انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 364/مدينة النور تعاني ظلام الخطوب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 364/مدينة النور تعاني ظلام الخطوب

مجلة الرسالة - العدد 364 المؤلف زكي مبارك
مدينة النور تعاني ظلام الخطوب
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1940


للدكتور زكي مبارك

قُضِيَ الأمر وسقطت باريس بين أيدي الألمان!

فمن كان يستبعد أن تميد الجبال فليعرف اليوم أن الوجود لا يعرف المستحيل. ومن كان يرتاب في (يوم القيامة) يوم (الفَزَع الأكبر) فليتصور الساعة التاريخية التي اعترف فيها الجيش الفرنسي بأنْ لا فائدة من الدفاع عن باريس

ولكن أي جيش؟

هو جيش صام عن النوم والطعام سبعة أيام إلى أن لم يبق من قُواه غير أشلاء، وكان مع ذلك يحب أن يقاتِل إلى أن يبيد وهو يذود عن باريس، ولكنه خاف على ذخائرها الغالية فقرر أنها (مدينة مفتوحة) ومضى يقاتل قتال اليائس المستميت في مواضع لا قِلاع فيها ولا حُصُون

إذاً حقت المخاوف وسقطت باريس، باريس صاحبة الحق على جميع الشعوب بفضل ما علمت الناس أصول الثورة على الظلم والاضطهاد

فإن قال قائل إن باريس هي عاصمة فرنسا الاستعمارية، فليذكر أنه لم يَثُر ثائرٌ على الاستعمار في مَشرق أو في مغرب إلا وفي روحه جذوة من النار التي أوقدتها باريس للغضب على استعباد الشعوب

أقول هذا وقد لامني صديقٌ على التوجع لمصير فرنسا في مقال نشرته بجريدة الأهرام منذ أسابيع، وكانت حجته أن فرنسا صنعتْ في الشرق ما صنعت، وأنه لا يجوز الحزن على أمة تحملها القوة على أن تبغي وتستطيل

وهل كنت أجهل عيوب الأمم الاستعمارية حتى يدلني عليها ذلك الصديق؟

إن الأسد هو الصورة الفظيعة للبطش والفتك والافتراس، ولكن هل يشمت الُحرُّ بالأسد حين يراه في مدارج الضيم والاستذلال؟

ذلك حالي في التوجع لفرنسا الجريحة، وقد حاربتها بقلمي مرات حتى صح لوزير الخارجية الفرنسية أن يعارض في منحي وسام الأكاديمي سنة 1931 وهو سرٌّ لم أذعه قبل اليوم، وما أذيعه الآن إلا ليعرف الصديق المتعتِّب أني لا أهتم بغير المعاني.

وقد مُنِحتُ ذلك الوسام بعد ذلك الوسام بعد تلك الجفوة في سنة 1936 فلم أر فيه إلا تحية لرجل يصادق فرنسا صداقة علمية لا سياسية.

ومن كان في مثل وطنيتي فهو فوق الشُّبهات والظنون، والصدق في الوطنية من أشرف الأرزاق

إن الضعيف هو الذي يشْمتُ بالقَويّ حين تزلّ قدماه، فليعرف ذلك من يحس الشماتة بمدينة النور، على عهودها الزواهر أطيب التحيات!

وهل أملك إخفاء حسراتي على ما صارت إليه باريس؟

وهل يستطيع أديبٌ ألمانيُّ أن يُخفى لوعته على مصير تلك المدينة وهو عدوُّ حتى يستطيع أديبُ مصريٌّ أن يخفي لوعته وهو صديق؟

حدثتنا البرقيات أن الجنود الألماني طافوا بشوارع باريس وهي خالية، فأي أديبٍ لا يتفطَّر فيه حُزْناً حين يسمعُ أن شوارع باريس عرفت الهدوء لحظة من زمان؟

هي لفتة من لفتات الدهر الغادر الذي يرى كسوف الشمس وخسوف القمر ضرباً من ضروب المزاح

