انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 355/الدين. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 355/الدَّين. . .

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 04 - 1940



عن (موباسان)

بقلم الأستاذ مراد الكرداني

خرجت لتبحث عن القوت فرجعت ومعها جائع!

زحف الظلام فلفَّ باريس كلها. وغشيتها موجة من البرد القارس. وجثمت على صدر المدينة اللاهية الضاحكة غاشية من همٍ ثقيل حبست الناس إلى دورهم، وحلَّقتهم حول مدافئهم. وقد خَلت من رُوادها المسالك والطرقات. وهجعت مدينة النور - على كُرْهها - تحت أطواء ليل بارد مظلم طويل

ولكن (فأنى) التي طوت نهارها طاوية لم تكن لتأبه لذلك البرد القاسي، فإن الجوع قد لوى أمعاءها وخمصَ بطنها، وأَشاع في نفسها الخوف من أن تتضور في غدها كما تضورت في يومها؛ فخرجت - ككل أُمسية - لترابط على رأس طريق تنتظر فيه من يمنحها الخبز الرخيص لقاءَ أن تهبه جسدها ساعة أو بعض ساعة

وفي تلك الليلة القرة كان الرجال يمرون بها مراً لا يحفلون بها، لأنها لم تكن تحسن دعوتهم، ولأن لذع البرد لن يدع في نفوسهم سوى أن يصلوا إلى مكان دفئ كنين، فلم تُلفتهم تلك الهسهسة المرتجفة التي كانت تقع من أذهانهم موقع الظِّنّة والعجب من هذه الفتاة التي تهزأ بهم وتسخر منهم في هذا الليل المثلوج!

كانت شابة جميلة تقف على قمة العشرين، تفور أنوثتها في كيانها فتنضح حسناً في وجهها وامتلاء في جسدها، وشهوة تتألق في عينها الشرهة ونظرتها الآثمة. . .

تلك (فاني) التي سطع نجمها فبهر باريس من أقصاها، إلى أقصاها، وشغلها عن كل غانية سواها، تدور الليلة يهرأها البرد ويلويها الجوع فلا تجد من يشبعها أو يأويها. حتى إذا خَدرِت قدماها من طول ما وقفت، وسرت في قديمها وفخذيها رطوبة الأرض المصقوعة همت راجعة وهي تغمغم قائلة:

- لم يعد ثمت أمل فلأرجع إلى بيتي

وكأنما شق عليها أن تنتهي غمرتها هذه النهاية المحزنة المؤلمة، لأنها حين دارت بجسمها لتأخذ طريقها دارت عينها تفحص الظلام حولها عله يتفتق عن رجل. . . فلمحت شبحاً يسيراً مضطرباً متثاقلاً يتلفف في معطف بال مهلهل. . . كان بين الخطوة والخطوة يتأنى ويتمهل كأنه يستوضح الطريق أو يدبر المصير

وحين تبينته ظنته طلبتها التي إليها تهفو فرصدت سبيله، وطفقت تهمس له في صوت داعر مرتعش لفته حين ملأ سمعه. . . فاستدار لها وقصدها متوجساً منها مسرعة إليه!!

. . . لم يكن مخموراً كما حسبت، ولا كانت خاطئة كما ظن. . . إنما كان جائعاً شريداً. . . مهزولاً، ذرع المدينة الغارقة في الثلج يومين كاملين حتى عصبه الجوع وأزحفه السير والسرى

قالت له في حنو وإشفاق، وهي تسنده في لفة ذراعها وتقبله في نهزة الظلمة والسبيل خالية:

- مسكين. . . مسكين! لا تحزن. . . تعال معي فهي حجرة على أي حال وفيها دفء وقرار. . .

. . . ووصلاً معاً. . . وحين دلفا إلى الحجرة، واستشعر دفئها صاح في جذل وسرور وهو يلقي بنفسه إلى الأرض إلقاءً:

- ما أهنأني بهذا المكان. . . إنه ولا شك أفضل من الشوارع. نعم إنه أفضل من الشوارع لقد أمضيت دهراً في الشوارع وفتحت (فاني) خزانتها وَعَيْثت فيها، وكانت تحوي كل ما تملك من ملابس وطعام وشراب! إن كانت الكسر التوافه التي ضربت فيها العفونة تسمى طعاماً. . . أو إن كان القليل من النبيذ الرخيص يصلح أن يكون شراباً. . .

