انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 355/على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 355/على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية

مجلة الرسالة - العدد 355
على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 04 - 1940



أساليبنا في البحث وعلام تعتمد؟

للدكتور محمد البهي

كتبت مرة في مجلة أزهرية كلمة حول تطور فكرة (الشر) في القصص الميثلوجية والأبحاث الفلسفية، وكيف دخل كثير مما قيل فيها من آراء في شرح ما جاء في الديانات السماوية السامية من التعبير (بالشيطان) على لسان المفسرين العقليين

فكتب (باحث) آخر يلاحظ أن كلمتي اشتملت على (غموض وإبهام)، وأني قد (أطلت من غير داع)، وأن (كل اعتمادي على الفكر الخيالية) ولم تكن (لمقدمتي الطويلة كبير فائدة تذكر للمسلمين وغيرهم). وليتني (إذ تعرضت للفلسفة أتيت منها بما يستند إلى البرهان العقلي أو التجربة والمشاهدة كما هو أساس الفلسفة الحديثة التي انتهت إلى إثبات الأرواح المجردة علوية وسفلية. ولكني لم أفعل، بل أتيت بما هو منقوض بنفس الفلسفة الحديثة التي انتهى إليها تفكير الفلاسفة العصريين في أبحاثهم)

وهكذا كان (بحثه) مملوءاً بمثل هذه الأحكام والملاحظات. وقد ختمه بأن وعدني (بالمناقشة باعتبار أني مسلم)

مثل هذا الكاتب ليس بالقليل، وطريقته في البحث غير مجهولة. وهو فقط مثل جزئي لظاهرة تطبع تفكير الكثير من (باحثينا) وكتابنا

لهذا لا أقصد من كلمتي هذه سوى شرح تلك الظاهرة وتعليلها من ناحية البحث التاريخي الفلسفي، وإرجاعها لحالة معينة من الحالات العقلية التطورية للجماعة من وجهة البحث البسيكولوجي

كثيراً ما نقرأ (للباحثين) أمثال هذه العبارات: ما أقوله (أنا) حق، أو هو الحق الصراح، أو واضح وضوح الشمس في رائعة النهار. وما تقوله أنت (للخصم) باطل، أو غامض مبهم، أو لا يستند إلى الواقع ولا إلى العقل والمنطق؛ والحس ينكره والتجارب لا تؤيده. . . . . . الخ

هل وضع مثل هذا الكاتب مقياساً علمياً مجرداً عن التأثر الشخصي لمعرفة الحق والباطل؟ هل أتخذ فاصلاً من الأساليب اللغوية لتبين النص والصراحة والوض والاحتمال والإبهام؟ هل أراد من الواقع الواقعَ الذي له اعتبار عام، أم ذلك الذي يدركه هو من أفق ومحيط؟ هل أراد بالعقل العقلَ الإنساني، بغض النظر عما لكل فرد من ثقافة وعادات وعن الفروق الفردية والبيئية، أم أراد به الشائع المعروف كالذي يحكيه الفارابي عن المتكلمين في زمانه من أنهم كانوا يقولون: هذا يقبله العقل، هذا لا يسلم به العقل، ويقصدون بالعقل الشائع المتعارف بينهم، وبذا فهموا المنطق الصوري خطأ واستخدموه خطأ كذلك؟ ماذا قصد من الحس وأي شئ أراده بالتجارب؟ أأراد بها ما يتعلق به خاصة أم أراد تلك التي تكوِّن قواعد العلوم العامة؟

هذه أسئلة يعلق العلماء على جوابها الفصل بين بحث وبحث. فإذا كان الباحث متأثراً بشخصه في وضع (مقياس) الحقيقة سمي المقياس شخصياً. وعليه فالذي يجعل من ثقافته الخاصة، وواقعه الخاص، وعقله وعاداته الخاصة، ونظرته الخاصة في الحياة مقياساً للبحث كان مقياسه شخصياً

والباحث الذي يبعد كل هذه العوامل الشخصية في البحث عن الحقيقة يكون قد قصد إليها متجرداً، وتكون حقيقته التي وصل إليها حقيقة مجردة وعلى قدر تجرده في بحثه مما هو شخصي يكون ظهور حقيقته ناصعة، أي لم يسدل عليها أي غشاء شخصي لا دخل له في ماهيتها الذاتية

والمقياس الشخصي اعتباره بالنسبة إلى الشخص الذي وضعه فحسب؛ فلا تلزم نتائجه غيره ولا تبني عليه أحكام عامة. أما المقياس المجرد فاعتباره عام، لأن تجرده من الأثر الشخصي يبعد عنه نزاع الأفراد ويحمل كل فرد (تقريباُ) على الاعتراف به، ولهذا تكون لنتائجه وأحكامه قوة القوانين والمبادئ العامة

