انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 354/بابر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 354/بابر

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1940



للدكتور عبد الوهاب عزام

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

- 1 -

لم تخضع الهند لبابر بعد موقعة بانيبات فقد بقي أخو السلطان إبراهيم مطالباً بالملك والبلاد كارهة غارة بابر، وكثير من المدن والقلاع متأهبة للدفاع، وكادت جيوش بابر تهلك جوعاً على كثرة ما بأيديها من الغنائم، وزاد حالتهم سوءاً شدة الحر. نقرأ في بابرنامة هذه السطور: (لما جئت إلى اكركان وقت الحر وكان الناس قد فروا من الخوف فلم نجد حبَّا لنا ولا علفاً لدوابنا، وكانت القرى قد نهبت إعناتاً لنا وكراهية فينا، وأفسدت الطرق. . . إلى أن يقول: (وكان الحر هذه السنة أشد من المعتاد، وكثير من الناس سقطوا كأنهم أصيبوا بالسموم وماتوا في مواضعهم) شرعت جيوش بابر تتذمر كما تذمرت جيوش الاسكندر حينما فتح الهند من قبل، وهموا بالرجوع إلى كابل وقد ذكرهم هذا الحر هواءها البارد؛ فجمعهم بابر وذكرهم أنهم تحملوا ما تحملوا وقاسوا ما قاسوا من أجل هذه الغاية التي بلغوها اليوم: (إن عدواً قوياً قد هزم وإن تحت أقدامكم مملكة عظيمة، فهل نترك كل ما كسبنا بعد أن بلغنا الغاية التي سعينا إليها ونفر إلى كابل كأننا جيش مهزوم مطارد؟ من كان يزعم أنه صديقي فليقلع عن هذه الوساوس. ومن لم يستطع أن يقسر نفسه على البقاء فليذهب). وخجل الجيش فلم يحر أحد منهم جواباً

وجاهد بابر لتهدئة البلاد بالرغبة والرهبة، ولم يكن له بد من لقاء عدو هو أكبر الأعداء في الهند. ذلكم رأنا سانجا زعيم الأمراء في رجبوت، قد جمع مائة وعشرين قائداً وثمانين ألف حصان وخمسمائة فيل، وأيده أمراء آخرون وجاءته الجيوش من أرجاء مختلفة

وخرج إليه بابر سنة 934هـ (11 فبراير سنة 1527) بعد سنتين من موقعة بانيبات وهي أول مرة يتقدم فيها لحرب عدو من غير المسلمين. وعسكر بابر عند سكري التي سميت فيما بعد فتح بور، وبنى فيها جلال الدين الأكبر قصوراً عظيمة وظل خمسة وعشرين يوماً يحصن معسكره وينشر السكينة في قلوب قومه وقد ملكهم الرعب مما سمعو ورأوا من شجاعة الرجبوتيين. في هذه الشدة هجر بابر الخمر وكسر أقداحها وأراق دنانها ثم جمع جنده فخطب فيهم: (أيها الأمراء والجند، لا بد لمن يجيء لهذا العالم أن يفارقه؛ وإنما البقاء لله الذي لا يتغير. وكل من جلس على مائدة الحياة شارب كأس الموت لا محالة، وكل من طرق نزل الفناء هذا فهو لا بد راحل يوماً عن دار الحزن. أولى بنا أن نموت أحراراً من أن نعيش أذلاء

(إن من فضل الله علينا أن ضمن لنا إحدى الحسنيين، فإن متنا متنا شهداء، وإذا ظفرنا ظفرنا في سبيله. هلموا نقسم جميعاً بالله العظيم ألا نفر من هذا الموت وألا نرهب مآزق الحرب حتى تفارق أرواحنا أجسادنا)

فأقسموا جميعاً على القرآن. وتقدم بابر في جموعه وعبأ جيشه كما فعل في بانيبات من قبل، ثم ركض جواده بين الصفوف يحض الناس على القتال والصبر ويعلمهم ما يجب عليهم حين تنشب المعركة

والتقى الجمعان في كنوها (16 مارس سنة 1527) واحتدم القتال واشتدت حملات الرجبوتيين واستمر الجلاد وجهاً لوجه ساعات كثيرة. ثم أرسل بابر سرايا المغول لمفاجأة العدو من الخلف وانتهى الأمر بهزيمة عدوه بعد أن استمات في القتال تاركاً آلاف القتلى في المعترك. وفر سنجا مثخنا بالجراح ومات بعد قليل، ثم لم يتعرض أحد من ذريته من بعد لحرب أحد من سلالة بابر بهاتين الموقعتين في بانيبات وكنوها حطم بابر أعظم القوى المخالفة في الهند. ثم استطاع أن يقضي على مخالفيه واحداً بعد الآخر في مواقع كثيرة آخرها موقعة هزم فيها المقاومين من سد مملكة دهلي وحلفاءهم من جيوش بنغاله بعد سنين من موقعة كنوها

عاش بابر بعد هذه الموقعة الأخيرة سنة ونصف سنة أمضى معظمها في أكرا مجتهداً في تنظيم مملكته الجديدة

- 2 -

كان محمد ظهير الدين بابر سويَّ الخلق محكم البنية قوياً فارساً ماهراً رامياً حاذقاً حمل رجلين تحت ذراعه وجرى بهما على سور إحدى القلاع. ويقول في بابر نامه: (اجتزت نهر الكنك سباحة وعددت ضربات ذراعي فوجدتني قد اجتزت النهر بثلاث وثلاثين ضربة، ثم أخذت نفسي وسبحت إلى العدوة الأخرى)

