على استقلاها، وهي بشرى حسنة للأقطار الشرقية. أما في الصومال الفرنسي فقد رفضت القوات الفرنسية وقف القتال، ولهذا القرار أثره، فإن جيبوتي هي المدخل البحري المتصل بالحبشة

وتنبأنا منذ توقيع الهدنة أن الأسطول البحري الفرنسي سيخير بين شيئين، فإما أن ينضم إلى الأسطول البريطاني في كفاحه وإما أن يغرقه، وقد تحقق ما تنبأنا بوقوعه، فعند ما عارض قادة الأسطول الفرنسي الطلبات البريطانية وجهت الوحدات الإنجليزية نيرانها إليه فأغرقت بعض قطعه ودَّمرت قطعاً أخرى حتى أصبح استعمالها متعذراً، إذا قدر لها أن تقع في أيدي الأعداء

موقف حازم

وأعجب العالم بحزم الحكومة البريطانية في هذا الموقف، إذ ضمنت بتصرفها حرمان دولتي المحور من أسطول بحري كبير، يفوق في استعداده وعدد قطعه الأسطول الإيطالي؛ فلو وقع هذا الأسطول في يد هتلر وموسوليني لسببا لإنجلترا كثيراً من المتاعب سواء في البحر الأبيض أو في المحيطات، إذ تستغل قطعه في أعمال القرصنة، ولا عبرة بما وعدا به من عدم استعماله، فإنهما يدفعان بفرنسا الآن إلى إعلان الحرب على إنجلترا مستغلين ضعف وزارة بتان

ولا ندري بالضبط مدى التهديد الذي يوجهه النازيون إلى قادة الفرنسيين، ولا مدى الوعود المعسولة التي يمنونهم بها، ولكنه مما لا شك فيه أن الوزارة الفرنسية واقعة تحت ضغط شديد يفقدها حرية التفكير والعمل. ويقال إن الألمان يهددون الفرنسيين بنسف مدن كاملة إذا لم تنفذ الهدنة تنفيذاً دقيقاً، وإذا لم يخضع الفرنسيون لجميع طلباتهم، ومثل هذه الوحشية ليست بعيدة عن الألمان

في البلقان

كتبنا في مقالنا الماضي في حركة الروسيا في رومانيا، واستنتجنا منها أن الروسيا تتبع سياسة خاصة لا تتقيد فيها بدولتي المحور ولا بالحلفاء، مستغلة الظروف الحالية، وأنها تتجه في سياستها إلى الاستيلاء على بترول أوربا وتقوية مركزها العسكري. فالروسيا مشتركة في المؤامرة الديكتاتورية على الدول الديمقراطية، ولكنه اشتراك ظاهري كما يبدو لنا، الغرض منه حصولها على أهدافها على حساب غيرها، دون أن تكلف نفسها خسائر حربية. وقد تم حتى الآن كما نرى نصف المؤامرة ولم يظهر بين المتآمرين خلاف كبير أو تعارض في المصالح، وبدأنا نشعر بأن تحقيق مؤامرتهم على وشك أن يفشل، لأن الروسيا هددت باستيلائها على بساربيا وشمال بكوفينيا مصالح دولتي المحور في البلقان. فإن المدى الذي تهدده الروسيا لا يمكن أن يكون داخل نطاق المؤامرة، فالتسليم به بمثابة تسليم رقبة دولتي المحور للروسيا الشيوعية التي تخالفهما في المبادئ والمصالح، والتي طالما نعتوها بأقبح النعوت.

في أحضان النازية

وظل الشك يخالجنا في موقفها في الفترة الماضية، ولكن حوادث رومانيا الأخيرة أزالته، وأكدت لنا أن علاقاتها بهما ليست صافية، وأن حركاتها ليست متفقاً عليها كما يتوهم البعض. فبعد استيلائها على مقاطعتي بسارابيا وشمال بكوفينيا يذاع أن وزارتها أعيد تشكيلها وأن بعض أعضائها من حزب الحرس الحديدي، وهو حزب نازي المبادئ والميول، ثم يعلن أيضاً أنها ارتمت في أحضان ألمانيا

وليس لهذا الموقف إلا تفسير واحد، وهو أن رومانيا تطلب حماية ألمانيا من الروسيا، فليست بسارابيا وبكوفنيا إذن هما كل ما تريده الروسيا، بل إن رومانيا تشعر بأن جعبة الروسيا لم تفرغ فهي تسعى وراء شواطئها الساحلية ومنابع بترولها، وإذا قبلت ألمانيا شرط الحماية فهي تقبل تبعاً لذلك موقف معارضة الروسيا، وتلوح لها بأنها تعارض تحقيق مطامعها، ومعنى ذلك انهيار جزء كبير من المؤامرة الدكتاتورية

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة