انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 349/العقلية الألمانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 349/العقلية الألمانية

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 03 - 1940



من خلال الدراسة اللغوية

للأستاذ أبي حيان

كنا في ساعة من تلك الساعات الجميلة التي تتكاشف فيها الأذهان، وتتصافى فيها العقول، وتنطلق فيها الخواطر؛ والتي تدخرها الذاكرة بين أطوائها، لتكون ذخيرة من السعادة، تستمدها النفس في أيام الشقاء، وتنعم باستحضارها كلما طغت عليها الآلام، وحزبتها الأيام. وكنا نتدارس في تلك الساعة طرفاً من علم اللغات المقارن، مما يتعلق بعلامات الإعراب، ومكانها في مختلف اللغات، وأنها سمة من سمات اللغات البادية: كاللاتينية القديمة، واليونانية الأولى. وما بقاؤها في اللغة العربية الشريفة، وقد جازت دور البداوة، وشاركت في بناء الحضارة، وأعرقت في ذلك إعراقاً، إلا مظهر من مظاهر القداسة التي أسبغها القرآن الكريم عليها، بنزوله بها. والقرآن خالد خلود النفس: لا تبديل لكلمه، ولا تغيير في نظمه، ولا تحوير لوضعه؛ وكذلك اللغة العربية التي ارتبط كيانها بكيانه، وأخذت مكانها من مكانه. فهذه العلامات الإعرابية هي في حقيقة وضعها ومرد أمرها، مظهر من مظاهر البداوة الإنسانية في دور من أدوارها.

ولقد تنزل هذا الرأي من عقولنا ومشاعرنا منازل متفاوتة، فمنا من مال إليه وأخذ به لطرافته، ومنا من أنكره لغرابته، إلى غير ذلك من الحالات المختلفة باختلاف المزاج العقلي، ولكنه لم يلبث أن أثار في أنفسنا طائفة من الخواطر متعارضة، فلم يلبث ذلك المجلس الهادئ القار الرزين أن تحول عن هدوئه، حين انطلقت تلك الخواطر متدافعة متضاربة. . . فماج الجو من حولنا وثار، وطال الجدل واشتد. . . وقد اختلفت أساليب المحاجة، وتشعبت طرائق القول وأفانينه، على ما يقع في الخاطر، وعلى ما توحي به المناقشة.

ولكن أحدنا، وكان في معارضة الرأي منذ بدا، وكأنما كان يدخر - لحاجة في نفسه - هذا الوجه الأخير من المعارضة، أخذ يقول: (كيف يستقيم هذا الرأي لكم، وكيف يصح في الاعتبار العلمي، إذا كان بين يدينا ما يأتي بنيانه من القواعد؟ أنسيتم أن اللغة الألمانية من اللغات المعربة التي تلتزم الإعراب التزاماً لا هوادة فيه ولا تسامح في قواعده؟ إذن، فاعلموا أنكم بين اثنتين لا ثالثة لهما: إما أن تنزلوا عن رأيكم، وتحتسبوا لدى (الجدل المجرد) جهدكم، وإما أن تلجوا في مذهبكم - وأعيذكم من اللجاجة في الباطل حين يكشف عنه غطاؤه - فتزعموا أن اللغة الألمانية لغة متبدية، وأن الجنس الألماني لا يزال في دور من أدوار البداوة. ويا لها إذن من جرأة على الواقع ومجازفة بالقول! إذ ما كان لأحد أن يذهب به وهمه هذا المذهب، فاللغة الألمانية هي - فيما يعترف الناس جميعاً - لغة الحضارة في أوسع معانيها، وأكمل ما عرف من صورها. . .)

ثم أخذ صاحبنا يمد شعب الحديث في كل مذاهبه الممكنة، ويفيض في بيان هذه الحضارة وتمجيد أصحابها، ويستشهد من هنا وهناك، في حماسة متقدة، وبلاغة خلابة، حتى لحسبناه - ونستغفر الله - داعية من دعاة النازي، فهو يجرب فينا أساليبه، ويتخذ منا موضوعاً له. وهكذا لم يلبث الميدان أن تحول - على غير إرادتنا - من بحث لغوي ومدارسة علمية، إلى جدل سياسي، يهدأ ويفور، ويعتدل ويجور؛ وبقيت المسألة الأولى في موضعها حتى اليوم - فيما أعلم - لم يبتّ فيها برأي، ولم ينته فيها إلى مقطع.

انفض هذا المجلس ومضى كل ما فيه، إلا من هذه النفحة الروحية الخالدة - التي أودعها الله فينا - وأطلقنا عليها كلمة (الذاكرة)، فقد أضفت عليه معنى الخلود، ومضت به تختزنه بين ما تختزن، مما يعمل دائباً في تكوين شخصية هذا الإنسان الظاهرة والمستكنة، والحاضرة والمستقبلة؛ حتى إذا هاجته الحوادث، واستثارته الأشباه والنظائر، برز من مكمنه، وأخذ يؤثر في خيالنا، كما تؤثر المحسوسات في حواسنا.

وأنا منذ الحرب القائمة لا تزال الذاكرة تطلق لي صورة ذلك المجلس، وما تفتأ هذه الصورة تختال لي، وترود أمامي، وتتبرج لعقلي. فإذا بي أسائل نفسي: أيكون الشعب الألماني لا يزال يعاني البداوة في دور من أدوارها؟ أليست هذه المظاهر المختلفة في مسلكه من الحرب وإثارتها، وفي تقديره للحرية الشخصية وقيمتها، وفي تلك الدعاوى العريضة التي لا يفتأ يقررها ويلج فيها، وفي غير ذلك من الملابسات التي تنتظم الماضي والحاضر، أليس كل ذلك أشبه بالعقلية البدوية؟ وهذه المظاهر الفخمة المتطاولة التي تزعم للناس أنها واهبة الحضارة، ورافعة بنيانها، ومثبتة أركانها؟ ألا يمكن أن يكون وراءها روح بدوية غلابة متغلغلة في العقلية الألمانية، هي التي تنهج لهذا الشعب سبيلها، وتفرض عليه قوانينها، وتحدد له غاياتها؛ وهي التي بعثته إلى هذا المسلك وإلى نظائره في التاريخ في القريب، مما نحن في مشاهده المنكرة، وآثاره المروعة؟

لعل ذلك كله جائز مقبول، وإن الدراسة اللغوية هي - فيما نعتقد - من صميم الدراسات المتعلقة بعلم الإنسان ومن خير المقدمات التي تهدي إلى معرفة طبائع الشعوب وخصائص الأجناس. فإذا اطردت هذه الدراسة اللغوية مع نتائج الأبحاث الاجتماعية كان ذلك أقوى لها، وأجدر أن يخرجها من دائرة الفروض، ويدنو بها إلى منطقة الحقائق العلمية. فهل لنا أن نذهب ذلك المذهب فيما نحن الآن بصدده؟

أبو حيان