انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 366/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 366/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1940



جندي مرابط

للأستاذ محمد سعيد العريان

(راجح! حبيبي! أرجوك. . . إن العدوّ لا يرحم، ولا يعفو؛ فلا ترمِ بنفسك إليه. . . احرص على حياتك من أجلي يا حبيبي! عِش لي، أْوْلا، فاقتلني وأسدل بيديك أجفاني قبل أن أرى فيك مصارعَ أهلي وأهلك يا راجح!)

كانت (بدرية) تتحدث إلى فتاها وقد أمسكت بيديه، ورفعت إليه عينين مخضلّتين بالدمع وفي صوتها نبرة يأس وأسى. كانت موقنة بأنه لن يستمع إليها، ولن يجيب؛ ولكن جذوة الحب التي تؤج في صدرها كانت تبعث في نفسها إثارةً من الرجاء! واستمع إليها الفتى صامتاً وفي قلبه عواطف تصطرع، وفي رأسه خواطر تموج وتتدافع؛ وأوشك أن ينتكث عزمه، حين التقت عيناه بعينيها الدامعتين وأحسّ شَدَّ يديها على يديه كأنما تخشى أن يفر إلى أجله قبل أن تُقلى إليه كلمة الوداع!

وبرز القمر من خلل أعذاق النخيل، فألقى شعاعه على وجه الفتى والفتاة جالسين مجلسهما على مقربة من مضارب الحيِّ، وقد سكن كل شيء منهما ومما حولهما، إلا قلباً يجف وأنفاساً تتردّد. . .

وثابت إلى الفتى نفسه حين أذكرتْه صاحبته مصارع أهلها وأهله؛ لقد كان موشكا أن يخور وتضعف عزيمته، ولكن ذكرى أهلها، وأهله. . . ووطنه. . . قد ردّته إلى رأيه، فأفلت من يدي صاحبته ووقف، وهتف:

(نعم. . . ولكنَّ دم آبائي يا بدرية، ودم أبيك، وشرف الوطن. . . يناديني؛ لقد أقسمتُ أن أنتقم أو أموت، وسأنتقم، أو أموت. . . ويومئذ ألقى آبائي، وآباءك، رافع الرأس فخوراً بما بذلت لأهلي ووطني، من دمي. . .!)

وراح يدبّ على رمال الصحراء، تحت ضوء القمر، وبندقيته على كتفيه؛ لم يحاول أن ينظر إلى وراء فيودْع الفتاة التي كان كلَّ شيء في دنياها وكانت؛ ومضى ليجيب داعي الوطن!

كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، حين زحفت الجنود المغيرة من مربضها الذي ترابط فيه منذ سنوات على ساحل برقة، تحاول أن تبسط سلطانها على الجنوب كما بسطته على الشمال لتعيد مملكة الرومان في جوف الصحراء وتنشىّ لها عرشها من جريد النخل في ظلال أغصان الزيتون. . .

واصطرعت قوتان، أما إحداهما فكانت تملك الحديد والنار وفي يدها السيف والذهب، وأما الأخرى فكانت تملك الإيمان بالله، والإيمان بالوطن. . . وترامى الفريقان بنبالهما، وسال الدم، وعقد الدخان ضبابة سوداء فوق رءوس العسكرين، ودارت رحى المنون!

وانتبه الفتى والفتاة من سكرتهما وحيدين قد فقدت أباها وفقد أباه وعمه؛ فأقسم من يومئذ قسمه وأبرم عزمه. . .

. . . وخلف الفتاة في الحي تنتظر مآبه!

لم تهدأ ثائرة البادية حين خيل للفتاح المغير أنْ قد غَلب وتسلط، ولكن جمرات تحت الضلوع تبص بصيصها ثم تختفي، ولا تخبو

وقاد (راجح) فرقته الصغيرة فمضى بها حتى أوى إلى غار في طريق الرائد والسابل والقافل، يتربص على حذر ورقبة؛ فما يمر به وليٌّ ولا عدوٌّ إلا عرَّفه نفسه وحيَّره بين عاقبتيْه. . .