وقد كان الشخص نفسه في القديم معيار المعارف والعلوم، متخذاً ذاته أساساً لبحث الحقيقة والحكم على التصرفات والسلوك الإنساني بأحكام خلقية، فما تخليه حقيقة فهو حقيقة (في الواقع) وما وقع حسنه في نفسه فهو حسن (في الواقع). وأصبحت المعرفة لذلك عبارة عن حقائق شخصية، وأصبح الشيء الواحد له أكثر من حقيقة. ولم يلبث أن أصبحت هذه الطريقة مذهباً فلسفياً عرف بالمذهب الشخصي كما عرف أتباعه بالشخصيين (وهم السفسطائيون في العهد الأول) ومع أن الفلاسفة الذين جاءوا بعد السفسطائيين، مثل أفلاطون وأرسطو حاولوا التدليل على أن (حقائق الأشياء ثابتة) أي غير متعددة تبعاً لتعدد الأفراد، وغير متغيرة لما بينها من مغايرة وفروق بحكم هذا التعدد، وضعوا لتعرفها قانوناً عاماً يسمى آلة العلوم ومعيار العلوم وهو المنطق الصوري؛ ومع أنهم وصوا بعدم إقحام العادات والعقائد الدينية في البحث لم تخلص معارفهم ولا أحكامهم التي كونوها عن الله، والعالم، والإنسان - وهي فلسفتهم - من التأثر بثقافتهم الخاصة، وبيئتهم الخاصة، ونظراتهم الخاصة إلى الحياة، وهي ما نلمسها في افرق بين فيلسوف وفيلسوف

اتجه التفكير بعد ذلك، وهو البحث الفلسفي، إلى الإمعان في الفصل بين المؤثرات الشخصية، والنظر إلى الأشياء على ما هي عليه في الأبحاث العلمية؛ أو بعبارة أخرى مال إلى تجريد المقياس الذي يتخذ أساساً للبحث من الخصائص الفردية. ولم يستطع العقل (الحر) أن يسير خطوة في تحقيق هذه الرغبة إلا منذ عصر النهضة؛ أي بعد أن أخذت شعوب أوربا تتحر من سلطان الكنيسة

وقد كان لموقف الإسلام تجاه الأبحاث الفلسفية منذ القرن التاسع الميلادي إلى القرن الثاني عشر أثر كبير في التشجيع على عملية الفصل هذه. فبينما كانت الكنيسة في الغرب تفرض أن تكون العقيدة الكنسية المبدأ الذي يأخذ منه البحث مجراه، كان المسلمون في الشرق، ثم في الغرب أيضاً يبحثون في فروع الفلسفة المختلفة؛ في الطبيعة والرياضة حتى في المسائل الإلهية، والأبحاث لنفسية الخلقية، في جو مملوء في عمومه بحرية البحث وأنتج من الفلاسفة المسلمين من استطاع أن ينتج. ووصلت فلسفتهم مميزة الفروع، أي لم يراع في بحثها مبدأ واحد كمبدأ العقيدة مثلاً، إلى أوربا عن طريق أسبانيا

فلما احتك العقل الأوربي الراغب في التخلص من الجولان حول نقطة واحدة، نقطة العقيدة، بالعقل الشرقي الإسلامي الذي لم يتحكم في تفكيره اتجاه خاص، ازدادت رغبته في بحث الكون من الكون نفسه، فترك العقيدة جانباً، أي ترك أهم عامل من العوامل التي تؤثر في بحث الشخص والتي تجعل مقياسه العلمي شخصياً، وعمل على تخلية نفسه من كل اعتبار آخر غير اعتبار (الحقيقة) لذاتها

وكان ديكارت أول فلاسفة عصر النهضة الذي نفذ هذه الرغبة في صورة منظمة كاملة. ثم نحا كثير من الفلاسفة نحوه وهو العمل على وضع مقياس علمي مجرد عن الأثر الشخصي، مقياس ولم يكن اختلافهم الذي بدا في مذاهبهم المنسوبة إليهم اختلافاً في وجوب اعتماد المعارف الإنسانية وفي حاجة يقينيتها إلى مثل هذا المقياس، بل كان في كمية الشروط وفي كيفها التي تحقق مثل هذا المقياس المنشود

وإذن أصبحنا نرى في تاريخ الفكر البشري مقياسين للمعارف: المقياس الشخصي، والآخر غير الشخصي (المجرد)، ونرى كذلك لإنتاجه طابعين: الطابع الشخصي والطابع الذي يتعدى الفرد والشخص

والتفلسف لم يقم - منذ أن قام - إلا لإيجاد المقياس غير الشخصي، وإلا لأن يطبع أبحاث الإنسان وعلومه بطابع الاعتبار العام كي يتخذ منها أساساً واضحاً، بعيداً من النزاع الفردي، في إرشاد الإنسان نفسه وفي تمكينه من السيطرة على بيئته، وبالتالي في تقريب أفراد الجماعة الإنسانية بعضهم من بعضهم من بعض وفي تكوين ما يسمى (بالعقل الإنساني)

والفلسفة في بدئها ونهايتها، وفي قديمها وحديثها، لم تعمل لغير هذه الغاية. وما يبدو في معارف الإنسان الأولى من خيال أو وهم أساسه استخدام المقياس الشخصي في بحثها، وما يبدو في علومه لآن من عقل ومنطق أساسه التقرب بقدر ما يمكن من المقياس الثاني، والتخلي بقدر المستطاع عن العوامل الشخصية في البحث

وعلماء النفس حينما نظموا الأبحاث النفسية الحديثة، فرضوا (للجماعة) نفساً كنفس الفرد سواء بسواء، وطبقوا عليها لذلك مظاهر التطور النفسي من طفولة فمراهقة فرشد وبلوغ

وجعلوا من مميزات الطفولة (الأنانية) أو ما يسمى (بأنا) لأن الطفل في أحكامه يصدر عن (ذاته) وليس عن الواقع المجرد عن شخصه ونفسه. وجعلوا من مظاهر المراهقة الوقوف بين بين، إذ أحكامه وتصرفاته غير واضحة المصدر. ولذا نراه يعيش كثيراً في الخيال الذي لا يمت إلى الحقيقة الراهنة بصلة وثيقة. وأحياناً يساير الواقع؛ ولكنه في خياله ملك ممتع، وفي حقيقته إنسان ضعيف يكثر البكاء والملل من هذه الحياة؛ لأن القلم الذي يسطر به في صحف الخيال لا يقدر على متابعة الكتابة فوق صخرة الواقع. وجعلوا من مظاهر الرشد أو النضوج ربط التصرف بالواقع، وعدم إقحام المؤثرات الشخصية في الحكم عليه، والنظر إليه (بعين الحقيقة) لا يعنيه هو

وكذلك حكموا على الجماعة فأطلقوا عليها جماعة ساذجة، أو لم تزل بعد في دور الطفولة، إذا كانت تجعل الفردية أو الشخصية أساس المعرفة؛ وحكموا عليها ببلوغ طور المراهقة إذا حاولت الفصل بين الشخصي والواقع، وببلوغ طور الرشد والنضوج إذا اتجهت في أبحاثها نحو الواقع أكثر من تأثرها بالعوامل الشخصية

وعلى هذا فالتفلسف، أو بحث الإنسان العقلي داخل الجماعة البشرية، يمثل دور الطفولة في الوقت الذي كان يسيطر فيه المذهب الشخصي ويحكى دور المراهقة في الزمن الذي بدت فيه الرغبة إلى الفصل والعمل على تنفيذ تلك الرغبة.

وفي عصرنا الحديث يدخل في دور الرشد والنضوج لأن السائد في أبحاثه مذهب الـ

هذا عرض تاريخي موجز لأساليب البحث في القديم والحديث بالنسبة للفلسفة والتفلسف، وفي أطوار نمو وتدرج الجماعة في التفكير من الوجهة البسيكلوجية.

وفي ضوء هذا نعود إلى هؤلاء الباحثين، أمثال ذلك الباحث (الأناني)، الذين تتصل أحكامهم صلة وثيقة بذواتهم، وتتكون مما لهم من ثقافة خاصة ونظرة في الحياة لنقول لهم: إن هذه الأبحاث مادام مصدرها (أنا) وغايتها (أنت) سوف يكون اعتبارها شخصياً لا تؤدي نصيباً في الإنتاج الفكري العام.

ثم إلى هؤلاء الأقلاء الذين يسلكون في أبحاثهم طريق (العقل الكلي)، عقل الإنسانية - لا ذلك العقل الجزئي - لنقول لهم أيضاً: عليكم وحدكم يتوقف توجيه أمتنا في حياتها العقلية وعليكم وحدكم يتوقف مستقبل التفكير في مصر والسير به إلى طور الرشد والنضوج!

محمد البهي

دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس

من جامعتي برلين وهامبورغ