هي وثبة من وثبات القدر الذي يزلزل الوجود حين يشاء

فمن كانت عنده بقية من الصبر على مكاره الأيام فليتفضل عليَّ بكلمة عزاء لأتناسى أصدقائي في باريس، أصدقاء العهد الجميل يوم كنت طالباً في السوربون، التي صارت اليوم قفراً بياناً لا يطوف بأركانه غير الشامتين من غُلْف القلوب

باسم القوة غُزِيت باريس، وذلك جزاءٌ وِفاق، فليس في باريس مكان إلا وهو نِديُّ للثرى بالدماء المسفوكة في سبيل الحرية، والحرية من أسماء القوة، والرجل الحرُّ لا يرضى الموت بغير السيف، وكذلك تستشهد باريس. فإن استطاع الألمان أن يخمدوا اللهب الذي يتوقد فوق قبر (الجندي المجهول) تحت (قوس النصر) فسيذكرون بعد حين أن تلك الجذوة ستنقلب إلى سعير يفتك بمجامع الأضغان، ويرد الدنيا إلى عهدها القديم يوم كانت دار علوم وآداب وفنون، كما كانت لعهد باريس قبل أن يحولها إلى أشباح لا تملك الجواب بغير الصمت البليغ!

إن لبست باريس أثواب الحداد في سنة 1940 فقد ألبست برلين أثواب الحِداد في سنة 1918. والحروب قُصاص، وكما يَدين الفتى يُدان. وهنيئاً لمن يحمل السيف فينتصر في وقائع وينهزم في وقائع، فما الحياة الحق إلا عراك ونضال وقتال

ومن ظنّ ممن يلاقي الحروب بأنْ لا يصاب فقد ظنّ عجزَا

وهل كفت باريس عن الدعوة إلى الحرب حتى تنكر عواقب الحرب؟

في باريس مئات من التماثيل لعظماء الرجال الذين كافحوا في مختلف الميادين، وفي كل خطوة يخطوها زوّار باريس أثرٌ ينطق بأن مدينة النور لا تعرف الحياة في غير الصراع والصيال، فما جَزَعُك يا باريس وأنت صيرت الحرب من شرائع الوجود؟

إن قوة الألمان فيضٌ من قوتك يا باريس، فأنت غرستِ الحقد في صدورهم، وأنت قهرِتهم على أن يتربصوا بك الدوائر عشرين سنة ليلقَوك بأفئدة موتورة لا يشفي غليلها غير الولوغ في دماء الرجال

فبفضلك استطال الألمان يا باريس ولولا خشيتهم مما تملكين من عظمة وجبَرُوت لما وصلوا في التسلح إلى الحد الذي يسمح بأن يقهروك على إلقاء المقاليد

وانهزامُك يا باريس سيكون درساً لأبناء الجيل الجديد، وبه يعرفون أن لا قيمة للاعتماد على التاريخ، وأن لا قيمة للتمدح بالفضائل الإنسانية، فما زال أبناء حواء يخضعون لفطرتهم القديمة يوم كانوا من جيوش الغريزة قبل أن يصيروا من رجال الوجدان

ألم أشهد العجائب في الأعوام التي قضيتها في السوربون؟

كان شبان فرنسا في ذلك العهد يرون الحرب من بقايا الوحشية، ويَتواصَوْن بأن يكونوا أنصاراً للسلام مما تغلبت الظروف، ثم سمعتُ بعد أن فارقت باريس أن أقطاب فرنسا يختلفون حول فكرة التسلح وأن فيهم من يرى أن ترصد جميع أموال الدولة للمنشآت العمرانية والمدنية

وذلك ذنبك يا باريس، فأنت وثقت باعتدال الموازيين قبل أن تستعد فطرة الإنسان الحيوانية للترحيب باعتدال الموازيين

ولو كانت باريس غير باريس لعرف أهلها أن في الدنيا خلائق تعيش بغرائز موروثة عن العهود التي سبقت التاريخ

إن الورد يعتصم بالشوك، فكيف فات باريس أن تعتصم بالسلاح؟ تلك هفوة سيكفِّر عنها أبناء الجيل الجديد في باريس يوم تنجلي الغُمَّة بعد أن تضع الحرب أوزارها الثقال

ولكن متى؟

إن انتظار السلام قد يطول!

