انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 358/إذا شبت الحرب في البحر الأبيض

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 358/إذا شبت الحرب في البحر الأبيض

مجلة الرسالة - العدد 358
إذا شبت الحرب في البحر الأبيض
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 05 - 1940



للأستاذ فوزي الشتوي

خطوة متوقعة

لا تعتبر الخطوة التي اتخذتها الأميرالية البريطانية بإخلاء البحر الأبيض المتوسط من سفنها التجارية خطوة مفاجئة، فقد تنبأ رجال البحرية منذ سنين بأن خطة إنجلترا إذا اشتعلت الحرب لن تخرج عن ثلاث وسائل

أولها - إغلاق البحر الأبيض المتوسط إغلاقاً تاماً ومنع الملاحة فيه، على أن تترك بعض السفن الحربية الخفيفة للدفاع عن شواطئ البلاد الموالية للحلفاء.

ثانياً - أن تسير الملاحة في طريقها الطبيعي، على أن تقسم حماية طرق الملاحة بين الأسطولين البريطاني والفرنسي، فيتولى الأسطول البريطاني حماية الجزء الشرقي، ويتولى الأسطول الفرنسي حماية الجزء الغربي

وثالثاً - الالتجاء إلى خطة وسط، وهي تقضي بإخلاء البحر الأبيض من الأساطيل التجارية وحدها، مع إغلاق جبل طارق وقنال السويس وعدن في البحر الأحمر، وتوجيه قوات الحلفاء إلى القضاء على القوات المعادية

ويظهر من التدابير التي اتخذتها إنجلترا أخيراً أنها ستنفِّذ إحدى الخطتين الأولى أو الثالثة؛ فإذا طال أمد الحرب أخليت جزيرة مالطة؛ فإن قربها من مواقع إيطاليا الحربية مع صغر مساحتها بجعلها قاعدة جيدة للهجوم

اتفاقات سرية

ونظرة واحدة إلى خريطة البحر الأبيض المتوسط والمواقع الحربية التي تسيطر عليها الدول المتحاربة تبين خطورة الموقف وما يكفله الصراع لتأمين مواصلاته من تضحيات غالية، فلإنجلترا وفرنسا مواقع بحرية كثيرة انتثرت في أخطر مواقعه ممتدة من شرقه إلى غربه، ومن جنوبه إلى شماله، بحيث يتيسر لقوات هذه الجهات التحكم في جميع طرق الملاحة، فضلاً عن سيطرة إنجلترا على أبوابه في جبل طارق وفي قنال السويس. أضف إلى ذلك ما يقال عن وجود اتفاقات سرية تضع موانئ الدول المحايدة تحت تصرف الحلفاء أما إيطاليا فطبيعة موقعها الجغرافي تشطر البحر الأبيض إلى شطرين: الجزء الشرقي والجزء الغربي. والقسم الأخير شديد الخطورة نظراً لكثرة مواقع إيطاليا البحرية عليه، ولأن شواطئها تكون جزءاً منه يمتد من ميناء جنوة بطول الساحل الإيطالي حتى جزيرة صقلية إلى جزيرة بنتلاريا التي تقف في وسط المضيق فتتحكم في طرق الملاحة

تونس

ولا يضايق هذا الخط إلا شاطئ الإفريقي في تونس، وقد أنشأت عليه فرنسا ميناء بيزرت؛ ولعل هذا الوضع يوضح خطورة مطالبة إيطاليا بتونس التي تجعل خطها مقفلاً لو تيسر لها الاستيلاء عليه، ويساعد هذا الخط المواقع البحرية التي أنشئت على جزيرة سردينيا الإيطالية، فلا يقتصر تهديده على مواصلات البحر الأبيض بين شرقه وغربه، بل يتعدى إلى تهديد خطوط المواصلات بين فرنسا ومستعمراتها في أفريقيا

وهذه المواصلات هامة جداً في نظر فرنسا، لأنها الطريق القصير لنقل قوات المستعمرات إلى فرنسا لتغذية قوات خطماجينو، ولم تغفل فرنسا خطورة مواقع القواعد الإيطالية، فأعدت في قورسيقا مينائين خطيرين لهما من حصانتهما ما يكفل إفساد الخطط الإيطالية. وقد اشتغل فيما أمهر المهندسين الفرنسيين، حتى جعلوهما من أمنع المواقع؛ وما زالت أسرار دفاعهما وهجومهما سراً محظوظاً في صدور منشئيهما؛ ولم تتح زيارة بعض مواقعهما إلا لصحافي واحد لم يخرج من زيارته لهما إلا ببعض معلومات زهيدة وصور شائعة.

ولا يسع الباحث أن يتجاهل موقف أسبانيا في هذا الصراع فإن حكومتها الحالية وليدة الأطماع الدكتاتورية في إيطاليا وألمانيا ولها جزر الباليار التي قيل أثناء الحرب الأهلية الأسبانية إن إيطاليا أعدتها لقطع مواصلات فرنسا مع مستعمراتها؛ فإذا انحازت إلى جانب الدكتاتورية، فإن الخط يتضخم، على أنه لن يحد من نشاط الحلفاء، فيسهل تحويل طرق الملاحة إلى المحيط. ولن تستطيع القوات المعادية أن تقترب من الشواطئ الإفريقية لخطورة المواقع البحرية التي أنشئت عليها بطول الساحل من المرسى الكبير إلى بيزرت.

