مجلة الرسالة/العدد 364/إلى أرض النبوة!
مجلة الرسالة/العدد 364/إلى أرض النبوة!
3 - إلى أرض النبوة!
(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ على الطنطاوي
تركَنا القراء في (المخفر السعودي) على الحدود. وأشهد أني لم أذق طعم الأنس والاطمئنان مذ فارقت دمشق إلا في هذا المخفر، ومهما نسيت من المشاهد، وأضعت من الذكريات، فلن أنسى تلك الساعة، ولن تضيع من نفسي ذكراها، وإنني لأتخيلها الآن، وقد مر على تلك الزيارة خمس سنين، ولم يبق في يدي منها إلا ما علق بذهني. . . أتخيل تلك الخيمة الشَّعرية الشِّعرية، الجاثمة على ذلك التل العالي، تطل على التلال التي لا يحصيها عد، وقد اتكأت فيها على جنبي، ونظرت إلى أسفل مني فرأيت السلوك الشائكة، فعجبت منها سلكة لا يعبأ بها تفرق الأخ عن أخيه - وتجعل الشعب شعبين - ثم مددت بصري حتى ضل في ثنايا السراب المتألق في وهج الظهيرة؛ ثم بلغ (دمشق)، دار الحبة وثوى الأماني، فهزني الشوق إليها والفجر بها، والأسى عليها لما أصابها. . . ثم رجعت البصر إلى البادية من حولي، فسرَتْ في روحي روحها، فشعرت كان قد صهرتني شمسها، فغدوت كأولئك الذين خرجوا منها جنّاً في النهار، ورهباناً في الليل، وموتاً للظالمين والمبطلين، وحياة للشعوب ورحمة للناس. . . وتمنيت لو كان اليوم إلى اليرموك أو القادسية طريق، حتى أسلكه كما سلكه أجدادي الأمجاد. . . وهيهات أن يكون للشباب الذي أضاع روح الصحراء إلى مثلها طريق. . .
إنما الإسلام في الصحرا امتهد ... ليجئ كل مسلم أسد
وأكلنا من طعام الجند وهو الزبد والرز والتمر، وشربنا من ألبان النياق وما ألذه من شراب. . . وتبادلنا أطيب الحديث فكان بشرهم وحديثهم قرى حلواً كتمرهم، سائغاً كلبنهم. ثم سألونا عن الطريق الذي نسلكه فأشرنا إلى الدليل؛ فحدثوه فوجدوه أجهل بالبادية من (الكناني) وأصحابه بلغة العرب، ووجدوه يضرب بنا على غير هدى ويسير على عشي. فأتمّوا صنيعهم معنا، فبعثوا واحداً منهم يصحبنا إلى (القريات) يرشدنا ويهدينا، وكان هذ الواحد فتى حلواً جميلاً ولكنه على حلاوته وجماله أمضى من السيف الباتر، وكان اسمه (سلامه) فتفاءلنا به خيراً. وكان ﷺ يتفاءل، وقلت: رافقتنا السلامة إن شاء الله، والحاج غراب صامت لا ينطق. . .
وودعنا القوم الكرام وسرنا نخرق صدر البادية المهولة وأرواحنا معلقة بيد سلامة، وسلامة يشير إلى السائق ويلقي عليه أوامره؛ يمين. شمال. أصعد التل. تجنب الرملة. والسائق يسمع ويطيع، والسيارات تتغلغل بين هذه التلال، ولبثنا على ذلك إلى العصر، عصر اليوم الثاني من أيام الرحلة، فرأينا رملة بيضاء فسيحة لها منظر البحر في سعته وتموجه واستوائه، تملأ العين جمالاً والقلب من خوف سلوكها فزعاً، يلوح من ورائها سواد قليل كأنه النخيل أو خيال البنيان. فقال سلامه سلّمه الله: (هذه هي القريات)
والرمال التي رأيناها في البادية على نوعين: رمال منبسطة بيضاء دقيقة كالغبار، لا طية بالأرض، يتخللها نبات من نبات الصحراء (وسأصف فيما يأتي من الحديث أنواعاً منها خبرناها) ورمال حمراء حباتها أكبر، وامتدادها أكثر، وهي تلال يأخذ بعضها بأعقاب بعض، تشبهها العين بأمواج البحر، لو كانت تجمد أمواج البحر، وإذا أنت تأملتها وجدتها في حركة دائمة لا تستقر حباتها، وبذلك ينتقل التل العظيم من مكان إلى مكان في الشهر مرة أو الشهرين، ولقد رأينا في عودتنا مناطق كانت سهلة ما فيها حبة رمل، فصارت بعدنا آكاما من الرمال
وهذه الرمال آفة السيارة، وعلتها التي لا دواء لها، فأنها للينها وتهافتها لا تثبت تحت دواليب السيارة، فتغص فيها كما تغوص في الماء، وتلبث فيها كأنما دفنت وهي في الحياة
ولقد لقينا من هذه الرملة عناء تقل في وصفه مبالغات الشعراء. . . غرقت فيها السيارات، ومالها لا تغرق وقد قلت لك إنها رملة كالبحر، أفتمشي سيارة على وجه البحر؟ ولقد لبثنا إلى الليل نزيح الرمل من حول السيارة، ونرفعها رفعاً، ثم ندفعها بعواتقنا دفعاً، ثم نجرها بالحبال، حتى إذا قلنا سارت عادت فغاصت، فلم نقطع الرملة حتى تقطعت أعمارنا، ولم نخرج منها حتى شهدنا أنه لا إله إلا الله!
