مجلة الرسالة/العدد 358/الفقه الإسلامي ورعاية الصالح العام
مجلة الرسالة/العدد 358/الفقه الإسلامي ورعاية الصالح العام
للأستاذ محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
(الفقه الإسلامي) مستنبط من الشريعة الإسلامية وهذه الشريعة تمتاز بأنها شريعة الفطرة، وشريعة العقل، وشريعة الرحمة:
فهي تعترف بالحقائق، ولا تحاول الخروج على السنن الكونية ولا تصطدم بالعلم، ولا تضيق صدراً بالإصلاح، ولا تكلف الناس ما ليس في استطاعتهم!
ذلك بعض ما كانت به الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وجعل لها هذا الاعتبار العام، ولم يكن فقهها معه شخصياً ولا موضعياً
وليس معنى هذه الصلاحية أن كل جزئية من جزيئات الفقه التي استنبطت لا تقبل التغيير ولا التعديل، فإن ما صلح للأولين لا يعقل أن يكون هو بعينه، وفي جميع جزيئاته، ما يصلح للآخرين ذلك أن شريعة العقل والرحمة لا تجهل أن الأحوال دائماً في تغير، والدنيا في تقلب، ولكل قوم عادة وعرف
ولو كان هذا هو المعنى المقصود من قولهم: (إن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان)، لوقعنا منه في حرج عظيم، وتكليف لا يحتمل
أيجوز مثلاً أن نرجع بالمساجد إلى حالتها الأولى، فنجردها من الفرش والبسط، ونكتفي بأن نفرشها بالرمل أو الحصباء، لأن سنة السلف في مساجدهم كانت كذلك؟
أيجوز مثلاُ أن نلزم القاضي بأن يكون له في المسألة الواحدة قضاء واحد من غير تفرقه بين أحوال المتقاضين وبيئاتهم؟
لقد سمعت أن قاضياً شرعياً عُرضت عليه قضية أهان الزوج فيها زوجته بألفاظ جارحة - وهما زوجان من وسط راق - فطلبت الزوجة التفريق، فقضى لها به القاضي
فهل يجوز للقاضي أن يقضي بمثل ذلك في قضية يكون الزوجان فيها من وسط قد ألف ذلك فيه، بل ألف فيه ما هو أشد منه كالضرب مثلاً؟
أيجوز لنا مثلاً أن نلزم وزارة الدفاع أن تلبس جنودها العمامة البيضاء تحقيقاً للخبر الذي يروون: (تعمموا فإن الشياطين لا تتعمم)؟ إن هذا وما يماثله هو الحرج الذي لا يرضى الله به ولا يرضى به رسوله، ولا تقول به شريعة العقل والرحمة!
يقول أبن القيم (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها، وكل مسالة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل!)
فالمعنى إذن في صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، أن الشريعة قد بنيت أحكامها على رعاية المصالح، ولما كانت المصالح تختلف باختلاف الناس، وتتكيف بتكيف الظروف والبيئات، وتتغير بتغير العوائد، اعترفت الشريعة بذلك ففتحت باب الاجتهاد وأباحت للناس أن يستنبط أولو الرأي منهم ما يصلح لهم، وينهض بهم في حدود ما رسمت وبينت
وآية ذلك أن الشريعة الإسلامية تركت كثيراً من الفروع من غير نص على أحكامها، وأنها تعني - قبل كل شئ - بالأصول العامة والمبادئ الأساسية، دون التفاصيل والجزيئات!
وفي هذا المعنى يقول الرسول ﷺ: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها. وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)
فهذه الأشياء هي موضع اجتهاد المجتهدين، وقوله (فلا تبحثوا عنها) أي فلا تطلبوا فيها نصّاً فتحرجوا أنفسكم. هذا معنى قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تَسْألوا عن أشياء إنْ تُبْد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حينَ يُنزَّل القرآن تبد لكم، عفا الله عنها، والله غفور حليم. قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)
وليس اعتبار الظروف والأحوال، ورعاية الصالح العام، في الفقه والأحكام، بالشيء المستحدث، فقد وجد منذ وجد التشريع، وكان حيث كان الفقه والاجتهاد
وإننا نسوق أمثلة من أحكام الرسول، صلوات الله عليه، وأمثلة من أحكام الصحابة ومن بعدهم من الفقهاء والأمراء
1 - في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن قريشاً أهمهم أمر المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله؟ وهل يجترئ عليه إلا أسامة؟ فلما كلمه أسامة قال: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!)
