انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 351/ليلة نابغية!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 351/ليلة نابغية!

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 03 - 1940


للدكتور زكي مبارك

أخي الأستاذ الزيات:

في نيتي أن أريح قراء (الرسالة) من شطحات قلمي شهراً أو شهرين لأفرغ لواجبات أدبية لا يصح معها الانشغال بمواجهة القراء من أسبوع إلى أسبوع، وهي واجبات كواجبات القراء

وقبل أن أشرع في تناسي الشوق إلى قرائي، وهو تناس موجع، أصور لك ولهم ما وقع بيني وبين الأستاذ لطفي جمعة ليلة المناظرة بكلية الآداب، وكانت مناظرة عنيفة لا يزال صداها يقرع سمعي فيبدد ما أشتهيه من الأنس بالهدوء والصفاء

وما ذكرت تلك المناظرة إلا جزعت، وتولاني الندم على الاشتراك في جدال يضيق به صدر الغالب والمغلوب، لأنه لم يمض بلا هنوات مزعجات

ولهذه المناظرة تاريخ:

سألني فريق من أعضاء اتحاد كلية الآداب أن أشترك في مناظرات هذا الموسم، وعرضوا عليَّ طوائف من الموضوعات لم يرقني منها غير موضوع:

(يزدهر الأدب في عصور الفوضى الأخلاقية)

ولكني اقترحت أن يعدل فتوضع (الفوضى الاجتماعية) مكان (الفوضى الأخلاقية) فراراً من التجني على كلية الآداب باسم الغيرة على الأخلاق!

ومضت أيام وأسابيع، والاتحاد مشغول بالبحث عمن يناظرني من أساتذة كلية الآداب، ثم علمت أن الأساتذة لم يرقهم أن يناظروا (المشاغب الأكبر) على حد تعبير الدكتور هيكل باشا. وهل من العقل أن يتقدم أحد الأساتذة لمناظرتي وقد شاع وذاع أني أكبر المشاغبين؟!

هي تهمة ظالمة، كما تعرف، ولكنها حقت علي، وسأقضي بقية العمر في الدفاع عن نفسي، ولكن بلا نفع ولا غناء، لأن الناس عندنا يؤذيهم أن يصححوا رأيهم في رجل ظلموه بلا بينة ولا برهان!

وأخيراً، ظفر اتحاد الكلية برجل يناظرني. ولكن، أي رجل؟ كاتب مشهور كانت لي معه وقائع في بعض الجرائد والمجلات؟ فقلت في نفسي: هي مكرمة من مكرمات الأستاذ لطف جمعة، فقد هداه القلب الطيب إلى أنني رجل ينهاه الأدب والذوق عن الاستخفاف بأقدار الزملاء

واتصلت به تليفونياً لأقول له: إني أريد أن تكون هذه المناظرة مثالاً في التلطف والترفق، وإني سأبدأ خطبتي بكلمة في الثناء عليه، وإني أنتظر أن يقابل الجميل بالجميل!

وكنت صادقاً فيما قلت، لولا خاطر واحد كدر صدقي بعض التكدير، وهو الحرص على أن يبقى هذا المناظر فلا يطير من يدي، كما طار من كنت أرجو مناظرتهم من أساتذة الكلية. صفح الله عنهم وعفا عني!!

كان الأستاذ لطفي جمعة متردداً في القبول، ثم قبل بعد تمنع؛ والحر قد ينخدع في بعض الأحايين!

وفي تلك الأثناء نقلت الإذاعة اللاسلكية مناظرة قامت بين الدكتور طه والدكتور هيكل في كلية العلوم، مناظرة مرتجلة قام بها الرجلان بدون استعداد، فقلت: يجب أن أستعد لتكون مناظرة كلية الآداب أقوى من مناظرة كلية العلوم، ولأعطي الدكتور طه والدكتور هيكل درساً في وجوب الاحتفال بمقامات الكلام، ولأحمي نفسي من شر المرجفين، وأنا أدافع عن رأي شائك لا ينظر إليه المجتمع بغير الاستخفاف

ورجعت إلى مذكرات كنت أعددتها يوم عرض على الموضوع أول مرة، ولكني لم أجد تلك المذكرات، فأقبلت على الموضوع من جديد وشغلت به نفسي سهرتين طويلتين ليصل في الجودة والقوة إلى ما أريد

وبعد أن فرغت من تحريره وتحبيره دعوت أحد أبنائي ليقرأه علي فكانت فرصة لدرس طريف من دروس التربية، فقد عرفت أن الرجل لا يدرك ما في أسلوبه من نبوات إلا حين يسمعه من رجل سواه، وكذلك غيرت بعض الألفاظ وعدلت بعض التعابير، فظهرت الخطبة وهي فن من الكلام المصقول

ثم مضيت إلى كلية الآداب في أصيل اليوم الأول من أيام آذار، ولا يمكن الوصول إلى كلية الآداب إلا بالسير في شارع فؤاد الذي يعبر الزمالك مرة ويعبر النيل مرتين، ثم انعطفت السيارة فسايرت النيل حتى وصلت إلى شارع الجامعة المصرية، عليه وعليها أطيب التحيات! هو اليوم الأول من أيام آذار، وأيام مصر كلها آذار، فما تعرف بلادنا غير نضرة النعيم في جميع الفصول

ونظرت في الساعة فلم أجد من فسحة الوقت غير خمس دقائق، وهي مدة لا تسمح باجتلاء المحاسن في شارع الجامعة، الشارع الجميل الذي كان يستهويني فأسير فيه بتأدب واستحياء رعاية لحقوق العين والقلب في البقعة التي صارت مراتع ظباء، ومرابض أسود

الله أكبر ولله الحمد!

هذه كلية الآداب التي قضيت فيها مواسم شبابي، يوم كنت فتىً عارم العزيمة يؤذيه أن يقال إن في الدنيا كتاباً لم يطلع عليه، ويوم كنت معمور القلب بأرواح الأماني، ويوم كنت أتوهم أن الجد في طلب العلم لا يظفر صاحبه بغير الإعزاز والتبجيل، ويوم كنت أخال أن الكفاح في سبيل الأدب قد تنصب له الموازين، ويوم كنت أومن بأن الجهاد لا يضيع في هذه البلاد!!!

تقع كليتنا الغالية على يمين من يدخل حرم الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول. وسميت بذلك، لأن فؤاداً العظيم كان أول رئيس للجامعة المصرية. وكليتنا الغالية لها روح قهار، لأنها شرعت للناس مذاهب التفكير في الآداب والفنون، ولأنها أول معهد في مصر فتح أبوابه لحرية الفكر والعقل بلا تمييز بين العقائد والآراء

كاد الدمع يطفر من عيني حين دخلت كليتنا الغالية، فقد خيل إلي أن أحجارها لا تنطق، وإلا فكيف غاب عني تفصيل ما فيها من حجرات وغرفات؟ وكيف نسيت الأماكن التي كنت ألقي فيها دروسي ومحاضراتي على قرب العهد؟ وكيف غفلت عتباتها عن الوثوب لمصافحتي وقد صحبتها طالباً ومدرساً من سنة 1913 إلى سنة 1937 ودرت معها من ميدان الإسماعيلية إلى ميدان الفلكي، ومن حي المنيرة إلى قصر الزعفران، ثم إلى حديقة الأرمان، ولم يزاحم هواها في فؤادي غير الأعوام التي قضيتها بكلية الآداب في جامعة باريس؟

وزاد في أساي وشجاي أني سأخرج مهزوماً في المناظرة التي تقام بكليتنا الغالية، لأني سأدافع عن رأي جرئ لا يقول به إلا من يخاطر بنفسه فيتعرض لغضب المجتمع. ولكن لا بأس فكليتنا الغالية قد علمتنا الثورة على أوهام المجتمع وألفت ما تبدد من شمل عزيمتي وصعدت إلى غرفة الأساتذة، الغرفة التي صاولت فيها من صاولت، وكايدت من كايدت، يوم كنت أحسب أن مغايظة الرجال لن تكون لها عواقب سود. . . فماذا رأيت؟

رأيت الأستاذ لطفي جمعة قد انحاز إلى شابين من طلبة الكلية يدبر معهما خطط النضال، فأردت أن أفسد ذلك التدبير بدعوته إلى المسارعة بالنزول إلى المدرج الأكبر حيث ينتظر جمهور المستمعين. ولكن لم أفلح، فقد تعلل بأنه ينتظر فنجاناً من القهوة، ورجاني أن أعفيه من حضوري لحظات!

وسألت عن نصيري في المناظرة فرأيت فتاة حيية اسمها ليلى، وفتىً ناشئاً اسمه صادق، فحدقت فيهما وقلت: أين تقعان مما أريد؟!

ونزلت إلى المدرج بعد أن أعلن الدكتور إبراهيم مدكور أن الطلبة هم الذين سيبدءون ثم تقع الموقعة بيني وبين غريمي

وبعد تلبث وتمكث حضر الأستاذ لطفي جمعة ومعه نصيراه من الطلبة، ونصير ثالث هو الدكتور أحمد موسى، وهو فيما سمعت أديب متمكن من ناصية الفكر والبيان

ثم صرح رئيس المناظرة بأنه أستاذ ونائب، وأنه سيطبق اللائحة الداخلية إذا وقع بين المتناظرين شجار، فعرفت أن الأمر جد في جد، وأنى سأعاني من هذه المناظرة ليلةً نابغية

وشرعت ليلى تتكلم، ليلى يوسف، وهي فتاة جملها الله بالأدب والحياء، فما كانت إلا دمية مصقولة صيغت من العقل والذوق، وسيكون لها في حياة الأدب تاريخ، وقد تفوق الفتاة المبغومة الصوت التي نضجت قبل الأوان فأضر بها الزهو والخيلاء

ولكن ليلى ستلحن كما تلحن سائر (الليالي) ستلحن لحناً خفيفاً في مواطن لا تسلم فيها ألسنة (بعض) الأساتذة، ومع ذلك يثور الجمهور ويصخب ليصح له أن يضايقني ويضايقها باسم الغيرة على قواعد اللغة العربية!

ثم يتكلم الشيال أفندي فيقترح أن يحال الدكتور زكي مبارك إلى المعاش لأنه من دعاة الفوضى الاجتماعية ولأن مؤلفاته تشهد بأنه يستهين بالعادات والتقاليد!

ويتكلم بعد ذلك محمد عبد الرحمن صادق أفندي بأسلوب يشهد بأنه من طلبة كلية الآداب، كليتنا الغالية التي نذكر عهدها بالحب والعطف، ونعرف فضلها في تثقيف الأذواق والعقول ويميل بدير متولي أفندي على أذني فيسر إلي أنه قد يستبيح ما لا يباح في تحقير الرأي الذي أرتضيه، فآذن له بذلك، لأني من أقوى أنصار حرية الرأي، ولكن الفتى يخلف ظني به كل الإخلاف فيعلن عجبه من أن أكون مفتشاً بوزارة المعارف مع أني من دعاة الفوضى الاجتماعية، ويدعو الجمهور إلى الحذر من آرائي!

ويجئ دوري في الكلام فأبدأ بالثناء على الطالبين اللذين شتماني بلا ترفق ولا استبقاء، لأنهما من طلبة كليتنا الغالية، ولأنهما سمعا أصوات مصطفى عبد الرزاق وطه حسين وشفيق غربال، ولأننا حضرنا لتمرينهم على النضال والصيال

ثم أشرع في الخطبة التي أعددتها في سهرتين طويلتين، وبعد لحظات يقوم شاب ثائر فيقاطعني مقاطعة عنيفة ويؤلب عليَّ الجمهور بشطط وإسراف، وأنظر فأراه أحد تلاميذي، التلاميذ الذين كنت أشقى في سبيلهم إلى عهد قريب

ويدور رأسي من هول ما أراه، فهذا الشاب كان موضع ثقتي، وكنت أكرمه لنفسه ولأخيه ولقرب بلده من سنتريس

وتطوف بذهني أخيلة مزعجة: فليس هذا الشاب أول من يغدر ويخون، وليست ليلتي هذه أول ليالي في المحرجات والمضجرات، ولن تكون آخر العهد بشقائي في رحاب كلية الآداب، فسأرجع إليها لخدمة الأدب والفلسفة بعد عهد قريب أو بعيد، يوم يعتدل الميزان. وأنظر فأرى الأستاذ لطفي جمعة قد اطمأن واستراح، وأرى أنصاره في جذل وانشراح

هي إذن معركة جديدة سأنهزم في ميدانها المشئوم وسيلحقني عارها الباقي، والله الحفيظ!

وينهض رئيس المناظرة فيهدد الشاب الذي يقاطعني، يهدده بالطرد، فيخشع الشاب ويستكين، ويصفق الجمهور إيذاناً بالشوق لسماع صوتي، فأمضي في إلقاء خطبتي وأنا جريح، وأضيف إلى خطبتي كلمة أقول فيها: إني اشتغلت بالتدريس في كلية الآداب أربع سنين ومن حقي عليها أن تسمح بأن أجهر في رحابها بكلمة الحق

وما قيمة الاشتغال بالتدريس أربع سنين في معهد مصري وقد صرح شاعرنا شوقي بأن كل شيء في مصر ينسى بعد حين!

ما قيمة الاعتماد على الماضي وهو ذخر الفانين؟ وبأي حق أغضب على شاب يقاطعني وقد أخذ عني أصول الثورة والصيال؟ ثم أمضي في خطبتي كالسيل الجارف فأفتن الجمهور فتنة ماحقة يضج لها خصومي بتصفيق الإعجاب ليسلموا من سخرية الجمهور الذي سحره بياني

ويميل الأستاذ لطفي جمعة على أذني وهو يقول: أهنئك على أن عرضت سمعتك للأراجيف في سبيل الحق. فأبتسم وأنتظر أن يصنع كما صنعت ليظفر بتهنئتي! وينهض الخصم الشريف فيسلك في تحقيري جميع المسالك، ويدعي أني فوضوي أثيم، وينهي الجمهور عن الانخداع بآرائي، ويعلن عجبه من أن يكون لي كتاب اسمه التصوف الإسلامي في مجلدين كبيرين مع أني من أنصار الفوضى الاجتماعية، ويقضي في تحامله وتجنيه ساعة وبعض ساعة وأنا ساهم مطرق أكاد أذوب من الخجل والحياء

وأعود إلى نفسي فأندم على تعريض سمعتي لهذا الضيم البغيض وأعرف أني أخطأت في قبول المناظرة مع هذا الخصم الشريف، وأعاهد الله على اعتزال الناس إلى يوم الممات. وما الذي يغريني بصحبة بني آدم ولم أر منهم غير شجا الحلوق، وقذى العيون؟

لقد أقمت داري على حدود الصحراء لآنس بظلمات الليل، ولأنسى أنني موصول الأواصر بهذا الخلق، ولأناجي موات البادية حين أشاء، ثم قهرني حب العزلة على أن أغلق نوافذ داري فلا أرى الوجود إلا بأوهام من طيف الخيال

لطفي جمعة الرجل الفاضل الذي أثنيت عليه في خطبتي يقضي في شتمي ساعة وبعض ساعة؟ تلك إحدى الأعاجيب، إن كان النكر في زماننا من الأعاجيب!

أين أنا من دهري وزماني؟ أمثلي يشتم جهرة في كلية الآداب، وقد حملت على كاهلي أحجار الأساس؟

هو ذلك، وعلى نفسي أنا الجاني، فقد عرضت سمعتي للجدال الذي يسمونه مناظرات! وينتهي الأستاذ لطفي جمعة من خطبته بعد أن مزق آرائي كل ممزق، وبعد أن شفي صدره مني، وكانت بيني وبينه ترات وضغائن وحقود

ويعلن رئيس المناظرة أن ليس لي غير خمس دقائق. وما الذي أستطيع أن أصنع في خمس دقائق وقد جرحت أشنع تجريح؟ ما الذي أستطيع أن أصنع وقد سمعت ما أكره في معهد يؤذيني أن أذكر فيه بغير الجميل؟ في خمس دقائق يعرف الأستاذ لطفي جمعة أن لحمي مر المذاق، ويؤمن وهو كاره بأن التطاول على رجل مثلي لا يمر بلا جزاء، ويعرف من قاطعوني أن شأني أعظم مما يظنون. في خمس دقائق تحول السامعون إلى من حال إلى أحوال فصاروا جميعاً من أنصاري، في خمس دقائق شهدت أحجار كلية الآداب بأن المنطق أعظم من التنكيت، في خمس دقائق عرف غريمي أن سهر الليل في الاستعداد للحرب أمر يوجبه العقل الصحيح

وبعد كلمات ألقاها الأستاذ مندور والدكتور موسى طلب رئيس المناظرة أصوات الحاضرين فكانوا جميعاً في صفي، وهتف هاتف: (تحيا الفوضى الاجتماعية!)

فأجبت: (تسقط الفوضى ويحيا النظام!)

والآن، يا صديقي الزيات، أحب أن أسجل في مجلتك ظاهرة من شمائل الجيل الجديد، لتعرف أن اليأس الذي يساورنا قد يكون من الأوهام في أكثر الأحايين

وهذه الظاهرة هي يقظة الجمهور في هذا العهد، وقلة انخداعه بالتزاويق والتهاويل. وأؤكد لك أنه كان مفهوما عند أنصاري أني لن أخرج من تلك المعركة بغير الهزيمة، وأن التعلق بالشكليات سينفع خصومي فيظفرون بالنصر المبين

وقد أراد الأستاذ لطفي جمعة أن يغض من جهودي فقال إني شغلت نفسي بالموضوع أياماً وليالي، ولكن هذه السخرية لم تنفع، لأن الاستعداد للنضال من أصول التشريف، وهو يقابل عند الجمهور بالإعزاز والتبجيل. وهل كان يجوز لي أن أستخف بمناظرة تقام في كلية الآداب؟

وهذا النصر الذي نظفر به من وقت إلى وقت هو الذي ينسينا ما قد نجني من الحنظل في الحياة الأدبية، وهو الذي يهون ما نعاني من عقوق الزملاء، أو (بعض) الزملاء!

وقد حدثتك في مطلع هذا الحديث أني سأريح قراء الرسالة من شطحات قلمي شهراً أو شهرين، فلتعلم وليعلموا أني قد أشتاق إليك وإليهم فأرجع بعد أسبوع أو أسبوعين، والسلام.

زكي مبارك