الحصر الاقتصادي ولاشك أن الحلفاء سيتخذون إقفال البحر الأبيض وسيلتهم لتجثو الدولة المعادية على ركبتيها؛ وأول نتائج هذا الإقفال عزل إيطاليا عن مستعمراتها في شرق أفريقيا وفي شمالها؛ وبهذا الحصر تخسر إيطاليا 86 ? من ملاحتها خسارة لا يمكن الاستعاضة عنها، لأنها لا تملك شواطئ على غير البحر الأبيض، بينما تتمتع فرنسا بشواطئها على خليج بسكاي، وعلى بحر الشمال

وعدد البواخر التجارية التي تصل أو تغادر إنجلترا يومياً 815 سفينة، متوسط حمولة كل منها ثلاثة آلاف طن يخترق منها البحر الأبيض 57 سفينة فقط يحول طريقها إلى رأس الرجاء الصالح. وتخسر فرنسا 20 ? من بترولها الذي تستورده من العراق، ولكن خسارة إيطاليا في هذا المادة الأساسية للحرب خسارة فادحة. فهي تستورد من العراق 70 ? من البترول الذي تستهلكه وهو يرد إليها عن طريق جزئه الشرقي ومركزها فيه أضعف من مركزها في الجزء الغربي، فليس لها فيه إلا خط مشاغب يبدأ من جزيرة ليروس في جزر الدودكانيز، وينتهي في طبرق. وقد أعدت هذه الموانئ لتكون قواعد جوية للطائرات وقواعد بحرية للغواصات

ولكن هذين الموقعين مهددان بمواقع الحلفاء وخصوصاً من جزيرة قبرص، التي فاقت جزر الدودكانيز في صلاحيتها للاستعدادات العسكرية من مطارات برية وبحرية ومن قواعد للأساطيل البحرية. وهي لا تبعد عن جزر الدودكانيز إلا 220 ميلاً تقطعها قاذفات القنابل في أقل من ساعة

قبرص والإسكندرية

ولميناء حيفا أهمية خاصة في نظر الحلفاء، ففيها تنتهي أنابيب البترول العراقي، ولكن طبيعة أرضها لم تعدها لتكون ميناء حربياً جيداً. فاتخذت الاحتياطات للدفاع عنها من قبرص والإسكندرية فبعدهما عنها قصير، وهي تمثل الزاوية الثالثة من مثلث ضلعه من قبرص إلى الإسكندرية يواجه الخطر الأجنبي.

وإذا نشبت الحرب فإنه ينتظر أن تصبح الإسكندرية قاعدة الأسطول البريطاني، فإن جزيرة مالطة لا تصلح في رأي الخبراء البحريين لحرب طويلة الأمد، وإن كانت في أول الحرب تتخذ كقاعدة خطيرة للهجوم على مواقع الدولة المعادية، فهي لا تبعد عن صقلية إلا عشرين دقيقة بالطائرات. وأكبر عيوبها ضيق مينائها مما لا يساعد على الحركات البحرية

ويختلف رجال البحر ورجال السياسة إزاء إخلاء هذه الجزيرة، فيدعى فريق أن إخلاءها يحط من هيبة إنجلترا في نظر حلفائها، ويرى الفريق الآخر أن إخلاءها هو الخطوة الأولى لنصر محقق، وخصوصاً إذا تم هذا الإخلاء من بدء الصراع، لأن التجاء الأسطول إليها يجعله في مركز حرج ويعرضه للهجمات المعادية، ويرون الاستعاضة عنها بميناء الإسكندرية التي تعتبر أصلح، ولا سيما بعد التحصينات التي أضيفت إليها.

كوروفو والادرياتيك

وقد يظن البعض أن بحر الإدرياتيك يصبح بحيرة إيطاليا الحصينة، وخصوصاً بعد ما استولت على ألبانيا، فقبضت بذلك، على مدخله من الجانبين، ولكنه يقال إنه توجد اتفاقات سرية مع يوجوسلافيا واليونان تقضي بوضع موانيهما تحت تصرف أساطيل الحلفاء، ومعنى ذلك سهولة مهاجمة سواحل إيطاليا المكشوفة من الغرب، كما يسهل على موانئ فرنسا مهاجمة شواطئها الشرقية من تولون ومرسيليا وأجاكسيو وغيرها. أضف إلى ذلك وجود جزيرة كورفو القريبة من هذا المدخل، وبواسطتها يسهل حصر أسطول الإدرياتيك الإيطالي.

ويجمع الرجال العسكريون على أن دخول إيطاليا الحرب بفتح الطريق أما قوات الحلفاء لمواجهة قوات ألمانيا، سواء من إيطاليا أو من يوجوسلافيا، إذ يهاجمون النمسا من المقاطعة المعروفة باسم سلوفانيا وحصون ألمانيا من ناحيتها أضعف منها في أي مكان آخر. أضف إلى ذلك أنه يتيسر لهم جعل حصارهم الاقتصادي فعالاً؛ فإن إيطاليا ودول البلقان هي أكبر ممول لألمانيا، والغالب أن يجر دخول إيطاليا الحرب إلى حرب عامة تحرم المحور من خاماته سواء كانت حربية أم مدنية فتجوع بطون الرجال، ويبطل عمل الأدوات من مدافع وطائرات ومدرعات

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة