انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 362/من نواحي المجتمع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 362/من نواحي المجتمع

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 06 - 1940



بين مفتش وموظف

للأستاذ محمود محمد سويلم

حدثني من أثق به أيام مقامي (بمنفلوط) أن مفتشاً تردد على موظف حتى أضجره وضايقه، وكان ضرورياً أن يقصر الموظف أو تقصر يده عن إجابة رغبات رئيسه الذي لا تكاد تنتهي له زيارة حتى تبدأ أخرى، فأحس المفتش بهذا التقصير وكبر عليه وصوره له شيطانه بصورة مثيرة فأضمر الشر لصاحبه؛ وانطبعت دخيلة نفسه على محياه فقرأ الموظف المسكين هذه الآيات الصامتة التي تفصح في غير عبارة عما انطوت عليه نفس رئيسه من ضغينة لا يدري إلا الله مداها، وكأنه في موقفه هذا جهد نفسه على أن يخفي ما ألم بها فيقابل رئيسه بشيء من المداراة والابتسام المتكلف. وكيف يتهيأ ذلك لنفس ساذجة لم تألف هذا التلون ولم تعتد هذا النفاق؟ فلم يفلح في هذه المحاولة وظهر على وجهه من العبوس ما ظهر على وجه رئيسه، فتهاجرا وتدابرا ووجد الشيطان الفرصة سانحة فأغرى كلاً بصاحبه؛ فكتب المفتش والموظف إلى الرياسة جميعاً

فماذا كتبا

قال محدثي: لقد طلب المفتش عزل الموظف لأسباب أبداها

يا الله! ألم يقدر هذا المفتش مآل أسرة تحيا في ظلال عيش آمن إن لم يكن ناعماً ولا مترفاً، يريد نقلها إلى بؤس الحياة

ألم يقدر وهو المؤمن بالله واليوم الآخر موقفه بين يدي جبار الأرض والسموات موقف الظالم والمظلوم (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)؟ نعم لم يقدر شيئاً من ذلك؟ لماذا؟

أما الموظف فما عسى أن يكتب وهو لا يطمع في انتصاره على رئيسه، ولو كان محقاً، ولا في السلامة من شره وإن قام بأعباء وظيفته على خير حال؟

لكنه برغم ذلك أبى إلا أن يكون جريئاً وإلا أن يقابل الشر بالشر فكتب إلى الجهة نفسها يقول:

(إما أن تزيدوا في مرتبي حتى يكفيني والمفتش جميعاً، وإما أن تزيدوا في مرتب المفتش حتى يعف)

نتيجة محزنة ومأساة مروعة في الأخلاق وفي الفضيلة

لقد كان من عادة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يبعث مندوباً إلى عماله الذين تمولوا على حساب العمل فيقاسمهم أموالهم مناصفة ليأخذ نصفها فيضعه في بيت مال المسلمين فاتفق له مرة أن أرسل مندوباً إلى كبير من ولاته لهذا الغرض، وكان هذا الوالي داهية، فحاول أن يخدع مندوب الخليفة كي يتغاضى عن بعض المال، فأمر بإعداد مائدة من أشهى الأطعمة وأفخر الألوان؛ فلما مدت المائدة ورأى مندوب الخليفة ألوان الطعام أدرك على الفور أنها خدعة، فثارت ثائرته، وقال للوالي في صراحة الحق وشجاعة الإيمان: أكل ضيف تقدم له مثل هذا؟ والله لا آكل من طعامك شيئاً. هات ما لك أقاسمك إياه!. . . فلم ير الوالي بداً من الخضوع للأمر. ونعود فنقول ما قال الأول:

فأين الثريا وأين الثرى ... وأين الحسام من المنجل؟

نعم شتان بين من هذبهم الإسلام فزكى نفوسهم وطهر جوارحهم، وأشربت قلوبهم محبته، فلا سلطان إلا سلطان الله، ولا فكر إلا في دين الله، ولا عمل إلا بوحي الله الذي أرسل به رسوله. . وبين من تملكت المادة نفوسهم، وطرفت الدنيا عيونهم، ولعبت الشهوات بقلوبهم وعقولهم

ماذا ينتظر الرئيس من مرؤوسة؟ أينتظر منه أداء مهمته على الوجه الأكمل ليرضى ربه وضميره والناس ويأكل رزق الله الذي أفاض عليه حلالاً طيباً، أم ينتظر منه أن يحسن الملق والدهان والسير في الركاب. . . وإن ترك أعمال وظيفته جانباً وأكل مال الدولة سحتاً حراماً

محمود محمد سويلم

واعظ سمالوط