انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 350/الحرب ومستقبل الإنسان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 350/الحرب ومستقبل الإنسان

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 03 - 1940



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كما قرأت أن الحكومة تجرب أسباب الوقاية المدنية من الغارات الجوية، أو رأيت خندقاً محفوراً وعلى جانبيه أكياس الرمل، أو سمعت صفارة تنطلق بالإنذار والدعوة إلى الاختباء وإطفاء الأنوار، أراني أتساءل: (أترى سيعود الإنسان إلى حياة الكهوف والغيران؟) ولست أعني الكهوف بالمعنى الحرفي، وإنما أعني الحياة في جوف الأرض. وماذا يكون مصير الإنسان يا ترى إذا دفعه الترقي في القدرة على التخريب إلى باطن الأرض؟!

وتذكرت هـ. ج. ولز وكتابه (آلة الزمان) وهي آلة يتصور الكاتب أن صانعها يذهب بها مطوفاً في الزمن (في الماضي أو المستقبل كما يشاء) كما نذهب الآن شرقاً أو غرباً وشمالاً أو جنوباً - ويقول ولز إن رحالته بعد أن قطع مرحلة كافية من الزمن الآتي، ألفى الإنسان قد صار إنسانيين - واحداً يعيش في جوف الأرض وواحداً بقي فوقها. فأما الذي دخل فيها، وألف الحياة في السراديب والظلام، فقد ارتد إلى الحيوانية في مظهره وطباعه وعاداته، فهو يمشي على أربع، وبدنه يكسوه الشعر، وعينه واسعة ترى في الظلام ويُعشيها النور، وتفزعها النار. ولهذا الإنسان السفلي صناعاته وآلاتها، وهو يستدرج إلى سراديبه أبناء العالم العلوي ويفتك بهم، ويأكل لحمهم. وأما الذي بقي فوق ظهرها فهذا من سلالة المترفين الأغنياء، وقد انحط وضعف وتشابه ذكوره وإناثه، في اللين وصغر الجسم، وفَقَدَ القدرة على العمل والاحتيال والسعي، وصار معوله في حياته على العالم السفلي، وخوفه منه، لفرط ما انتابه من الانحطاط والطراوة.

ويقول ولز إن بداية هذا الانقسام ظهرت في زماننا، وإن الإنسان شرع ينحدر إلى باطن الأرض. فبُنانا ومصانعنا لها طبقات تحت الأرض، وفي عواصمنا تجري القطر في سراديب إلى آخر ذلك.

وقد كنت وأنا أقرأ كتاب ولز هذا قبل حوالي عشرين عاماً، ثم وأنا أنقله إلى العربية منذ عامين أو نحو ذلك، أقول لنفسي إن ولز مبالغ، وإن الدخول في جوف الأرض لا يستدعي أن يصبح الإنسان إنسانيين متميزين على نحو ما يصف، وإن الناس يختلفون ويتفاوتون ولكن تفاوتهم لن يبلغ من أمره أن يصير بهم إلى مثل هذا المصير المرعب الذي يصوره ولز كأنه يراه.

ثم جاءت هذه الحرب، وعرفنا ما صنعت الطيارات الألمانية في بولندا، وما فعلت الطيارات الروسية بالمدن الفنلندية، وشهدنا صوراً من آثار التخريب فيما تعرضه دور السينما، وكنا قبل ذلك رأينا مناظر تخريب الطيارات اليابانية في الصين، ولكن الحرب اليابانية الصينية كانت لبعدها تبدو لي كأنها تدور في غير كوكبنا، ولم أكن أتصور أن تدور الحرب على هذا النحو في عالمنا القريب. ثم أخلفت الحوادث هذا الظن السخيف وغرقت عواصم الأمم المتحاربة وبلدانها الكبيرة في ظلام دامس، وقامت حكومتنا تتخذ الأهبة لدفع الأذى عن المدن وأهلها، إذا امتدت الحرب إلينا فأطفأت الأنوار إلا أقلها، وحفرت الخنادق، وبنت المخابئ، وأطلقت الأنوار الكاشفة في الليل، ونصبت المدافع فألفيت نفسي أتساءل: أتراني لا أزال أعد ولز مبالغاً في التخيل ومشتطاً في التصور؟

