مجلة الرسالة/العدد 360/الأزهر والحياة العامة
مجلة الرسالة/العدد 360/الأزهر والحياة العامة
مالك والجاحظ في العصر الحديث
للأستاذ محمود الشرقاوي
يقول الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي في حديثه مع الرسالة: (بين أيدينا كل ما ورد عن الرسول من الأحاديث، وما روي عن الأئمة من الأحكام، وما أثر عن الفقهاء من الكتب؛ وفي خزائننا ما خلف العرب وغير العرب من لباب الأدب وعصارة الفكر. ومع هذا اليسر في الوسائل وهذه القوة في الاستعداد لا نرى إلا فراغاً يثير الظنون ويغري بالأزهر التهم)
ثم يتعجب الشيخ الأكبر كما يتعجب بعده الدكتور زكي مبارك متسائلاً: لماذا لا يظهر في العصر الحديث مشرِّع مثل الإمام مالك أو أديب مثل الجاحظ. . .؟
وهذه هي المسألة التي وعدنا قراء (الرسالة) أن نبحثها في ختام مقالنا الأول
صحيح ما يقوله الشيخ الأكبر من توفر ما روي عن الرسول من الأحاديث وما روي عن الأئمة وعن الفقهاء، وتوفر ما في خزائننا مما خلف العرب وغير العرب من لباب الأدب وعصارة الفكر. صحيح كل هذا ونحن أميز عن جميع العصور حتى عن عصر مالك وعصر الجاحظ في توفر هذه المصادر كلها والمراجع كلها والكتب كلها وفي سهولة الوصول إليها والبحث فيها
ولكن توفر هذه المراجع والمصادر والكتب يبرز من بيننا إماماً كمالك ولا أديباً كالجاحظ. وليس من العجب ألا يبرز
ليست الكتب وحدها ولا المراجع ولا الأصول هي التي تنشئ الأديب ولا هي التي تبرز العبقري، بل هناك أسباب أخرى يمكن أن نذكر منها البيئة العلمية والوسط الاجتماعي، ومستوى الحياة الذهنية في العصر الذي ينشأ فيه العالم أو ينشأ فيه الأديب
فهل نستطيع أن نزعم أن البيئة العلمية التي نشأ فيها مالك والتي تكوَّن فيها تفكيره وتم نضوجه العقلي، أو تلك البيئة التي نشأ فيها الجاحظ، وتكون فيها تفكيره، وتم نضوجه الأدبي. هل نستطيع أن نزعم أن هذه البيئة أو تلك شبيهة بما نحن فيه الآن أو قريبة منها!؟
كانت الحياة الاجتماعية والحياة السياسية في عصر مالك والجاحظ تفور بالنشاط ب بالعنف، وتضطرب بالحياة القوية المتجددة. وكانت الأحداث السياسية والحربية والاجتماعية تجيء في كل يوم بجديد. وكانت الأمة الإسلامية أو الأمة العربية في عصر مالك والجاحظ هي صاحبة السيادة والسلطان المطلق على العالم كله (عالم ذلك العصر)، وكانت حضارات الأمم القديمة العريقة وأموالها وآثارها العقلية والأدبية تنحدر كالسيل في نهر الحياة الإسلامية أو العربية ويملأ ضفافها بالنشاط والحركة والحيوية. وكان المجتمع الإسلامي أو العربي في عصر مالك والجاحظ يشعر بأنه صاحب السيادة على ما سواه من المجتمعات، صاحب السيادة الذهنية والعقلية والأدبية. بل لم يكن يجد أمامه نداً من المجتمعات يمكن أن يقارن به أو يوزن إلى جانبه أو تقام بينه وبينه المفاضلة والترجيح، لأن الأمة الإسلامية أو العربية كانت لذلك العهد صاحبة السيادة السياسية والحربية وما سواهما من السيادات ولم تكن تجد أمامها من توزن سيادته بسيادتها أو تقام بينها وبينه المفاضلة والترجيح
وفي هذه البيئة وفي ظل هذه السيادة التي يشعر بها المجتمع وتشعر بها الدولة لأنها حقيقة واقعة. نشأ مالك والجاحظ فكانت لهما سيادة الذهن وسيادة الفكر والأدب والفن
وهذه الأشياء كلها: البيئة العلمية، والوسط الاجتماعي، ومستوى الحياة الذهنية، وشعور المجتمع بالسيادة أو بالهوان، ومكان الدولة من القوة والضعف؛ كل أولئك أشياء ليست هينة الشأن في تكوين الأديب والعالم وفي تبريزه وحدة ذهنه وقيمة إنتاجه.
