انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 356/ساعة مع الأستاذ الأكبر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 356/ساعة مع الأستاذ الأكبر

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 04 - 1940


كان مما لابد منه لمن يكتب في الإصلاح الديني والأزهري أن يستضيء برأي الإمام الذي هيأه الله واختاره التوفيق لزعامة الثقافة الإسلامية في أشد العصور افتتاناً بالعلم وامتحاناً للعقيدة وهزأً للشعور واستعداداً للتطور

والأستاذ المراغي إذا قيلت كلمة الحق فيه إمام هذا العصر بإعداد من الله تجلى في فهمه الدقيق لرسالة دينه، وإدراكه الصحيح لحاجة عصره، وعلمه الراسخ بطبيعة قومه، وملكته السليمة في أدب لغته، وأفقه الرحيب لاقتران المشكلات الاجتماعية فيه تحت ضوء من الفكر الثاقب يبدد عنها ظلام الإشكال فترجع إلى طريقها الواضح من الدنيا أو الدين. وآية المصلح الديني في الإسلام علمه بأن رسالة الدين هي إصلاح الدنيا، وعمله لتوجيه الحكم والسياسة والاجتماع إلى الخطة التي رسمها الحق للحق في دستوره السماوي الخالد

دخلت على الإمام المراغي مكتبه العظيم الفخم في إدارة الأزهر منتصف الساعة الثانية، وكانت الأصوات والحركات قد خشعت في المكاتب والمسالك، فساعدتني الحال على الظفر بجلسة طويلة مع الإمام لم يقطعها عمل ولم يكدرها زائر

تلقاني شيخ الشيوخ بوجهه المنبسط وبشره الرزين، فسهّل علىُّ أن أجد نفسي وأتسرّح في حديثي وأراقب انعكاس الإشراق الروحي على ملامحه الناطقة فأفهمه من قرب. وللمراغي إشعاع على محادثه عجيب؛ وهذا الإشعاع دائم الانبثاق من عينيه وشفتيه فلا تنفك المشاعر منه في غَمر من الإعجاب والإجلال والحب مهما توثقت الألفة وزالت الكلفة وطال الحديث. وأشد تأثير المراغي على النفس القابلة ينبعث من سر نظرته وسحر بسمته ولهجة حديثه وحلاوة جرسه وفصاحة منطقه. أما توقد ذهنه ولطافة حسه ووزانة قوله ورصانة عقله وسراوة خلقه، فتلك خصائص شخصيته وفضائل نبوغه

لا أستطيع أن أنقل إليك نص حديث تدفق وتشقق في ساعة ونصف، ولا أريد أن أقطع سرده بما سألت أو أجبت، فإن همك وهمي أن نسمع إلى الأستاذ. فأنا أروي لك خلاصة الجانب العام من الحديث على اطراد وتساوق لتصل إلى وجه الرأي من أخصر طريق

قال الأستاذ الإمام وقد تزاور عن مكتبه واتجه بكرسيه الدوار إلَّى:

لقد سرني أن تتجه الرسالة إلى معالجة شؤون الأزهر، فإن في النقد الخالص من الهوى حثاً للهمم الوانية، وتذكيراً للنفوس الغافلة؛ ولكني أحب أن يكون النقد على خلوصه رفيقاَ ليطمئن إليه المنقود ويستفيد منه

أنا لا أسلم بأن الأزهر جامد على حاله القديمة، وأرى أنه يتقدم مع الزمن تقدماَ يتفق مع طبيعة أهله في الأناة والروية.

ولو قارنت بين حاله اليوم وبينها منذ أربعين سنة تجلى لك الفرق واضحاً لا غبار للشك عليه. ففي أيام طلبك بالأزهر قلما كنت تجد عالماَ أو طالباً يكتب أو يخطب أو يؤلف أو يتصل بالحياة العامة؛ أما اليوم فأنت ترى أكثر العلماء والطلاب يفكرون ويحررون ويحاضرون ويناظرون ويؤلفون في فصاحة منطق وحسن صياغة وسلامة فكرة

أذكر وأنا مفتش بالأوقاف أنا اقترحنا على العلماء إنشاء طائفة من الخطب المنبرية في الأغراض الاجتماعية المختلفة، فجاءنا أربعمائة خطبة لم نجد من بينها واحدة تستحق النظر. ولكنك اليوم تجد الخطباء في المساجد والوعاظ في المجالس ينشئون الخطب البليغة، أو يرتجلون العظات البالغة فيما تقتضيه الحال من المعاني العامة

على أني أشعر بحاجة الأزهر الشديدة إلى الإصلاح. وأوافق الرسالة على أن الأمر يكاد ينحصر في طريقة المعلم ووسيلة التعليم. وقد أخذنا بالفعل نعالج الإصلاح في هذه الناحية، فضاعفنا العناية بطلاب التخصص لأنهم مناط أملي في المستقبل وموضع ثقتي في الإصلاح، فأنا أتعهد تعليمهم وأتفقد أحوالهم وأشدد امتحانهم، حتى لم ينجح من ثلاثة وعشرون غير ثمانية. ومن هؤلاء أرسلنا وسنرسل البعوث إلى بلاد الغرب ليتصلوا بتيار الفكر الحديث، ومكنا لمن لا يبعث منهم أن يتعلم لغة أوربية في الكلية ليتسنى له بواسطتها أن يزيد في ثقافته.

أما مسألة الكتاب فإني أوثر أخذ العلم من كتب الأئمة السابقين القادرين على صوغ العبارات العلمية في أسلوب ناصع البيان، ولكني أوثر كذلك الإبقاء على طائفة من الكتب المؤلفة على المنهاج التقليدي من تحليل ألفاظ الجملة وتقليب وجوه الفكرة، فإن ذلك سبيل التعمق والاستقصاء والمران لمن عرف كيف يسلكه ويخرج منه. وفي اعتقادي أن غموض النص في نفس التلميذ ناشئ من غموضه في ذهن المعلم. فإذا استطاع الأستاذ أن يحلل عبارة النص في الكتاب ويجلو غامضه من جهة، وأن يجمع أشتات الرأي في الموضوع ويمحص حقائقه من جهة أخرى، تيسر له بعد ذلك أن يلقيه على الطلاب في محاضرة متناسقة الفكر متساوقة الأجزاء محكمة الصياغة، ومن مجموع هذه المحاضرات في العلم الواحد يتألف الكتاب الذي تريده

على أن الكتاب يتضاءل شأنه كلما سمت قدره المعلم، فإنك تذكر أن أستاذنا الإمام رضوان الله عليه كان لا يجعل في يده وهو يفسر كتاب الله غير (الجلالين)، ومع ذلك كان يستبطن بفكرة النفاذ أسرار الآي ثم يكشفها للناس في معرض من البيان المشرق

وفي الكليات طائفة من المعلمين القادرين يستطيعون أن ينهضوا بالتعليم الأزهري نهضة صادقة. ومِلاك ذلك أن يقفوا حياتهم على العلم، ويقصروا جهودهم على التعليم، وأن يتصلوا بأبنائهم اتصالاً روحياً ليغرسوا فيهم حب العلم فيطلبوه لذاته ولذته

كان أشياخنا يقولون: (أعط العلم كلك يعطك بعضه) وكان منهم من لا ينقطع عن التدريس حتى في المرض، ولا يذوق طعم الراحة حتى في العطلة، ولا يرى (أخذ الدرجة) صارفا عن التحصيل، ولا منصب القضاء عائقا عن الأزهر.

قال لي الإمام محمد عبده وقد زرته بعد نجاحي في (العالمية) بثلاثة أيام: أتستطيع أن تعرِّف العلم؟ فأجبته بلهجة الواثق المطمئن: نعم. وأخذت أسوق إليه ما أعرف من التعريفات المختلفة، ولكنه زيفها جميعاً وقال: العلم ما نفَعك ونفع الناس. فهل ما عندك منه ينطبق عليه هذا التعريف؟ فقلت له: لا. قال: إذن لا تملك من العلم الصحيح شيئاً. إنما هيأت لك دراستك وشهادتك السلم، وعليك وحدك بعد ذلك أن تصعد

إن الذي يظهر الأزهر في هذا المظهر الجامد يرجع بعضه إلى إخلاد القادرين إلى الراحة، وبعضه إلى مجافاة أسلوب العصر مع حسن الاستعداد وتوفر وسائل الاجتهاد ومواتاة أسباب النهضة. أليس من العجيب أن تكون عُدد الاجتهاد التشريعي عندنا أكثر منها عند مالك، وذرائع الابتكار الأدبي في عصرنا أوفر منها في عصر الجاحظ، ثم لا نجد فينا فقيهاً يجتهد بعض اجتهاد صاحب الموطأ، ولا أديباً يؤلف بعض ما ألف صاحب الحيوان؟ لقد كان مالك لا يملك من ثروة الحديث النبوي غير ما صحت له روايته منه، وكان الجاحظ لا يجد من مصادر الأدب العربي غير ما وقع من السماع فيه، ومع ذلك صار لمالك مذهب متبع في الفقه، وانتشر للجاحظ مذهب معروف في الأدب. أما نحن فبين أيدينا كل ما ورد عن الرسول من الأحاديث، وما روى عن الأئمة من الأحكام، وما أثر عن الفقهاء من الكتب؛ وفي خزائننا كل ما خلف العرب وغير العرب من لباب الأدب وعصارة الفكر، ومع هذا اليسر في الوسائل وهذه القوة في الاستعداد لا ترى إلا فراغاً يثير الظنون ويغرى بالأزهر التهم

إن العلماء إذا استاروا بسيرة السلف في الإخلاص للعلم والانقطاع إلى التعليم يستطيعون أن يصلحوا فساد الطريقة ويكملوا نقص الكتاب ويصلوا بالأزهر إلى الغاية التي نرجوها من أداء الرسالة الإسلامية على الوجه الملائم لطبيعة العصر وعقلية الناس

وحينئذ كانت الساعة الثالثة، فلم أر من اللائق أن أعوق الإمام عن غدائه أكثر مما عقت، فاستأذنت وانصرفت وأنا موزع القلب بين الإعجاب بالمحدث والاغتباط بالحديث

احمد حسن الزيات