انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 354/من وراء المنظار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 354/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1940



صراع. . .!

سألتُ صديقي الأستاذ (عين) أن يعيرني منظاره ساعة من زمان، علَّي أرى من خلاله ما توسوس به نفوس قوم قضيت بينهم عمراً من عمري، أحسن الظن بهم، وأقربهم إلى نفسي خشية أن يستشعروا الوحدة، وأنزل لهم عن بعض مالي خيفة أن يجدوا لذع العوز، وأواسيهم في البأساء ضناً بقلوبهم أن يأكلها الأسى و. . .؛ فلما أعرضت الأيام عني، انطلقتُ أفتش عبثاً، وإذا أنا على حَيْد الطريق، وحيداً تكاد تعصف بي أعاصير الحياة لولا بقية من أمل. . .

وأراد صديقي الأستاذ (عين) أن تكون له عندي يد أخرى، فقدَّم إلي منظاره في رضى، فوضعته على أنفي في خيلاء، ودلفت إلى الشارع في أناة وتؤدة، وهو من ورائي يشيعني بنظراته الباسمة

وخشيت أن ينزلق المنظار من على أنفي وأنا أتخطر في مشيتي، ومالي عهد بالمناظير، فيتحطم وأنا به ضنين؛ فانتحيت ناحية أصلح من شأني وشأنه، وأزوَّر في نفسي أمراً، فما راعني إلا صوت يناديني باسمي

والتفت فإذا صديقي (م) وزوجته يسيران الهوينى جنباً إلى جنب وذراعاً في ذراع، وقد عرته حمى الضحك حين رآني أقلب المنظار بين يدي، أضعه على عيني مرة، وأخلعه مرة، في حيرة وتردد؛ غير أني تغاضيت عن مجونه وأنا أدنو منه

لقد نشأ صاحبي (م) - كما نشأت أنا - بين ربوع الريف في ظل القرية الوارف الجميل، لم تلوث المدينة دمه الطاهر، ولا دنست الحضارة قلبه الزكي. عرفته وعرفني أول عهدي بالمدرسة، فهو أول من جلست إلى جانبه في فصل، وأول من تحدثت إليه في مدرسة، وأول من سكنت إليه في درس، وأول من لاعبته. . . ودرجنا ودرجت معنا الصداقة الجميلة الرفّافة، والأيام تجمع بيننا وتفرق، ونحن على عهد من الود لا نقطعه، وميثاق في الهوى لا نخيس به، وفي القلبين أواصر لا تستطيع نوازع الحياة أن تعبث بها، ولا تطمع حاجات العيش في أن تطغى عليها

وبهرت المدينة صاحبي أول ما هبط القاهرة، وهو قد هبطها طالباً في الجامعة، فاستلبه بهرجها من وقار القرية وحيائها ليقذف به في هذر الحياة ومجونها، وجرفه التيار وهو عنيف، فما استطاع أن يخطو الخطوة الأخيرة من تعليمه الجامعي إلاّ وهو يلهث من أثر الإعياء والبهر، ثم أرخى لنفسه العنان

وتعرف إلى ابنة (فلان) بك، وهو عين من أعيان القاهرة استطاع أن يخلق من جاهه وظيفة مرموقة يقدمها مهر الزواج إلى زوج ابنته الوحيدة. . . إلى صاحبي

وشاء (البك) ألا يحرم النظر إلى وحيدته، وهي قرة عينه وفرحة قلبه، وما في القصر سواها بعد أن ماتت عنها أمها، وسوى زوجته الجديدة، وهي فتاة في فجر العمر وثورة الشباب تزوجت من (البك) وفاء دين كان على أهلها، فلمست فيه برد شبابها المضطرم، وأحست بعد ما بين شيخوخته الذاوية وبين نضارتها المتألقة، فانطوت على نفسها تبكي حظها العاثر، ثم. . . ثم أشرق صاحبي الشاب في الدار فابتسمت له حين وجدت في غدوه ورواحه حياة تتوثب

وعاش الفتى في هذه الدار يتغنى بالسعادة ويترنم بالهناءة، وهو يحدثني حديثه - بين الفينة والفينة - فأستبشر لكلماته ويطمئن قلبي

لا جرم، فالآن قد نفذ بصري من خلال المنظار إلى الحقيقة التي لا يعرفها صاحبي، الحقيقة التي إن جاشت بها نفس الزوج طّمت عليها ابتسامات الزوجة الرقيقة. . .

هذه هي الزوجة الطيعة الوفية تتراءى لي وهي تنظر إلى زوجها الريفي الساذج في احتقار وسخرية، وفي نفسها أنه صنيعة أبيها ويد من أياديه، أقامه وهو يتكفأ في مضطرب الحياة، ولمّ شعثه من شتات، وخلق منه رجلاً ذا مال وأنق وهو على خطوة من التصعلك، ثم هي لا تحس باحترامه ولا تشعر بكرامته، وكيف؟ وهو قريب عهد بآداب الجماعات والحفلات، لا يعرف الرقص، ولا يتقن (البوكر)، ولا يصبو إلى الأصفر والأحمر من شرابهم وإن حمرة الخجل لتربط على لسانه إن هو جلس إلى فتاة غريبة، وإن فورة الغيظ لتسيطر عليه إن جلست هي إلى شاب غريب، وهي فتاة من بنات الشارع ترى في طباعه تزمت الأغبياء، ورجعية الفقراء، واضطراب الجهلاء، فتعبث به، وهي في مأمن من ثورته، لأنه عبد أبيها. . .

ورحت أحدق في الزوجة لأتغلغل إلى خلجات ضميرها. . . وهي تتصاغر في عيني، وهو يتضاءل تحت منظاري، حتى بلغنا سيارة (البك)، وفيها زوجته الشابة تنتظر. . . لقد أرادت أن تخلو إلى نفسها ساعة تدبر أمراً. . .

وعجبت أن رأيتها تلتصق بصاحبي تريد أن تستشعر الدفء من شبابه، وهي تحاول أن تصرفه عن زوجته رويداً رويداً لتستمتع به، وفي قصر زوجها، غير أنها كانت تخشى صولة (البك) ونظرت إلى زوجة صاحبي فألفيتها لا تستطيع أن تلمس خواطر تتنزى في قلب زوجة أبيها، لأن حياتها المائجة كانت قد أسدلت على عينيها ستاراً لا ترى من فروجه إلا الحفلات والسهرات، وإلا الزينة والسمر، وإلا. . . فأوشك البيت أن يتداعى عليها

وعجبت لهذا الصراع النفساني يحوم حول صاحبي وهو عنه في غفلة؛ فرفعت بصري إلى السماء أحوله عن بعض ما رأيت؛ غير أني ذهلت أن رأيت صفحة من صفحات القدر منشورة أمامي أقرأ فيها: أن (البك) قد مات، وأن النزوات المكبوتة قد ثارت. فيا ترى من ذي التي تفوز

وأنت يا صاحبي لا تلحني فلقد كتبت لك سطراً من حياتك علك تجد لنفسك مخرجاً قبل أن تتردى

(مشتهر)

كامل محمود حبيب