2 - وروي أبو داود أن النبي ﷺ نهى أن تقطع الأيدي في الغزو
فهذان حكمان لرسول ﷺ في شئ واحد هو الحد: تراه في الأول يصر على إقامته، ولا يقبل تعطيله، مع أن السارق امرأة من أكبر القبائل وأشرف البيوت، ومع أن أمرها أهم قريشاً وأزعجهم، ومع أن الشفيع صاحب من أحب أصحابه إليه!
وتراه في الثاني ينهى أن تقطع الأيدي في الغزو، فهل كان إصراره الأولى لأن أمراً كهذا لو دخلته الشفاعة، وقبلت فيه الوساطة، وفرق بين الشريف والوضيع، لضاعت الحكمة المقصودة فيه، وبطلت الغاية المرجوة منه!
وهل كان نهيه في الثانية إلا خشية أن يترتب عليه ما هو أضر على المسلمين، وأبغض إلى الله، وهو لحوق المقطوع بالعدو حمية وغضباً. ولكن التشديد الأولى، والتسامح في الثانية، يدعو إليهما أمر واحد وإن اختلفا ظاهراً، وهو الحرص على أمور المسلمين، أن يفضي إليها الخلل، أو يلحقها الاضطراب والفساد.
وقد روى مثل ذلك عن أصحاب رسول ﷺ:
1 - قال علقمة: كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان، وعلينا الوليد بن عتبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم؟
فهل ترى فهم حذيفة، ونصيحته للمسلمين حين فهم ونصح إلا فقها تملية السياسية الرشيدة، والنظر الصحيح؟
2 - وشبيه بهذا ما روى من أن سعد بن أبي وقاص كان قائد المسلمين يوم القاسية، فأتى بأبي محجن، وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن:
كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً على وثاقيا!
ثم قال لامرأة سعد أطلقيني، ولك عليَّ إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحمتم مني. فحلت وثاقه، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، وكانت بسعد يومئذ جراحه فلم يخرج، ثم أخذ أبو محجن رمحاً وخرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا ملك! لما يرون من صنيعه، وجعل سعد يقول وهو يرقب المعركة: الضبر ضبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن وأبو محجن في القيد!! فلما هزم العدو رجع أبو محجن فوضع رجليه في القيد، وقصت امرأة سعد على سعد ما كان من الأمر، فقال سعد: والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى هذا البلاء للمسلمين، فخلى سبيله! فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد فأطهر منها، فأما إذ أبطلته عني فو الله لا أشربها أبداً
قال في أعلام الموقعين (إن سعداً قد اتبع في ذلك سنة الله تعالى فإنه لما رأى من تأثير أبي محجن في الدين، وجهاده وبذل نفسه لله ما رأى درأ عنه الحد، لأن ما أتى به من هذه الحسنات غمر هذه السيئة الواحدة، لا سيما وقد شام فيه مخايل التوبة النصوح وقت القتال، إذ لا يظن بمسلم إصراره في ذلك الوقت الذي هو مظنة القدوم على الله، وهو يرى الموت
وأيضاً فهو بتسليمه نفسه، ووضع رجليه في القيد اختياراً قد استحق أن يوهب له حده، كما قال النبي ﷺ للرجل الذي قال له: يا رسول الله، أصبت حداً فأقمه علي، فقال: هل صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم، قال: فاذهب فإن الله قد غفر لك حدك!)
وهذا هو الفقه!
3 - ولقد كان عمر بن الخطاب، وهو في الفقه والعلم من هو، يعلم أن رسول الله ﷺ كان يعطي المؤلفة قلوبهم، وأن أبا بكر كان يعطيهم، وأن الله يقول: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم. . . الآية) ولكنه مع ذلك كله لا يعطيهم، ويقول لهم: إن الله أعز الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم عليه، وإلا فبيننا وبينكم السيف!