في أي المحامد والمحاسن والمناقب يفكر الرجل حين يجزع لبلواك يا باريس؟

أيذكر أن مطابعك كانت تخرج نحو سبعين كتاباً في اليوم الواحد؟

أيذكر أن مكاتبكم مرجع لجميع ما أبدعت العقول الإنسانية في القديم والحديث؟

أيذكر أنك صورة الإنسانية، الصورة المجسّمة التي تمثِّل ما تملك الإنسانية من آراء وأهواء، وحقائق وأباطيل؟

أيذكر أنك أرحب ميدان للصراع بين الحلم والجهل، والشك واليقين؟

أيذكر أن معاهدك العلمية والأدبية والفنية كانت النِّبراس لأهل العقول والأفكار والأذواق في أكثر بقاع الأرض، وأن برلين نفسها لم تنجُ من الافتتان بسحرك القهار؟

أيذكر أن النشوة الروحية لا تقع إلا لمن يفتح عينيه على نورك الوهّاج أول مرة؟

وما أسعد من يراك يا باريس أول مرة قبل أن يألف مناظر الفردوس! وهل تحق السلوة لمن يطول عهده بجمالك الفتّان؟

قد ينسى الناس محامدك يا باريس، إلا محمدةً واحدة ستبقى في ذاكرة الخلود

فأعداؤك يا باريس لم يكونوا يجدون الأمن والعافية إلا في ربوعك الضواحك، وما استطاعت المطابع في أي أرض أن تذيع الطعن في فرنسا كما استطاعت مطابع باريس؟ وما شُتِمتْ فرنسا في أي بلد كما شُتِمتْ في باريس!

لم تكن باريس وطناً خالصاً للفرنسيين، وإنما كانت أوطاناً لطوائف من المفكرين والثائرين يفدون إليها من كل فج ويطعنون أهلها إن أرادوا بلا رقيب ولا حسيب

كانت باريس هي المنَفى الأمين لمن تلفظهم حكوماتهم من أصحاب المبادئ والمذاهب، وكانت منتدياتها مجالاً للثائرين على موروث الأفكار والتقاليد من سائر أناء الشعوب

كانت باريس هي الملعب الذي تراض فيه عضلات الأفكار على المُرونة والعُنف

كانت باريس حرباً على أهلها بفضل تلك الحرية، ولكنها كانت تشعر بالأبوة الرحيمة لكل من يلجأ إليها، ولو كان من دعاة الهدم والتخريب

كانت باريس تعرف أن نشر الُمعاد من الأفكار الموروثة لا يحتاج إلى حماية، ففي مقدور كل مخلوق أن يذيع الآراء التقليدية حيث شاء، وكذلك رأت باريس أن تكون حامية الفكر المحرَّر من جميع القيود، وفي رحابها ترعرعت المبادئ الجوامح التي صارت عدة أعدائها من الروس والألمان والطليان

فكيف صِرتِ اليوم يا باريس؟ وكيف تصيرين بعد اليوم؟

أنا أعرف أن جراحك لن تندمل في يوم أو يومين، واللحظة الواحد من آلام الأحرار تُقدَّر بأعوام طوال، فماذا تَنوين وقد قهرك بَغيُ الأعداء على اعتناق مبدأ الحقد الأسود؟

في رحابك اليوم شيوخ وأطفال لا يفتحون عيونهم إلا على ظُلمات من فوقها ظُلمات، فهل تختفي البشاشة الروحية والوجدانية من أدبك الرفيع؟ وهل يَحُلّ النفاق محل الصراحة بعد أن دفعت الأثمان الغالية في عقوبة الترحيب بالرأي الصريح؟

وهل تصيرين مثل موسكو وروما وبرلين في خضوع الأفكار والمذاهب للسلطة العسكرية؟

أنا لا أخاف أن تموت باريس، وإنما أخاف على باريس عادية الجمود

إن أبناء باريس حاولوا تخريبها مرات كثيرة بسبب العداوات الحزبية، ولم يُفلحوا، فكيف يُفلح في تخريبها الأعداء؟ وهل خُلِقتْ باريس للموت، وهي أسطع جذوات الخلود؟