قدمت له كل ما عندها، بعد أن عجفت نفسها عنه، فشبع وروى جهد ما وسعها أن تشبعه وترويه. . . وحين أهجأه الطعام شرع يقص عليها قصصه وقد طامنت جوعها واطمأنا معاً. . . قال: (قضى جدي منذ زمن قصير ولم يكن لي سواء وكان مصوراً مغموراً. . . وقبيل موته أوصى بي أحد معارفه هنا، وحملني إليه رسالة مكتوبة ناشده فيها أن يعني بأمري، ويعلمني حرفة التصوير وكنت احمل - حين قدمت باريس - نيِّفاً وثلاثين فرنكاً كانت كل ما أملك من متاع الدنيا. . .

(طفقت أبحث عن الرجل فما وقعت له على أثر. إذ كان نقل مسكنه إلى حيث لا يدري أحد من جيرته فلبثت ستة أشهر أنفق مما معي إنفاق الحريص الشحيح حتى نفذت ثروتي عن آخرها منذ سبع ليال! فهمت على وجهي متسولاً في الطرقات، وفي تلك الأيام التي يجمد فيها الدم وتجنُّ فيها الريح. . . آه يا سيدتي. . . عندما لقيتك لم أكن قد طمعت شيئاً منذ ثمان وأربعين ساعة!)

وكان التعب والدفء قد فعلا فيه فعلهما فلم يقوَ أن ينهض ليخلع عنه أخلاقه. فنهضت تساعده وتنضوها عنه في رقة وحرص. . . ثم احتوته في صدرها في عطف وحنو، وأخذت تقبله وتدلِّله وقد شاعت فيها الرحمة وأنساها بؤسه بؤسها. ثم تم تركه لتخلع ملابسها هي أيضاً. . . ثم صعدا إلى فراشها وكنَّتْه في حضنها كطفل عليل، وناما - ملء عيونهما - إلى ضحوة النهار

. . . . . . واستدانت ثمن غذاء رخيص في مطعم حقير، وحين جاء الليل تأذَّنَتْهُ أن تغيب عنه بعض الوقت. . . وحين عادت أفرغت بين يديه أثني عشر فرنكاً قائلة إنها كسبتها وإنها أحسن حظاً من الليالي السالفات، وإنها تدين له بهذا الحظ الوفير، ثم قبلته وتركته كَرَّة أخرى إذ كانا - لا يزالان - أول الليل. . . . . . وأوغل الليل. . . ثم انتصف. . . ثم تهوَّر ولم تعد (فاني) فقلق عليها. ولكن لم تداخلْه في خِفْيتها ريبة. . . وأسفر الصبح ولم تعد أيضاً. . . ولما علا النهار غادر الحجرة. إذ كان عليه أن يعول نفسه ويعودَ ثانياً فيطرق شوارع باريس العديمة القلب، وإن كانت ستغنيه تلك الفرنكات القليلة التي تركتها له - تلك التي لم يعرف اسمها - عن التشرد بضعة أيام!

أما هي فكان من تَعَسِها أن احتجزها رجل الشرطة، لأنها كانت تسير عبْر شارع محظور على مثلها أن تسلكه أو تظهر فيه. . . ومن ثَمَّ أعدوا لها - جزاءَ ما اجترأت - مكاناً في سجن البغايا في (سانت لازار)

ودارت عجلة الزمان خمس عشرة دورة، تحولت الحال فيها غير الحال، وتبدَّل فيها كل شئ. . . ذاقت خلالها (فاني) من صابِ الحياة وحلوها ويسرها وعسرها ما تذوقه كل طريدة مثلها. . . وهبت نفسها للائم والخطيئة. . . فعلا التيار بها وهبط ومد جزر. حتى استقر المطاف بها أخيراً فإذا هي - بعد جهد السنين - غانية باريس الأولى وزهرة مجتمعاتها وحفلاتها وكوكبها الذي إذا ظهر أخذ وبهر، وإذا غاب شغل وأسر. . .!