وقريات الملح قرى ست متقاربة أكبرها قرية (كاف)، ولكنها لا تحوي على نصف سكان (حلبون) أخس قرى الشام ولا تبلغها كبراً وأتساعاً، وهي في غور الأرض، وكان أول ما استقبلنا منها الحصن، وهو الحصن كبير من الحجر الأبيض المسنون، علمت أن الأمير نواف بن النوري بن شعلان هو الذي بناه أيام تسلطه على تلك الديار، منذ خمسة وعشرين سنة، ولم أجد من أستزيده من خبره. . . والقريات اليوم إمارة، وهي مقر الأمير. ومما رأينا في الحكومة السعودية أنهم يسمون كل من يلي مدينة مهما صغرت أميراً، لا فرق في ذلك بين أمير القريات، هذه. . . وبين أمير المدينة المنورة. . .
وكان الأمير يومئذ غائباً في مكة يشهد الموسم، يقوم مقامه أبن أخ له، وهذه العادة فاشية في الحجاز، إذا غاب الأمير أناب عنه ولداً له أو قريباً، وكان نائب الأمير في قرية أخرى من القرى الست، فلم نلقه، ولكنا لم نعدم من يستقبلنا ويكرمنا، وغاية الإكرام (كما رأينا) أن ندخل القصر، وتوقد النار في زاوية البيت الذي جلسنا فيه، ويشعل فيها الغضا هذا الذي يضرب بحره المثل والذي ذكره الشعراء فأكثروا، وكنوا به عن نجد، تهوي الأفئدة منهم، وقد رأيته مراراً فوجدته كثيراً في البادية وهو كالمشمش غير أنه أجمل شكلاً وأدق ورقاً، وهو أشد شجر رأيناه في البادية اخضراراً، أما جمره فكالفحم الحجري ولا مبالغة، وقد عرفه الشاعر حين زعم أنهم (شبوه بين جوانحه وضلوعه)، أما نحن فعرفناه في هذا البيت حين أشعلوه وزادوا في إضرامه حتى بلغ لهيبه السقف، ثم قربونا منه وأجلسونا إلى جانبه، فلما (تقهوينا) ونلنا حظنا من الإكرام البالغ. . . سألونا سيارة تأتي بالأمير، ودعينا إلى دار أخلوها لنا، وكانت دار مفتش الحدود (عبد الرحمن بن زيد) وهي أكبر دار في القريات وأجملها إلا أنها خالية لاشيء فيها، ففرشنا ما كنا نحمل من بسط وفرش وإحرامات ولم أبتئس أنا بخلوها، فقد كان بساطي وإحرامي أحب إلىّ من كل ما يمكن أن يفرشوه فيها. ولما اطمأننا على أمتعتنا وعلى مكان مبيتنا خرجنا نجول في القرية فإذا هي بيوت من الطين قائمة على (شاطئ) الرملة يحف بها قليل وفيها حقول تزرع فيها بعض الخضر، وتسقي من عين جارية وفيرة تقوم بري قسم كبير من الأرض لو كان الأراضي هناك مال وكان هناك أيد مال وكان هناك أيد عاملة تسعى في الأراضي الزراعية وتحسين زراعتها. ويحيط بالبلدة وبساتينها ورملتها صخرة أهرامية هائلة رهيبة المنظر تمتد من حولها كأنها سور إلهي. . . وحياة هذه القرى من الملح الذي يستخرج من السباخ الكثيرة القريبة من البلد، ويصدر إلى حوران وشرقي الأردن بتنا في دارين أبن زيد هذا خير مبيت، وقد جاءونا بالعشاء من قصر الأمير، فلما أصبحنا غدونا عليه، فرأينا شاباً ذكياً ليس بالتعلم ولكن له مشاركة في بعض علوم الدين، ويحفظ شيئاً من أحاديث النبي ﷺ، تلقاها في مجالس العلم، وتلك سنة حسنة استنها الإمام عبد العزيز حفظه الله. فجعل ليله كله للعلم يأتي مجلسه العلماء فيقرؤون فيه كتاباً، فإذا أتموه شرعوا في غيره، وتكون مناقشات علمية يشترك فيها بنفسه، وقد قلده الأمراء جميعاً في ذلك؛ فمن هنا ما يحفظ هذا الشاب نائب أمير القريات. . .
استقبلنا بنفسه على عتبة الباب ببشر وإيناس، وجلس معنا يحدثنا ونار الغضا تلفح وجوهنا. ولبثنا على ذلك ساعة لم يدع فيها الأمير دقيقة واحدة قَوْلَةَ: قهَوةَ. شاهي. شاهي. قْهَوَة. يدور علينا بها عبد أسود كان شفتيه غطاء ووطاء، وكأن جسمه المحمل، ثم أديرت علينا المجمرة وفيها البخور، وبخور العود، فلم ندر ما نصنع بها؛ ثم وجدنا الأمير يضم عليها طرفي كوفيته أو عباءته حتى يتعشق الطيب ثيابه، ثم يدعها فصنعنا مثله، وانتهى العبد من إدارة المجمرة، فرأيت الأمير ينظر إلينا، فقام الشيخ الرواف وأستأذن، وقمنا معه على أن نجتمع الظهر بالأمير على الغداء. . .
فلما خرجنا، قال الشيخ الرواف: ألم تسمعوا المثل النجدي؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: (إذا دار العود فلا تعود). فعلمت سر نظر الأمير إلينا، وتمنيت لو دخل هذا المثل بلادنا، حتى عرفه الناس؛ ثم ذكرت أن عندنا بحمد الله من لا يفهم بالعود ولا بالعصا ولا يخرج من زيارتك، حتى تخرج غيظاً من جلدك. . .
(لها بقايا)
علي الطنطاوي