أحب أن أعرف ما الذي ستصير إليه باريس بعد اليوم؟

أحب أن أعرف مصير الحرية الفكرية في هذا الوجود الموبوء بأنفاس المُرائين والمخادعين؟

لم أتفجَّعْ على باريس لقرابة أو جِوار، وإنما أتفجع على باريس لما بيننا وبينها من انساب علمية وروحية، فإليها يرجع الفضل في تخريج من عرفنا من كبار الأدباء والزعماء، وتلك وشائج لا ينساها إلا من ابتلاه الله برذيلة الجحود

سيعضٌّ قومٌ بنان الندم على الشماتة بمدينة النور، يوم يعرفون أن لم يبق في الدنيا مكان تذاع فيه آراء الأحرار بلا تهيب ولا إشفاق بعد خمود باريس

لابُدَّ للفكر من مدينة في مثل صراحة باريس وسماحة باريس، فإلى أين يذهب الفكر وقد ضُرب الحرَج على باريس؟ إن الفكر هو أثمن ما غنِمت الإنسانية، وبفضل الفكر الحر عرف الإنسان قيمة الوجود

لابدَّ للعالم المفكِّر من باريس ولو رُفعت فوق ذراها راية الصليب المعقوف!

وهل أُطفأت أنوار أتينا الفكرية بعد أن دحرها الرومان؟

وهل أطفأت أنوار بغداد الفكرية بعد أن غلبها التتار المجرمون؟

وهل استطاع الذين حاربوا القاهرة مئات السنين أن يحجبوا أنوارها عن الشرق؟

المدُن الفكرية لا تموت، وكيف يموت الفكر وهو أطول عمراً من الزمان؟

أما بعد، فهذه كلمة فاض بها قلبٌ يتوجع لأحزان باريس، وطن أساتذتي الاماجد من أمثال مورنية وتونلا وشامار وميشو وديبويه ومَرسية ودبمومبين ولالاند وماسينيوس، وطن المكاتب التي كنت أقضي فيها سهراتي بالمجان حين كان يُعوزني المال لقضاء السهرات في مراتع اللهو والفُتون

هذه كلمة في التفجع لمصير المدينة التي قضيت فيها أطيب الأعوام من شبابي، المدينة التي أوحت إلى قلمي كتاب (ذكريات باريس)

فإن ترجع الأيام بعد الذي مَضى ... بذي الأثْل صيفاً مثل صيفي ومَرْبَعي

شددتُ بأعناق النوى بعد هذه ... مَرائرَ إن جاذبتها لم تقطّع

وسنلتقي يا باريس ولو بعد حين وقد طَبَّ الزمان لجراحك الداميات!

كيف الحال في بُولمْيش يا باريس؟

وكيف الحال في الشانزليزيه؟

وكيف الحال في فرساي وقد قيل فيه ما قيل؟

وكيف الحال في دار المكتبة الأهلية؟

وكيف حال السامرين على شواطئ السين، إن بَقيَ للسمر مجالٌ على شواطئ السين؟

وكيف حال اللاهين واللاعبين بين القصر الكبير والقصر الصغير في الطريق إلى ميدان الانفليد؟

وأين مواعيد الصبابة والوجد في ساحاتك الفيحاء؟

وأين استقبال الغاديات والرائحات في الضحى والأصيل حول مخازن السماريتين؟

وأين صبح الأحد في متحف اللوفر وعصر الأحد في حديقة النَّبات؟ وأين الصوت ليرجع العشاق إلى مخادعهم بعد العبث بأزهار البساتين؟

وأين؟ وأين؟ وأين؟

هي دنيا تذوقين من بأساها بعض ما ذقتُ من فراقك الأليم

فيا مَرجع روحي بعد القاهرة وبغداد وِسنتريس، ويا صاحبة الفضل على أكثر ما نظمتُ من قصائد وما نشرتُ من مؤلفات، ويا وطن الجنرال بونال الذي كانت داره مَلاذ عزيمتي، ويا وطن الكولليج دي فرانس ومدرسة اللغات الشرقية والسوربون، ويا وطن الصديق الحميم دي كومنين أقدم إليك أصدق التحيات وأنا واثقُ بنصيبك الأعظم من الخلود

زكي مبارك