وشَرِىَ أمرُ الفتى وعزّ جنده، ووفدت إليه الوفود من أبنا البدو وأفلاذ الصحراء مذعنة لأمره مطيعة، وعقدوا له اللواء؛ وحار العدو حيرته فما عرف سبيلاً إليه ولا منجاة منه، وإن له العدد والقوة والعتاد!

وترامت أخبار الفتى إلى فتاته، فرفعت عينيها إلى السماء تدعو الله مشفقة راجية!

وبّث العدوّ سراياه بين الكهوف والوديان يطلب أثره ويلتمس غِرّته، وراحت الدبابات تطأ الأخبية وتجوس خلال الديار، وحلقت الطيارات تقذف اللهب وترمي بالصواعق، ومضت الكتائب المكتَّبة تحاصر القرى وتقطع الطريق؛ وانكشف المخبأ، ونشبت المعركة في ضوء الصبح؛ وكان ما لابد أن يكون، وأمعن العدوّ قتلاً ومُثله حتى بلغ مبلغه؛ وتبدد الجيش الصغير الباسل وتقسمته بطونُ الأرض أشلاءَ وجماجم. . .

وحلقت طيارات الجيش الظافر ترسل تحيتها إلى القرى المغلوبة قذائف من جماجم بنيها الشهداء؛ وليس الحدادَ شعب بأسره؛ وأحدثت (بدرية) على فتاها كما أحدِّت على أبيها وأهلها من قبل!

وفي بيت من الشَّعر إلى جانب الصحراء في غرب الإسكندرية، رأيت بدرية منذ ثلاث سنين. . .

كنت أصطاف يومئذ هناك، وكان بيتها على مقربة، فإنها لتغدو عليّ وتروح كل يوم لحاجتها بين السوق والبيت؟ فأراها. . .

لم أكن أعرف شيئا عن ماضيها، ولم يحدثني أحد بخبرها وإنها لواحدة من كثيرات من الأعراب قد ضربن خيامهن هناك؛ ولكن مرآها كان يثير في نفسي فضولاً عجيباً؛ فما أكاد ألحظها قادمة من بعيد حتى تطيف بي خواطر وأسئلة لا أجد في نفسي جوابها؛ فأتبعها عيني حتى تغيب. . .

كانت بزيَّها، وعينيها، وشفتيها المطبقتين أبداً على ابتسامتها العابسة - تماثلاً صامتاً يرمز إلى أبلغ معاني الوحشة واليأس والحرمان، حتى لا يملك من يراها إلا أن يتخشع ويصمت؛ وكان لها جمال، وفي عينيها وداعة، وعلى جبينها طهر؛ وعلى أنها فيما تبدو لمن يراها جاوزت الأربعين فقد كان لها روح الطفل وخفته

. . . وعرفتُ خبرها من بعد، فأعظمتُ وفاءها، ورثيت لها.

لقد مضت بضع عشر سنة، منذ تلك الليلة التي خلَّفها راجح ومضى لأمره، يحاول أن يثأر لقومه؛ ولكنها ما تزال بعدُ كأنها منه على ميعاد، وكأنما كان ما كان منذ أيام. لم يزدها مرُّ السنين وحادثاتُ الليالي، وفراقُ الوطن، إلا وفاءً لذكراه

وجَلَتْ عن أرضها مكرهة فيمن جلا من عمومتها وبني أبيها، ولكن قلبها بقي هناك، حيث وقفت لآخر مرة تُتبعه عينيها وهو ماض لأمره تلفُّه ريح الصحراء في الليل القر!

وقنعتْ بذكراه عن الأمل في لقياه منذ جاءها النبأ الفاجع! ونذرت نفسها للوفاء بعهده، فلم تتزوج، ولم تخلع الحداد! ونسيتْ ما كان من ماضيها ومن أيامها، إلا صورته وذكراه! وتأيَّمت العذراء ولما تخلعْ أبراد الشباب!