فهو قد علل الإعطاء بالمصلحة، إذ كان الإسلام بحاجة إلى استرضاء هؤلاء وتأليف قلوبهم، فلما ارتفعت هذه الحاجة بعزة الإسلام، لم يبق إلى استمرار الحكم من سبيل
4 - ولقد ولى زياد بن أبيه إمارة البصرة من قبل معاوية، فوجدها وكراً من أوكار الفساد، وموطناً من مواطن الفجور، فخطب فيهم خطبته (البتراء) التي كان بها أول من أعلن الأحكام العرفية في الإسلام فقال: (وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولي والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم أو تستقيم لي قناتكم. . . فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه. . . وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه. . . وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوماً غرقناه، ومن أحرق قوماً أحرقناه، ومن نقب بيتاً نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبراً دفناه حياً)
وقد سكت معاوية عن ذلك فلم يعلم أنه راجعه فيه، فهل كان هذا الفعل من زياد، وهذا السكوت عليه من معاوية ألا اجتهاداً وسياسة، استباحا بهما إحداث ما لم يكن من الأحكام وفي مثل هذا يقول الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور
وإنك لتجد في فقه المذاهب كثيراً مما علق الحكم فيه على العادة والعرف، واعتبر فيه تغير الزمان
1 - يقول المالكية: إن المرأة إذا مات عنها زوجها يستحب لها أن تلبس السواد زمناً، رعاية لحقه ووفاء له، ثم يقولون: إلا إذا كان السواد زينة قوم البياض حدادهم، فإن حدادها عليه حينئذ لبس البياض!
2 - إن النبي ﷺ فرض صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من إقط؛ وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة. فأما أهل بلد قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك. فإن كان قوتهم من غير الحبوب: كاللبن واللحم والسمك؛ أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائناً ما كان، وهذا قول جمهور العلماء
وقد اجتهد علماء الأحناف إلى أبعد من ذلك، فنظروا إلى العلة التي من أجلها فرضت الزكاة في هذا اليوم، وهي الترفيه عن الفقير وإغناؤه عن المسالة، فأجازوا إخراج قدرها من المال، لأنه أنفع له وأيسر لسد خلته!
3 - وكثيراً ما تجد في كتب الحنفية قولهم هذا: تغير عصر وأوان، لا تغير حجة وبرهان. يقولون هذا تعليلاً لاختلاف المروي عن أمامهم أو أحد أصحابه في المسألة الواحدة فالمسألة إذن مفروغ منها، والأمر فيها بين واضح، وأساسها المصلحة التي جعلها الله أساساً لكل شئ!
ولقد جنى على الشريعة الإسلامية حملتها في بعض ما مضى من الزمان، فأظهروها للناس بمظهر الشريعة الجامدة في أحكامها، التي يضيق صدرها بما يحدث للناس من نظم، أو يرون الأخذ به من أسباب، ولم يحاولوا أن يدرسوا هذه النظم والأسباب ليتبينوا أمرهما، فإن وجدوا خيراً وصلاحاً فإن الله لا يأبى الخير والصلاح، ولا بد أن يكون في الشريعة السمحة منفذ إليهما، وإن كانت الأخرى أنذروا قومهم، وأقنعوهم بالضرر فيما هم عليه مقبلون، أو به آخذون
لم يفعلوا ذلك ولكنهم اكتفوا بالصياح والشغب على الناس وتنكبوا طريق أهل العلم في الإقناع أو الاقتناع، والشغبُ والصياح لا يجديان شيئاً في قضايا العلم، ولا يصلحان أداة له في هذا الزمان!
على الأزهر الحديث إذن أن يرأب ما أثأت يد الغفلات إذا أراد أن ينظر الناس إلى الفقه فيما يأخذون به من تشريع، ويسنون من قانون
على الأزهر الحديث أن يلبي مطالب الزمن، وأن يعرف مواضع الحاجة القومية فيجتهد في وضع حلول من الفقه الواضح الجيد لهذه المشاكل التي تعرض للناس في حياتهم الاجتماعية: في بيوتهم، وتجارتهم، واقتصادهم، وقضائهم، وعقوباتهم!
عليه أن ينظر فيما جد من الأقضية والأحداث والنظم، فيعرض كل ذلك على الفقه ليعرف الوجوه التي كانت بها مخالفة له، والوجوه التي يمكن بها أن توافقه أو يقنع الناس بأنها أشياء في غيرها غنى عنها وعوض منها
وهانحن أولاء نشهد طلائع على يد طائفة من مفكري الأزهر وبقيادة شيخه المصلح العظيم
ولن يمضي زمان طويل حتى يكثر فينا هذا الصنف من الفقهاء، المنتجين المجددين، وحتى يسحب الزمان ذيل العفاء على (فقهاء بيزنطة) الجامدين!
محمد محمد المدني