وكان جلداً على ركوب الخيل. وكثيراً ما قطع ثمانين ميلاً في اليوم. وقد أمضى معظم حياته في الأسفار والحروب

ولكن نوبات الحمى وكثرة تطوافه وتقلب الغير بها دهراً، والشدائد التي قاساها، والخمر التي لم يسلم منها أحد من بني تيمور، ثم الأفيون - كل هذا أنقض ظهره وناء بجسمه القوي. فها هو ذا على فراش الموت في قصره الجميل وحديقته في مدينة أكرا

مات بابر سنة 937هـ في سن التاسعة والأربعين (26 ديسمبر سنة 1530م) بعد سبع وثلاثين سنة من تملكه في فرغانة

- 3 -

وكان بابر كسائر بني تيمور مولعاً بالآداب والفنون، يقرأ الشعر وينظمه، ويعجب بالأبنية الجميلة، ويهتم بتنسيق الحدائق وغرس الأزهار، ويكلف بالغناء والموسيقى.

ونحن نراه في (بابر نامه) يفزع إلى نظم الشعر في أشد أوقات محنه، كما نراه يتحدث عن الأدباء الذين اجتمعوا في هراة حول السلطان حسين ووزيره العظيم مير علي شير مواني حديث عارف ناقد. وله ديوان صغير بالتركية تتخلله قطع فارسية.

وفي هذا الديوان منظومة في نحو 250 بيتاً وهي نظم الرسالة الوالدية بعين الله المعروف باسم خواجه احراء من كبار الصوفية، وتعرّفنا بابر نامه الأحوال التي نظمت فيها هذه الرسالة. وأنا أثبت هنا ترجمة هذه النبذة من الكتاب لتكون مثالاً من أسلوبه في تسجيل الحوادث وتفصيلها:

(يوم الجمعة 23 من هذا الشهر (صفر)، أحسست الحمى في جسدي، حتى لم أستطع أن أؤدي الصلاة في المسجد إلا بمشقة؛ ولم أستطع أن أصلي الظهر في خزانة كتبي إلا بعد تأخير، ومع جهد كبير. وفي اليوم الثالث، يوم الأحد، خفت الرعشة قليلاً. ويوم الثلاثاء 27 صفر، خطر لي أن أترجم نظمي الرسالة الوالدية مولانا عبيد الله. التجأت إلى روح الشيخ وقلت لنفسي: إن قبلت هذه القربة عند الشيخ كان إبلالي من هذا المرض آية القبول كما خلص صاحب البردة من مرضه.

(نظمت هذه الليلة 13 بيتاً، وشرطت على نفسي ألا أنظم أقل من عشرة أبيات كل يوم، وقد وفيت بهذا الشرط إلا يوماً واحداً

(كانت الحمى في السنة الماضية كلما انتابتني دامت ثلاثين أو أربعين يوماً، ولكن بفضل الله وبركة الشيخ أبللت من هذه النوبة يوم الثلاثاء 29 من الشهر.

(وفي يوم السبت 8 ربيع الأول أكملت نظم الرسالة. وقد نظمت يوماً اثنين وخمسين بيتاً)

كتب في نهاية الديوان هذه العبارة (حرره بابر دوشنبه 15 ربيع الآخر سنة 935). وفي ذيل الصفحة الأخيرة رباعية وفي حاشيتها هذه الجملة (هذه الرباعية التركية، والاسم المبارك بالتحقيق خط أعليحضرت ساكن الجنان بابر بادشاه الغازي أنار الله برهانه. حرره شاه جهان بن جها نكير بادشاه بن أكبر بادشاه بن همايون بادشاه بن بابر بادشاه)

وأما كتابه بابر نامه فهو في موضوعه نادرة من نوادر التاريخ؛ فما عرفنا قبل بابر ملكا أمضى حياته في عراك الحوادث ثم استطاع أن يصف مشاعره، ويسجل وقائع سيرته، وسيرة أقاربه وأعوانه في بيان واضح مفصل بعيد من التكلف يتجلى فيه اهتمام الكاتب بما يرى ويسمع ودقته في الإدراك والوصف

وهو في لغته وأسلوبه ذخيرة أدبية تسجل لنا لغة جفتاي في القرن العاشر الهجري وتبين محاولة ملك عظيم أن يذلل هذه اللغة للنثر الأدبي كما ذللها للشعر منذ سنين قليلة الوزير الكبير مير علي شير. والكتاب بعد هذا وذاك فصول ممتعة بل ساحرة يكلف بقراءتها كل من حاولها، فعرف ما تبعث في نفس القارئ من سرور وإعجاب وما تتضمن من فوائد للعلم والأدب والتاريخ

وقد ترجمت هذه السيرة إلى لغات كثيرة. ترجمت إلى الفارسية بأمر حفيدة جلال الدين الأكبر (963 - 1104) ثم ترجمت في العصور الأخيرة إلى لغات أوربية وطبعت أول ترجمة إنجليزية لها قبل مائة سنة، ولا تزال موضع عناية الباحثين في تاريخ الشرق الإسلامي وآدابه.

ولعل معهد الدراسات الشرقية في كلية الآداب من جامعة فؤاد الأول الذي افتتح هذا العام يجعل ترجمتها إلى العربية باكورة أعماله إن شاء الله.

عبد الوهاب عزام