وكانت بدرية في فراشها حين دوّتْ صفارةُ الإنذار لأول مرة في الإسكندرية، تنذر أهلها ليأخذوا أهبتهم للكفاح؛ وأشرق الصبح وقد هجر المدينةَ نصفُ أهلها فراراً من الموت؛ فحملتْ بدرية متاعها ومضتْ مع الناس تلتمس سبيلاً إلى النجاة! يا رحمتا للمسكينة مما يطاردها من أحداث الليالي!

وأعياها السير، فحطَتْ متاعها عن كاهلها وجلست تستريح على حيد الطريق، حين مر بها فوجٌ من الجند فمدّتْ عينيها تنظر. . .

ونظرتْ، فعرفت، فهتفت. . .

ولكن هتافها تلاشى في ضجة الناس وزحمة الطريق؛ ومضى الجند ومضت تعدو في آثارهم وتركت متاعها تتقاذفه أقدام السابلة. . .

وانقطع بها الطريق فما بلغتْ ولا بلغ صوتها إلى من يَسمع، وكأنما كانت تنادي مُناديً من التاريخ يفصلها منه بضعة عشر عاماً من عمر الزمان!

وهامت المسكينة على وجهها ذاهلة لا تكاد تعي شيئاً مما ترى أو تسمع، ليس لها هدف فيما تسعى ولا غاية إلى ما تسير!

وأعيتْ بعد جهد فسقطت في الطريق لا حسٌّ ولا حركة ولا حياة؛ ثم أفاقت لتسأل نفسها ويسألها الناس فلا تجد الجواب!

وتتابعت على عينيها ذكريات الماضي يوماً يوماً منذ كانت حتى صارت؛ ونظرت يمنة ويسرة، ثم انطلقتْ تعدو. . .!

وعرفتْ بعد لأي أين تقصد، فمضت في طريقها. . .

. . . والتقى في خيمة الضابط المشرف على فرقة المتطوعين من أعراب الصحراء شخصان لم يلتقيا منذ بعض عشرة سنة، أما أحدهما ففتاة في الأربعين قد تقنعت بلفاع أسود حائل، وعليها ثوب أسود مرقوع، وترف على شفتيها ابتسامة لم تنفرج عن مثلها شفتاها منذ سنين. وأما الآخر فرجل أشمط مخدّد الوجه في جبينه شجّة ملمومة، يلبس حلة عسكرية وعلى رأسه طربوش بدوي غليظ يكبس أذنيه ويتدلى زره على قفاه. . .

وقالت الفتاة: راجح!. . .

وغصت بريقها وتسابقت بوادرها على خديها!

وقال الرجل: لم أكن أظن يا بدرية!

وكان الضابط جالساً إلى منضدة في صدر الخيمة يسمع وينظر ويبتسم ابتسامة الغبطة والرضا! وعادة بدرية تقول: راجح. . .!

وربت راجح على كتفيها وهو يبتسم، وقال: لا تخشى بعد اليوم شيئاً يا بدرية؛ لن نفترق بعد؛ لقد دنا اليوم الذي أرتقب يا عزيزتي من زمان، لأغسل الدم بالدم، وأنتقم، فنعود أعزَّة إلى الوطن الذي أكرهنا على هجرانه، ويومئذ. . .

وطأطأت بدرية رأسها من حياء، واسترجعت أماني عاشت بها حيناً وعاش فتاها؛ وسرحا بأفكارهما إلى بعيد؛ إلى حيث كانا يلتقيان كل مساء تحت ضوء القمر في ظلال النخيل القائمة على مقربة من بيوت الحي، يتساقيان ويتناجيان نجوى الشباب؛ وابتسم، وابتسمتْ. . .

ودوى بوق المعسكر يدعو فرقة المتطوعين من أعراب الصحراء إلى نَوبتهم في العمل؛ فهب راجح واقفاً ومضى إلى واجبه، تتبعه عينان تفيضان بالحب والحنان، ولسانٌ يخافِت بالنجوى والدعاء!

محمد سعيد العريان