كذلك، وفي وثبة واحدة بلغتِ (فاني) الأوج وارتفعت إلى ذروة مالاً وجمالاً وشهرة وبُعدَ صيت. وأثرتُ تلك الفتاة المعدمة الشريدة التي آوتها الطرق ليالي وأياماً وربَّتها الحادثات، والتي عانت الجوع والعرى ألواناً وأعواماً؛ وتدفق في يديها الذهب، وأقبلت عليها الدنيا، حتى سار المثل بغناها وبذخها واندفعت في نزق وجنون تنتقم من يومها لأمسها، فأسرفت في اقتناء الجياد والمركبات واستعمال الخدم والنُّدُلِ، وجُنَّت بالترف البالغ والسرف الطائش حتى طاولت بقصورها قصور السادة والأمراء، وطار ذكرها فعبر فرنسا كلها وجاوزها، فتهاوت تحت قديمها أفئدة الرجال، واحتولها السادة، وتحلَّقها الخاصة، واحترق في وَهَجِهَا الشباب النُّضرُ من كل صَوْب وفج، وذابت في لَذْعةِ السحر من عينيها الأخاذين الأموال الكريمة. والضياع الوَساعِ، واختفت في أبهاء قصورها وبُهْرَات ملاعبها ومغانيها ثروات السفهاء البُله من سادة الحكم ووزراء الحاكم وأمراء المال من كل بلد وقطر!

وظَلَّت (فاني) فترة من الزمن ملكة الجمال الفاتن والبذخ العريض، ليس في باريس وحدها ولكن في دائرة مركزها باريس ومحيطها عَبْر المحيط. . . تمسكُ أفئدة الخاصة - بل خاصة الخاصة - بخيوط جُمْعُها في يدها. فتؤوِي من تشاء وترْجي من تشاء، وتَتَحظى من تريد وقت ما تريد. وبلغ بها هَوسها أن تألهتْ فقسمت الحظوظ بين عُبَّادها وفَرَقَتْهُمْ، فمنهم شقي وسعيد!

. . . وأَوفت الفتنة في هذه (المخلوقة) وبها على الغاية حتى ذل فيها الأعِزة الشمُّ من الحافين حَولها، وحتى هلك في سبيلها من حقَّت عليه كلمتها. فقضى من أجلها من قضى، وجُنَّ فيها من جُن. . .

. . . وكأنما بَرِمتْ باريس بهذه الداهية الوافدة التي شغلتها برهة من الزمن فعالجها القدر وهي في عقدة عِزَّها، إذ توالت عليها المصائب ودهمتها الحوادث بغتة ومن غير تمهل، فأخذت تنحدر سريعاً كما ارتفعت سريعاً. . . وفعلت تلك الحياة العابثة الصاخبة فِعلها في أعصابها وكيانها. . . فأصابتها لَوثةٌ جعلت تخبط فيها على غير هدى. . . ثم ركبتها الديون. . . فاضطربت رأساً لقدم، وأخذتها العزة فلم تَقْوَ أن ترى الدائنين يجترئون عليها فيقتحمون مقاصيرها. ومخادعيها - على عينيها - ليستوفوا أموالهم بعدل ما تحوى من كنوز ثمينة وطرائف عجيبة ونفائس غالية!!. . .

وأسلمها الخبل إلى الجنون، وتضاءلت شهرتها وانفضت من حولها حاشيتها. وتقلص ظلها الممدود وهو النجم الذي تضوَّأ فأفل - من وهج نوره - كل نجم سواه. . . واختِصرت الدنيا العريضة التي وسعتها، وصارت حجرة. . . حجرة بسيطة في مستشفى المجانين لا تليق أبداً بـ (فاني) العظيمة!. . .

