مجلة الرسالة/العدد 357/صوت فضولي!
مجلة الرسالة/العدد 357/صوت فضولي!
للأستاذ عباس محمود العقاد
منذ أسابيع كانت محطة الإذاعة المصرية تنقل إلى الناس أحاديث شتى من مكان في أرباض القاهرة على ما يظهر
وكانت الأحاديث تجري على صيغة السؤال والجواب، أو الاستيضاح والتوضيح؛ وإن السائلين ليسألون، وإن المجيبين ليجيبون، وإن الأدوار لتتوالى دورا ًبعد دور، إذا بصوت لم يدعه أحد، ولم يأذن له أحد، ولم ينتظره أحد، ولم يسأله سائل أن يجيب، قد شق الفضاء وحيداً ثم ذهب بعيداً. . . حتى توارى في حجاب الصمت، وغاب عن الأسماع كما هو غائب عن الأبصار صوت فضولي!
لكنه أحق من أصحابْ الدار، ومن المدعوين الأصلاء، ومن سائر الأصوات أن يسمع في هذا الأوان
لأنه صوت الكروان
الكروان في المذياع، يقتحمه اقتحاماً بغير داع
أذكرني هذا الصوت الفضولي احتفال الأمريكيين بذكرى الشاعر الإنجليزي العظيم وليام وردزورث منذ أعوام
فإنهم أقاموا في صومعته التي عاش فيها أكثر أيام حياته مذياعاً ينقل إلى عشاق أدبه ما كان يسمعه بأذنيه، ويترجمه لحناً في قصيده. فلما كان الموعد المعروف أصغى المحتفلون في القارة الجديدة إلى أصداء الأثير المنطلقة من الصومعة، فإذا هم يسمعون زقاء العصافير ودقات الساعة القديمة وحفيف الأشجار وخفقات الهواء، وكل ما كان في سمع الشاعر وقلبه وخياله، وفي أوزان شعره وآيات وحيه، كأنهم نقلوا عالم الأطياف كله، فنقلوا أطياف العصافير ومناظر الربيع، كما نقلوا طيف الشاعر من العالم الأخير ومن حصن الخلود المنيع
لكن أطيار (وردزورث) كانت مدعوة منتظرة في موعدها المعروف.
أما كرواننا في مصر، فلم يسمع دعوة من الناس. بل كان كل ما سمع دعوة من الربيع ونداء من الأرض والسماء، فلبّي وأطاع، ولم يضره أنه فضولي في عرف المذياع.
ويح هذه الأطيار!
من أدراها بمواسم الأفلاك؟ ومن أدراها بعدد السنين والحساب؟ ومن أدراها بمواعد الأرض والسماء، ومواسم الصيف والشتاء؟
إنها لتدري!
إنها لتقرأ الخط وتفسر الأرقام وتدرس الأزياج وترقب الأرصاد
إنها لقارئة وحاسبة وفلكية وميقاتية، وكل ما شئت من أوصاف العلم والدراية
مالك لا تصدق؟ ما لك ترتاب؟ اسمع سؤالاً وجوابه، وأنت خليق أن تعلم بعد ذلك من منا على خطأ، ومن منا على صواب:
فقد سأل أناس: لماذا تغرد الطير في الربيع؟ لماذا تتغزل وتتغنى في هذا الأوان؟
فحار بعض العلماء في الجواب، وبحثوا ونقبوا، وفحصوا وقلبوا، ثم عادوا إلى السائل قائلين، وهم على أيقن يقين:
إن الطير تغنى في الربيع لأنها تجد طعامها موفوراً فيه، وإنها لتشبع من ذلك الطعام فتسري فيها حرارة الشبع، فتعرف الحب فيلهمها الحب الغناء!
جواب علماء. . .!
فقل لي بحق العلم عندك: أيهما أحق بالتصديق: أن يسألك السائل كيف تعرف الطير المواسم فتجيبه إنها تعرفها لأنها تدرس الفلك وتقرأ التقاويم وتحسن الحساب، أم يسألك السائل لماذا تغني في الربيع فتجيبه إنها تغني لأنها تجد الطعام؟
ماذا على هؤلاء العلماء لو فهموا أن الحياة التي تنبت الشجر وتكثر الحب وتملأ السنابل بالطعام لن تقف مغلولة اليدين مع الأحياء، ولن يتأتى أن تعطي الأرض ما تعطي وأن تعود إليهم وحدهم بغير عطاء؟
لماذا تثمر الأرض وتشرق الأزهار في الربيع؟
إن هذا لأعجب من تغريد الطير وحركة الحيوان. فإذا استطاع الربيع أن ينفخ الحياة في بذرة ورقة، وفي غصن وثمرة، فما باله يعجزعن ابتعاث الطير وتحريك الأحياء؟ وما بالنا نرجع إلى الطعام ولا نرجع إلى الذي نفخ الحياة في الشجر الأعجف فأصبح طعاماً يأكله من يشاء لماذا لا يفهم العلماء هذا؟
لأنهم لو فهموه لأصبحوا شعراء. . . وقد يتفق العلم والجهل؛
أما العلم والشعر فمعاذ الله لا يتفقان!