ماذا تصنع الأمم بعد هذه الحرب؟ أتظل ترفع البنى وتعليها فوق الأرض وتقيم المصانع على ظهرها؟ لا أظن؟ إلا إذا اهتدت إلى مادة لا تنال منها القنابل الهادمة والمحرقة، وعسير بلوغ هاتيك جداً - كما يقول الشاعر. وهبها فعلت واهتدت، فإن العلم الذي يوفقها إلى ذلك خليق أن يدلها على ما يهدمه، فإن البلاء والداء العياء أن كل ما يثمره العلم، يسخر لأغراض الحرب كما يسخر لأغراض السلم، فلا سبيل إلى السلامة إلا بالفرار إلى باطن الأرض، وحريي بذلك أن يكون له أثره في هندسة البناء، أو بعبارة أدق في شيوع طراز جديد، فقد ظهرت في البلاد المحاربة مبان ذات طبقات ممتدة في جوف الأرض يلجأ إليها الناس ويحتمون بها من الغارات الجوية

وفي هذا المعنى يقول الجنرال بوشيري في فصل له نشرته مجلة ونقلته عنها صحف بريطانية (إن الحرب الحديثة تعرض سكان البلاد كلها لأخطار القتال، وتفرض على الأمم أن تتخذ الأهبة الكافية للدفاع السلبي، وهذا يستوجب أن تجري الأعمال الحيوية كلها - من مدنية وعسكرية - في جوف الأرض، ومن الجلي أن المساكن الجديدة يجب أن تكون لها طبقات سفلية أو متصلة بمبان سفلية مجاورة لها تصلح أن تكون بديلاً من المساكن العلوية، إذا اقتضت الحاجة الالتجاء إليها)

ونحن أبناء هذا العصر، نستغرب أن تنتقل حياتنا من فوق ظهر الأرض إلى قلبها، فإن ظهر الأرض مقرون في أذهاننا بالحياة، أما باطنها فمقرون بالموت والدفن، ولكن أحفادنا لن يستغربوا هذا التحول، أو ينكروه، لأنهم سيألفونه من الصغر. ويا ليت من يدري هل تندس المدارس والمستشفيات، كما تندس المصانع في جوف الأرض؟ وإلى أي عمق يا ترى يضطر الإنسان أن يحفر وينقب، ويسوّي ويوسع؟

وعلى الأيام - بل الحقب الطويلة والأدهار المديدة - يألف الإنسان باطن الأرض، وتطول حياته فيه، ويقل خروجه إلى نور الشمس، وتكر آلاف السنين ومئات الآلاف، والناس أكثرهم يعملون تحت الأرض ولا يكادون يبرزون إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة. فيكتسب الإنسان خصائص الحيوان الذي يأوى إلى الجحور، ويصدق ما تنبأ به هـ. ج. ولز في كتابه (آلة الزمان)!

وكيف تكون الحروب يا ترى في ذلك المستقبل البعيد، إذا بقيت الحروب تدور بين جماعات الإنسان؟ أحسب أن اندساس الإنسان في جوف الأرض سيكون بداية انحطاطه، فما أغرب أن يكون رقيه العلمي مفضياً إلى انحداره وهويّه؟ وتلك جناية استخدام العلم في الحرب، فإذا بقيت الحروب فهذا مآل الإنسان، ولا نجاة له من هذا المصير إلا بالقضاء على الحرب، فيما أرى، أي بإعفائه من بواعث الاحتماء بجوف الأرض والسكون إلى الحياة فيه.

مآل الإنسان مرتهن بالسلام الدائم، لا الطويل فحسب، على الرغم مما يقال من أن طول عهد السلام يفضي إلى اللين والتطري والرخاوة؛ وكفى بالكفاح في سبيل العيش واقياً من هذا التطري، وعلى أن التطرّي خير آلف مرة من الارتداد إلى الحيوانية. ولأن يكون المرء طرياً ليناً، آثر عندي من أن يكون أرنباً!! واللين عيب أو ضعف في دنيا تقوم فيها الحياة على العنف، ويكثر فيها الفتك والبطش، ويحتاج الإنسان فيها من أجل ذلك إلى القوة والخشونة. أما في دنيا تنعم بالسلام ولا يزعجها خوف من الفتك وتوقعه، فما ضير أن يلين الإنسان ويطرى، إذا بقيت له قوة العقل؟

إبراهيم عبد القادر المازني