وقرأ الفنان العظيم (فرنسيس جويرلاند) خَبَرَ ما أصاب (فاني) غانية فرنسا، فلم يلفته النبأ بَدْءَ الأمر، ولكن الصورة المنشورة أرجعت عقله - حين توضَّحها - إلى الوراء بعيداً بعيداً. . . حتى عثر في طواياه على ذكرى سحيقة. . . وذكرى تلك الليلة. . . . . . وحين عرف أن (فاني) الحسناء لم تكن سوى تلك الفتاة التي أطعمته وأدفأته وحنت عليه حنو الأم على وليدها والتي ذهبت عنه فلم يرها ولم يسمع بها، والتي جَدَّ في البحث عنها فلم يجدها حتى أيس منها، والتي كانت تصحو ذكراها في زوايا قلبه فيردِّد شكرها في أعماقه ويتمنى لو يراها. . . حين عرف كل ذلك آسفتْه هذه النهاية المفجعة لهذه الغانية الطيبة القلب. . . ثم عجب لنفسه كيف جهل أن (فاني) التي لهجت بسيرتها كل شفة وشغلت بجمالها كل إنسان لم تكن سوى فتاته التي تركت له أثني عشر فرنكاً ومضت. . .

قال يحدث نفسه بعد أن رجع من غياهب الماضي الذي غَرِق فيه:

- إنه لا يحسن أن تنهي حياة (فاني) هكذا، وفاض فؤاده نحوها بحنان غزير. واعتزم أن يعمل من أجلها عملاً ما، ومع أنه حَمِدَ للقدر أن هيأ له أن يراها ليبثها شكره وامتنانه، وليرد لها جميلها الذي لا يستطيع أن ينساه، إلا أنه حزن وأسى وود لو كانت لقياهما في ظروف أحسن من هذه

ولم يكن الفنان النابه ثرياً إنما كان يحيا حياة وسطاً قوامها ما كان يربحه من فنه كمصور، فباع كل ما يملك ليستطيع أن يجد لها مكاناً خيراً من الذي هي فيه وجواً أرجى وأنقى. وعناية أتم وأكمل حيث تراعى وتعالج ويعني بحالتها النفسية، وحيث تقوم على أمرها ممرضة تحنو عليها وترعاها. . . وهناك تحسنت صحتها تسناً ظاهراً شجعه أن يحملها إلى بيته ليخدمها بنفسه. وليدخل على قلبها لوناً من المسرة والبهجة، سيكون له - بإذن الله - أثر في تقدم صحتها، ولكن الطبيب عارضه وأنكر عليه ونصحه قائلاً:

- ستعود بها إلينا ثانياً. . . أن لهذا المرض نوبات تعاودها حيناً بعد حين. وقد قضي عليها إحدى هذه النوبات فلم يرضخ لنصح الطبيب، وقال له:

- إنه لابد أن تعيش معي، إنها أشبه بأمي. . .

وفي منزله اعتنى بها وخدمها بإخلاص، وسهر عليها في حنو وصبر. وكانت الصدمة قد كهلتها فتخاذلت وابيض شعرها، ولم تستطع أن تعي حقيقة أمرها، ولا أن تعرف شيئاً عن الرجل الذي يأويها ويقوم على شأنها، ولم يشأ هو أن يذكرها بنفسه، بيل ذهب إلى أبعد مدى في نيل وإنكار الذات، إذ تركها تعتقد أنها في رعاية شاب ثري فُتن بها وأحبها لنفسها حباً حقاً خالصاً موقناً أن هذا الحلم السعيد الذي تعيش فيه مطمئنة وادعة، والذي قدَّمَ لها خيوطه الحريرية فنسجته هذا النسج البديع اللائم سيسرع بها نحو العافية. . .

. . . ولكنها عُقبى نوبة قاسية من نوبات دائها أسندت رأسها إلى صدره هانئة سعيدة وأسلمت نفسها تحت عينه وبين ذراعيه وحين أراح على فراشها جثمانها الساخن ذكر ليلة أن طعم ودفئ وبات هانئاً سعيداً ملء حضنها وبين ذراعيها وغمغم يقول:

- هل دفعت الدين يا فاني؟!. . .

مراد الكرداني