ولا نحب أن نسأل العلماء عن الربيع، فإن الربيع لمن يحسونه لا لمن يدرسونه، والذين يحسونه لا يستكثرون عليه أن ينطق الجماد بالألحان، فضلا عن البلبل والكروان
فلنسأل الشعراء
والشعراء يقولون إن الربيع شباب الزمان. صدقوا، أي تعريف للربيع أبلغ من هذا التعريف؟
ثم ما الشباب؟
قالوا: والشباب ربيع العمر. . . وصدقوا أيضاً. فأي أوان في العمر هو أشبه بالربيع من أوان الشباب؟
لكن ما الربيع والعمر معاً معشر الشعراء؟
هنا يسكت أصحابنا الشعراء، لأنهم لا يحبون الاستقصاء، ولا يتعقبون الأشياء تعقب الأعداء والرقباء
فليكن الشباب ربيع العمر
وليكن الربيع شباب الزمان
وكفى بذلك تعريفاً لمن يحسون. أما الذين لا يحسون فما هم بعارفين، ولا هم معرفون
وكثير من الذين يحسون قد عرفوا للشباب علامات، وإن لم يحصروه بالكلمات، ولا بالأوقات
فقال الموسيقار موريز روزنتال: (إنك لشاب إذا استطاعت امرأة أن تسعدك واستطاعت أن تشقيك، وإنك لكهل إذا استطاعت إسعادك ولم تستطع أشقاءك، وإنك لشيخ فان إذا عجزت معك عن هذا وذاك)
وقالت ظريفة باريسية: إنك شاب إذا أكلت علبة من الحلوى كل يوم واستمرأت أكلها، وإنك لأكبر عمراً إذا قلت إن الحلوى لسم زعاف، ولكنك تأكلها مع ذاك. وإنك لشيخ يائس إذا انقطعت عن أكلها وعن ذمها وعن اشتهائها وقالت: (إنك لشاب إذا أنت أحببت الكتب والروايات ومناظر السينما التي تبكيك، وإنك لأكبر عمراً إذا أنت آثرت عليها ما يضحكك ويسليك، وإنك لشيخ يائس إذا أعرضت عنها وهي مبكية ومسلية على السواء)
وقالت تخاطب النساء: (أنت شابة إذا نظرت أول ما تنظرين إلى عيني الرجل، وأنت أكبر عمراً إذا نظرت أول ما تنظرين إلى يديه)
وقالت: (أنت شابة إذا راقك الثناء على ذكائك، وأنت أكبر عمراً إذا آثرت الثناء على جمالك ومرآك)
وقالت: (أنت شابة إذا أسفت على وقت ضاع منك في النوم. وأنت أكبر عمراً إذا علمت أن وقتاً تنامينه ليس بالوقت الذي ضاع)
علامات صادقة، لأنها أصدق من توقيت الشباب بالسنة واليوم، ومن حصره بالمصطلحات والتعريفات
وهي صادقة أيضاً لأن المغالطة فيها تجوز حين لا تجوز في مواقيت السنين أو في سمات الشيب والغضون
كان كليمنصو يوم بلوغه الثمانين يتمشى مع صديق في الشانزليزيه، فعبرت بهما صبية فاتنة، والتقت أعين الصديقين، فإذا بعيني الوزير الجليل تلتمعان وإذا به يهتف كأنه يمزح: (ليتني أعود إلى السبعين كرة أخرى؟)
لم قال السبعين ولم يقل العشرين أو الثلاثين. . . أو الأربعين والخمسين؟
لو كان يعلم أن الأمنية تستجاب لتمنى العشرين والثلاثين، ولم يتمن السبعين
لكنها لا تستجاب، فخير له إذن ألا يشهد على نفسه بالفناء وألا يوسع الفارق بينه وبين أيام الغرام. فلأن يكون رجلاً بينه وبين متعة الحياة عشر سنوات، خير من أن يكون حطاماً بالياً بينه وبين المتعة خمسون سنة، ولو في لغة الأماني والأحلام!
سل الشعراء إذن عن علامات الشباب ودلالته، ولا تسألهم عن حدوده وأرقامه، فهم مجيبوك إن سألت هذا السؤال جواباً كجواب العرافين والعرافات يرضي كل سائل ويعجب كل سن ويفتح باب المغالطة على مصراعيه
ومن الذي يأبى أن يثبت شبابه إذا كان الدليل عليه بكاء من رواية أو صورة متحركة أو كتاب؟
ومن الذي يعجز عن إثبات شبابه إذا كانت السبعون أمنية المتمنين؟
الشباب هو ربيع العمر، وربيع العمر له علامات وليست له حدود
والربيع هو شباب الزمان، والزمان في شبابه يستمع إلى غناء الطير وهتاف الكروان، ولا يحسبه من أهل التطفل والفضول
فليكن كرواننا فضولياً في المذياع بين حوار العلماء والأدباء، فما هو بالفضولي في الربيع بين أزاهر الأرض وزواهر السماء
هو مدعو بكل ورقة على كل شجرة
هو صاحب بيت
هو داع في ربيعه الخالد: ربيع الطير الذي ينفث الحياة، وليس بربيع الإنسان الذي ترقبوه لإزهاق الأرواح وتمزيق الأبدان.
إن صوت الكروان لصوت فضولي في هذا الربيع، لأنه نشوز بين صفير الرصاص ودوي القذيفة، وياله من نشوز جميل!
عباس محمود العقاد