انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 349/رسالة العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 349/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 03 - 1940



الكون يكشف عن نفسه

خفايا الضوء

للدكتور محمد محمود غالي

أينحصر الكون في ست وحدات أصلية يرد إليها كل ما فيه؟

عندما تطالع هذه السطور فانك تراها بفضل أحد هذه الوحدات

الدقيقة وهي كائنات نحاول أن نتعرف إليها

نشيد داراً للسكنى وتدخل مواد عديدة في تشييدها من أحجار البناء إلى الحديد، ومن رخام الدرج إلى ما يحيط سياجه من نحاس، ومن أخشاب النوافذ إلى ما يتوسطها من زجاج، ولا نذكر ما تحتويه الدار من العناصر الكثيرة والمركبات العديدة وأن في الزجاج وحده من العناصر المتعددة والمركبات المتباينة ما يجعلنا نفطن إلى العدد الكبير من المواد التي نستخدمها في إقامة البناء، بل إن مواد من نوع آخر، مواد عضوية تدخل أيضاً في تشييد الدار، وشد ما يختلف ما في حديقتها من أشجار وزهور عن سائر ما في البناء: هذا النبات له دور من المراهقة كدور الإنسان ومن الشباب كشبابه ومن الهرم كهرمه، وله أعمار تنتهي عندها الحياة، فيضع البستاني غيره من النبات ينصبه مكانه كما ينصب الابن نفسه مكان أبيه بعد أن يتوارى هذا في الزمن، ويترك الابن الدار بدوره لحفيد يستمتع بها ما بقيت أجزاؤها متماسكة تسمح بالحركة بينها وبالحياة في أنحائها، يقضي الحفيد فيها سنين طويلة وسط هذه الأجزاء من المادة بين المرح طوراً وظلمة الأيام تارة، بل إن مواد حية غير المعدنية والعضوية قد تدخل بين مكونات الدار تستمتع فيها كما يستمتع صاحبها وتقاسي فيها كما يقاسي ربها، فقد نشيد في الحديقة أحواضاً للسمك أو نقتني داخل الأقفاص أنواعاً من طيور الزينة، وما هذه وذاك إلا مجموعة من العناصر المعقدة تدخل هي أيضاً في مجموع الدار الفسيحة، ولا تختلف عن الأولى إلا بما لها من مزاج يشبه مزاجنا وآمال تقارب آمالن عديدة هذه العناصر ومتباينة هذه المركبات التي دخلت الدار بعمل المهندس وفعل البستاني، فنشأ عنها مكان صالح نثوي إليه بعد النصب ونقضي فيه ساعات من العمر بين لحظات مجدودة وفترات مكدودة؛ ولو أن امرأً قال إن الدار مكونة من عشرات العناصر ومئات المركبات لما كان في قوله انحراف عن الواقع، ولو أنه قال أيضاً إنها مكونة من ست وحدات أصلية في الكون وإن كل ما نراه فيها من عناصر عديدة ومركبات متباينة يتكون من هذه المكونات الستة فإنه قد لا يعدو الحقيقة، ولو أنه خطر ببال أحد أن من يسكن الدار من أحياء كأولادنا، ومن يؤمها من زائرين كأصدقائنا، وما يعيش بين جدرانها من أسماك وطيور يدخلون أيضاً في عداد المكونات الستة المتقدمة، فإن ثمة علماء عديدين يعتقدون اليوم بصحة ما خطر بباله، ولديهم من الأسباب العلمية ما يستطيعون بها محاولة إقناعه بأن ما ذهب إليه ليس مما يتطرق إليه الشك

ولا يدور بوهم أحد بعد الذي ذكرنا أن ما نعنيه بهذه المكونات الستة هي (عناصر) مثل الحديد والنحاس، فإننا بذلك نصل إلى تعداد العناصر جميعها التي تبلغ 92 عنصراً والتي تعثر على الكثير منها فيما استخدمناه في رفع البنيان؛ ولا يعتقدن كذلك أننا نعني بها بعض المركبات كالماء والحجارة فلا مشاحة أن ما يوجد من هذه المركبات في المنزل يبلغ المئات، إذ أن هذه المكونات الستة إنما هي وحدات كونية نستطيع أن نرد إليها كل ما يتعلق بهذه الدار.