وبالمقارنة بين هذه الأشياء على عصر مالك والجاحظ وبينها في مصر والشرق على عصرنا هذا نستطيع أن نضع علماءنا وأدباءنا حيث يكون موضعهم الطبيعي
ولعل من المفيد أن نذكر هنا قول أبن دريد في مقصورته:
وكل قِرن ناجم في زمن ... فهو شبيه زمنٍ فيه بدا
وقد نجم مالك ونجم الجاحظ في زمن كانت السيادة فيه لدولتهم ودينهم ومجتمعهم فكانوا شبيهين بزمنهم، ونجم علماؤنا وأدباؤنا في زمن فهم شبيهون به
ولا عجب في ذلك ولا غرابة
ولكنا ننتقل من ذلك إلى مسألة أخرى نلخصها في هذه الأسئلة وفي الإجابات عليها:
ما هي القيمة الحقيقية لمالك والجاحظ؟ وهل لا نجد في عصر غير عصريهما من تكون قيمته مثل قيمتهم؟ وهل لا نجد في عصرنا هذا من يقرن إليهما ويوزن بميزانهما؟
أما مالك فهو إمام مشرع نافذ البصيرة والذكاء في فهم المسائل وفي التشريع، ولكنا نستطيع أن نجد له نداً بل أنداداً كثيرين في هذه الصفات كلها. وفي مسائل كثيرة نجد علماء متأخرين يناقشون مذهب مالك أو غيره من المذاهب ويفَّندون رأيه في مسألة أو في مسائل. ثم يقتنع الباحث المنصف بأن رأيهم أرجح من رأي مالك وأن فهمهم لهذه المسألة أو المسائل أدق من فهمه
ونستطيع أن نجد كثيراً من هذا في مطالعاتنا لعلم الأصول وأن يجده غيرنا كذلك
ونجد في عصرنا هذا علماء يناقشون في مذهب مالك وفي غيره من مذاهب الأئمة ويفندون رأيه في مسألة أو في مسائل، ويكون رأيهم فيها أرجح من رأي مالك، وفهمهم لها أدق وأصدق من فهمه
في الأحاديث الدينية التي أذاعها الأستاذ الأكبر، وفي دروسه التي ألقاها منذ سنين، وفي أحكامه قبل ذلك في القضاء آراء ومسائل خرج فيها عن رأي مالك وأبي حنيفة وناقشها وأقنع سامعيه وقارئيه بصواب رأيه على رأيهم. وكان فهمه لهذه المسائل أدق وأصدق من فهم مالك وأبي حنيفة.
ونقرأ ونسمع لعلماء معاصرين آراء يخالفون بها هذا أو ذاك من الأئمة ومن الفحول، ثم نجد من الإنصاف أن نقرهم وأن نشهد بأنهم أدق فهماً وأصدق رأياً من هذا وذاك من الأئمة والفحول ولو خالفوا مالكا
ثم نقول بعد ذلك في الجاحظ مثل قولنا في مالك بفارق بسيط ولكنه ضروري. فإذا أردنا أن نضع الجاحظ وغيره من فحول الأدب القديم حيث يستحقون من تاريخنا الأدبي والثقافي، يجب أن نلاحظ الفرق بين (الأديب) في العصور القديمة وبين (الأديب) في عصرنا هذا، وأن نلاحظ الفرق بين (الأدب) في تلك العصور وبين الأدب في عصرنا هذا
فالأدب عند العرب في عصر الجاحظ وفي غيره من العصور (وإلى عهد قريب) كان أدب حفظ وجمع ورواية. وكان الأديب يوزن قدره ويلحظ مكانه نقدر ما يحفظ من الشعر، ومن غريب الرواية، ومن كلام السلف والأعراب، ومن شعر الشعراء. وكان أكبر ما يمدح به الأديب أن يقال فيه أنه (بحر علم) و (خزانة أدب) وإن صدره (وعي علوم الأوائل والأواخر) إلى غير هذه النعوت التي تدور كلها حول محور الرواية والحفظ والجمع والاستيعاب
فإذا نظرنا إلى الجاحظ وإلى من هو أقل من الجاحظ مكاناً فإنا لا نجد في عصرنا من يشابهه أو يقاربه، ولا نريد أن نجده. والأدب والشعر ورواية الغريب التي هي بضاعة الجاحظ وغيره من فحول الأدب السوالف (إذا نظرنا إلى الأدب هذه النظرة) هذه البضاعة لا تساوي شيئاً، ولا نأسف لأنا لا نجد في عصرنا من يوزن بالجاحظ فيها. فعندنا خزائن الكتب أرحب وأوسع وأصدق وأيسر من صدر الجاحظ ومن روايته
أما الآن، فنحن ننظر إلى الأدب على أنه فن قائم على قواعد وأصول، وعلى أنه أسلوب وفكرة، أو على أنه أسلوب فقط. نحن ننظر إلى الأدب على أنه شيء من هذا أو هذا كله، أو على أنه شيء غير هذا وذاك. ولكنه مهما يكن، فليس هو الجمع والحفظ والاستيعاب والرواية للغريب والشعر. فإذا وزنا أدب الجاحظ بهذا الميزان الجديد للأدب، فقد خف وزنه ولم يبق منفرداً ولا فذاً منقطع النظير والأقران في عصرنا
فمقدار الثقافة التي كان يتميز بها الجاحظ ونوع هذه الثقافة لا وزن له ولا قيمة في عصرنا. وتلميذ في الأزهر أو في مدرسة ثانوية يعرف من الجغرافيا ومن حقائق التاريخ ومن علوم الطبيعة أكثر وأصدق مما نجد في كتب الجاحظ من الحيوان إلى البيان والتبيين. بل يعرف من ذلك ومن حقائق العلوم أكثر وأصدق مما يعرف أدباء العرب جميعاً في جميع العصور، وليس ذلك عيباً فيهم، فقد كانوا يعرفون أكبر قسط وأصدق قسط من علوم عصرهم ومعارفه
وليس مطلوباً منهم أكثر من ذلك، ولكنه لا يجعلهم أعظم شأناً، ولا أكبر مكاناً من كاتب متوسط في عصرنا
وأما أسلوب الجاحظ وبصره بالأدب على قواعده التي أشرنا إليها منذ قليل، فهو الذي يصح أن نقيم له وزناً وأن نقارن بينه فيه وبين كتابنا وأدباءنا المعاصرين. وهذه المقارنة نرجو أن يسمح لنا فضيلة الأستاذ الأكبر، وأن يسمح لنا صديقنا الدكتور زكي مبارك، إذ نقول أنها لن تخرج بنا إلى النتيجة التي توافقنا عليها. فالجاحظ وغير الجاحظ من فحول الأدب القديم نستطيع أن نجد لهم شبيهاً وقريناً في عصرنا هذا.
نستطيع أن نجد من يشبه الجاحظ في فهمه للمسائل الأدبية وفي بصيرته بالأدب والشعر وفي (الذوق الأدبي)، وأن نجد من يشبه الجاحظ أو يبرز عليه في النقد الأدبي؛ ولا أقدِّم على ذلك دليلاً سوى تصحيح زكي مبارك نفسه لكتاب زهر الآداب وتعليقاته وتصويباته الأدبية والتاريخية عليه وعلى غيره من الكتب ورسالته عن كتاب الأم ونسبته للشافعي
وكذلك نستطيع أن نقول ذلك عن أسلوب الجاحظ وعن أساليب عدة من فحول الأدب القديم، لا نستثني من ذلك سوى أصحاب المقامات كالحريري والزمخشري.
وأسلوب الشيخ المراغي في الكتابة والخطابة، وأسلوب الزيات في (الرسالة)، وأساليب غيرهما من الباحثين والأدباء والمفكرين في عصرنا، نستطيع أن نقيم الميزان بينها وبين أسلوب الجاحظ وغير الجاحظ من أهل القديم. وقد نجد بالموازنة أننا خير منهم. وليس لهم إلا أن الزمن تقدم بهم فارتفعت بهم قداسة التاريخ
محمود الشرقاوي