هنالك أمر آخر أود أن يحظى بعناية القارئ، ذلك أن الوحدات الست التي تكون كل ما يتعلق بالدار، والتي من بينها وحدة يتسنى لنا بها رؤية الدار وما فيها، هي بذاتها الوحدات المكونة لمجموع الكون، فهي كافية اليوم ليرد العلماء كل ما عرفناه في الكون إليها

هذه المكونات الستة تعد معرفتها من السائل الثقافية التي يحسن معرفة شيء عنها، فهي اليوم موضع بحث أقطاب العلم، ولذلك نذكرها للقارئ في الجدول الآتي، فيعرف شيئا هاماً عن منشأ الدار التي يسكنها، بل الكون الذي يحيا فيه ويموت

المكونات أو الوحدات التي يتكون منها الكون في مجموعه بما فيه من مادة أو كهرباء أو إشعاع أو طاقة

الشحنة الكهربائية مكونات كهربائية وسالبة

خفيفة

الإلكترون

-

ثقيلة

غير معروفة

مكونات كهربائية وموجبة

خفيفة

البوزيتون

+

ثقيلة

البروتون

+

مكونات مادية

خفيفة

النيترينو أو الأرجون

صفر

ثقيلة

النيترون

صفر

مكونات ضوئية

الفوتون

صفر

مكونات معقدة الديبلون

الهيليوم (نواة الهيليوم)

+

+

إذا رمزنا لوحدة الشحنات الكهربائية بالرمز والقدر فان شحنة الإلكترون أي الوحدة الكهربائية السالبة تكون (- وشحنة البوزيتون أي الوحدة الموجبة تكون (+ وفي هذه الحالة تكون الشحنة للوحدات الأخرى كما هي مبينة في الجدول

هذه المكونات باتت الأصل في كل شيء، فهي تكون الهواء الذي نستنشقه كما تكون الرئة التي نستنشق بها هذا الهواء، وهي التي تتكون منها السمكة التي تسبح في حوض الحديقة كما تتكون منها النجوم النائية والسدم البعيدة، وما المنزل والزائر والطير، بل وما يعلوها من كواكب وعوالم إلا أمور ترجع أصولها إلى هذه المكونات الستة التي يشاد منها الكون

نعود فنتأمل الجدول السابق الذي يلخص لنا موقف العلماء من الكون، ونود أن يعتبر القارئ وهو يطالع هذه المسميات العلمية التي قد تكون جديدة لديه أنها من المسائل التي يلزم معرفتها، وكيف لا يجب علينا أن نعرف ما يُكوِّن منازلنا والأرض التي تحملنا والعوالم التي تعلونا والكون الذي يحتوينا بل ما يكوَّن أجسامنا، ومهما يكن من أمر الكون، فإننا لا نستطيع أن نستوعب فيه الأشياء إلا على الصور التي عهدناها فيه، والأوضاع التي ألفناها عنه. ثمة عدد ضئيل من الأوضاع نستوعبها في الكون طوراً ونستوعب الكون فيها تارة، وهذه الصور أو الأوضاع هي المادة والكهرباء والإشعاع وكذلك الطاقة، وقد ذكرنا في الجدول هذه الصور، ورجعنا بالكون إلى وحدات كهربائية ومادية وضوئية، كما ذكرنا في ذيل الجدول مكونات أخرى معقدة

أما المكونات الكهربائية، فهي سالبة كالإلكترون، وموجبة كالبوتيزون، وقد حدثنا القارئ عنها في سلسلة من المقالات كذلك البروتون الذي يكون نواة الهيدروجين. أما المكونات المادية، فهي وحدات أخرى لا تحمل الكهرباء، وهما وحدتان النيترينو: أو الأرجون والنيترون وقد تناول بالبحث هذه الوحدة الأخيرة حديثاً سنة 1933 أيرين كيري وقرينها جوليو من أساتذة السوربون. ولا يفت القارئ أن الكهارب أو الإلكترونات موجودة في المادة مع النيوترونات. وكما أن الكهرباء في تكوينها ترجع إلى هذه الوحدات الأولى التي يسمونها: إلكترونات أو بوزيتونات، كذلك الضوء يرجع في تكوينه إلى وحدات أصلية يسمونها فوتونات جمع فوتون وباعتبار أن الوحدة الثقيلة للكهرباء السالبة غير معروفة، وباعتبار أن الوحدات المعقدة كالديبلون والهيليون قد ترد في تكوينها إلى غيرها من الوحدات، فإنه يغلب على ظني أن الكون يمكن أن نرده بما فيه من مادة أو إشعاع أو كهرباء أو طاقة إلى وحدات ست هي: الإلكترون والبوزيتون والبروتون والنيترينو والنيترون والفوتون.

وقد يصل العلماء إلى الكشف عن وحدات جديدة، ولكن يغلب على الظن أن عدد الوحدات سيظل قليلاً وسيظل اللاعبون على مسرح الكون بهذا القدر الضئيل.

ندع الآن المسميات لنتعرف على أحدها وهو الفوتون أو الذرة الضوئية، وهو الكائن العجيب الذي يعاوننا في مطالعة هذه السطور

عندما نرى في الليل بريق النجوم اللامعات، أو يخطف العين ضوء إحدى المنارات في الليل البهيم، أو تقع العين ذاتها على صورتنا في المرآة، أو نحصل بواسطة الجهاز الفوتغرافي على صورة شمسية، أو نرى على الشاشة حوادث العالم، أو نرى بالمرناه (التليفزيون) إحدى هذه الحوادث في حينها، فإننا قد استخدمنا الذرة الضوئية أو الفوتون كأداة كبرى لنستمتع بهذه الأشياء

وليس في عزمي التعرض في هذه المقالات للتركيب الطبيعي للفوتون، وأذكر على إنه لويس دي بروي مكون من نصفي فوتون، وإنما أكتفي بأن ألفت النظر إلى ثلاثة أمور: الأول أنه أحد المكونات الثلاثة في الكون غير المكهربة إذ لا يوجد في كل ما نعرفه من وحدات كونية غير الفوتون والنيترينو والنيترون كوحدات لا تمت للكهرباء بشيء. والثاني أنه المكون الوحيد الذي لا يوجد إلا في حالة حركة بالنسبة للمادة. ويسرني أن أذكر أن للأستاذ الدكتور علي مصطفى مشرفة بك أبحاثاً قيمة في علاقة المادة بالإشعاع أود أن أعود لذكرها فيما بعد. والثالث أنه كائن سريع جداً بالنسبة للمادة وتبلغ سرعته أي سرعة الضوء (299800) كيلو متر في الثانية

ولقد توصل العلماء بوسائل جديرة بالإعجاب إلى قياس هذه السرعة العظيمة والى الوصول إلى معرفتها معرفة دقيقة. وللقارئ أن يتصور عظم هذه السرعة إذا ما عرف أن الضوء يقطع المسافة من مصر للإسكندرية في أقل من واحد على ألف من الثانية

وقبل أن نستمع للمذياع (الراديو) بعشرات السنين، استطاع علماء عديدون أن يقيسوا سرعة الفوتون، هذا الكائن العجيب، وكان لقياس هذه السرعة ولما عرفناه عنها أثر كبير في معارفنا الحديثة، وقد تعدى هذا الأثر كل شيء، حتى أنه تدخل تدخلاً فعليا في معرفتنا قوانين الكون

ولعل القارئ الذي نفرض ونحن نتوجه إليه بهذه السطور أنه من غير المشتغلين بالعلم أو المختصين في العلوم الطبيعية - قد سمع بالدور الهام والمرحلة الكبرى التي تمت في العلوم من معرفة سرعة الضوء في اتجاه ومعرفة سرعته في اتجاه مغاير للاتجاه الأول، وما كان لذلك من الأثر في تدعيم نظريات (أينشتاين) الحديثة في النسبية. ولعل القارئ يستنتج الآن نوع الاتجاه الذي أحاول أن أوجهه إليه فيما سأعمد إليه من مقالات قادمة، ولعلنا في النهاية قد وفقنا بعض الشيء لكي نصف له شيئاً من الدار التي يسكنها والكون الذي يعيش فيه.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة