مجلة الرسالة/العدد 341/صفحة مجيدة من تاريخ المسرح المصري
مجلة الرسالة/العدد 341/صفحة مجيدة من تاريخ المسرح المصري
عبد الرحمن رشدي وأثره في تاريخ المسرح المصري
للأستاذ زكي طليمات
(نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ زكي طليمات مفتش شئون
التمثيل بوزارة المعارف في حفلة التأبين التي أقيمت بدار
الأوبرا الملكية يوم 4 فبراير سنة 940 برياسة معالي وزير
المعارف أحياء لذكرى مرور أربعين يوماً على وفاة الممثل
الكبير الأستاذ عبد الرحمن رشدي المحامي.)
في هذا المكان وعلى هذا المَمْثل، منذ نيف وسبعة وعشرين عاماً خلت وقف شاب غض الإهاب، فياض القوة، في عينيه بريق، وفي صوته فورة العزيمة وعناد التصميم، تلطف نبراتها حلاوة الحلم الممتع. وقف هذا الشاب في ثياب الممثل يؤثر ويبهر، فحط تاريخ التمثيل العربي الناشئ صفحة المجد الأولى، وأشرق على المسرح المصري فجر وردي جديد
وقف هذا الشاب يمثل، وارتفع الصوت الجهير في رنين أجراس الذهب، فجاوبته صيحات مدوّية منكرة، هي أشبه شئ بصوت انهيار الأنقاض وتصدع الجدران. ذلك لأن العرف المصري الجاري في ذلك الوقت أصيب في أعشاره، وتصدعت منه دعامة قوية شامخة
هذا الشاب هو (عبد الرحمن رشدي) الذي ترك حلبة المحكمة إلى خشبه المسرح، ونضا عنه حُلّة المحامي ليلبس حُلّة الممثل، وهجر عالم القضاء ودنيا الوظائف الحكومية إلى عالم التمثيل ومستراد المرئيات ومجال والوهم المجسم، وزهد فيما كان ينتظره من شارات الشرف في عالم القضاء من أجل تيجان من الورق، وأسمه من الصفيح، وسيوف من المعدن الزائف. . .
أتى كل هذا طائعاً مختاراً وهو في تمام عقله وكامل صحوه، وافتدى صحو العيش بكدره. . . وحياة المسرح في مصر أكدار ومآسٍ. أتى ذلك لأن هاتفا خفياً أهاب به في الساع ترسم الأقدار فيها رجالها وتختارهم للقيام بأعظم الأحداث وجلائل الأمور
أجل أيها السادة، كان احتراف عبد الرحمن رشدي التمثيل في ذلك العهد حَدَثاً من الأحداث الاجتماعية في مصر
ولماذا. . .؟
كان المسرح المصري يرقى الدرج الأول من مرحلة جديدة. كان يحاول متطوحاً فيها أن يستخلص لذاتيته طابعاً جدياً يمت إلى الفن الخالص من حيث فن التمثيل وإخراج الرواية، بعد أن مهد له (سلامة حجازي) و (عزيز عيد) سبيل ذلك بقدر ما وسعه علمهما وسمح به زمانهما. وكان العاملون في المسرح رجالاً ونساء، أخلاطاً سقيمة ممن خفت حمولتهم في التعليم والتهذيب والتثقيف، ولا أقول من حسن الاستعداد وخصب الموهبة. وكانت كثرتهم الغالبة، ما عدا النذر اليسير الذي لا يؤبه له، ممن تقطعت بهم أسباب العيش عن طريق احتراف المهن المألوفة. وكان الجمهور من أجل ذلك يرمق المسرح المصري والمشتغلين فيه بعين ملؤها الازدراء والحذر، إذ يرى فيهم قطيعاً من شذاذ المجتمع، ونفايات الأوساط، وقناصي الكسب السهل عن طريق حلق الشارب، وتخطيط الوجه، ورفع الصوت بالصياح والضجيج
في ذلك العهد جاء الأستاذ جورج أبيض من أوربا، وشاءت إرادة سيد البلاد إذ ذاك أن يكون للأستاذ أبيض يد في ترقية المسرح، فكان أن ألف فرقته العربية الأولى من أقرب ما بين تلك العناصر التي أجملت وصفها إلى شخصية الممثل الحق علماً وأدباً
وهنا جرت الأعجوبة إذ تقدم إلى الصف (عبد الرحمن رشدي) محطماً العرف الاجتماعي السائد، في الأسرة وفي الحرفة التي ينتمي إليهما، مضحياً بمركزه الاجتماعي وبكرامة الرجل الكامل. أقول هذا أيها السادة وأكرر وأؤكده لأنه كان يوجد من الممثلين قبيل ذلك العهد من يحترف كي الطرابيش وبيع الأشربة والمثلجات بالنهار ليحترف التمثيل بعد ذلك في الليل
ولا لوم ولا تثريب على فن التمثيل في ذلك، فقد أتى التمثيل مصر دخيلاً، وفرض نفسه على المجتمع المصري الذاهل كلون جديد من ألوان التسلية. والجديد الوافد من الحرف لا يلقي صدراً رحباً في أول الأمر إلا ممن يعيشون على هامش بيئاتهم الاجتماعية ولا يعمل فيه غير من نبت بهم طرائق الكسب المألوفة، أو من لم يحظوا منها بما يقوم بحاجاتهم
مضى الأمر واحترف عبد الرحمن التمثيل فكانت بداية ملحمة جديدة قوامها نزول شاب مثقف عامل مستكمل لمقومات شخصيته الاجتماعية الرفيعة إلى عالم ضليل لا يصول فيه غير المكابر، ولا تطولفه غر قامة المشاغب والمداجي والعريض الصوت والمنكبين، عالم تحيط به الريب والشكوك، ويغلفه الكثير من سوء الظن، نزل إليه عبد الرحمن بأقدام ثابتة، يَعمُرُ قلبه عقيدة راسخة بأن المسرح كالمسجد يؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر
نزل وملء حواسه إيمان صادق بأن المسرح المصري الناشئ لن يرقى ولن يؤدي رسالته في التثقيف والتهذيب، ما لم يتوله جماعة على قسط وافر من الثقافة والتهذيب، وما لم يشرف عليه من يعيش له لا من يعيش منه، وما لم يكفله الكفيل الصالح
كان عبد الرحمن محامياً في نظارة الأوقاف، وكان يتقاضى مرتباً شهرياً ثابتاً قدره أربعة عشر جنيهاً، فرضى أن يعمل ممثلاً بمرتب قدره أثنا عشر جنيهاً في هيئة غير ثابتة في فرقة تسير - كما سبقتها الفرق التي تقدمتها - مضطربة حائرة، كسفينة هزيلة البناء في بحر عجاج، وفي هذا ما ينهض دليلاً على أنه لم يحترف التمثيل ليزداد مرتبه، أو ليجمع مالاً عجز عن جمعه في حرفة المحاماة
ومثل عبد الرحمن أدواراً سجلت مواهب الممثل في نسقها العالي؛ ودوّي مجده دوياً أخذ على هواة التمثيل مشاعرهم، فتحركت نفوسهم، وتطلعوا وتتطلع غيرهم ممن أخذوا يعرفون محاسن التمثيل على يد المحامي الممثل، وقامت فرقة جماعة أنصار التمثيل تعمل للفن برياسة المرحوم محمد عبد الرحيم الذي كان يشغل وظيفة أستاذ بالمدارس الثانوية
ولكن عبد الرحمن اضطر بعد شهور - ويا للعجب - أن يترك فرقة أبيض مرفوع الرأس، لأن النزعة المادية كانت تغلب كثيراً نزعة الفن الخاص لدى بعض مديري الفرقة المصرية، فتأذت نفسه من ذلك وفترت آماله. . .
وعاد إلى المحاماة الحرة في مكتب أنشأه بمدينة الفيوم لقي فيه نجاحاً كبيراً. وهكذا عاد النازح إلى بيته واستقر فيه، وحسب الناس أن مغامرة عبد الرحمن في احتراف التمثيل إنما كانت بدوة من بدواة النفس الفتية
يا للهاتف الغامض الذي ينادي النفس فتلبي النداء، ويُغلّبُ القلبَ على الحجا والرواية؟؟ لم يمض زمن طويل حتى رأينا عبد الرحمن يعاود مغامرته الأولى بنفس الحماسة الأولى ويضحي بالربح والواسع الذي كان يدره عليه مكتبه بالفيوم. أتى كل هذا ناسياً ما جرته عليه مغامرته الأولى، ضارباً عرض الحائط بنصائح أصفيائه ممن راعهم أن المسرح المصري ما برح غير جدير بالتضحية من جانب صفوة المتعلمين
ولكن الهاتف المجهول كان يسد مسامعه، والقدر يدفعه إلى أن يستقيم على محتوم قضائه
عاد عبد الرحمن إلى العمل في فرقة الأستاذ أبيض بعد أن أنضم إلى فرقتها وجيه من وجهاء مصر، وسليل بيت كبير من بيوتاتها، وهو عمر سري بك نجل المرحوم حسين سرى باشا؛ وكاد وجيه آخر من طرازه، وهو المرحوم محمد تيمور بك، نجل المرحوم أحمد تيمور باشا، وتشريفي حضرة صاحب العظمة حسين كامل سلطان مصر، كاد أن يأتي نفس المغامرة؛ وكدت بدوري، على الفارق البين، أن أركب نفس الطريق وأترك دراستي الثانوية في مرحلتها الأخيرة. . .
ومهما انتحلت للمرحوم تيمور ولنفسي من الأعذار التي حالت دون احتراف التمثيل في ذلك العهد، فلا أجد بدَّاً من المصارحة في هذا الموقف الذي أعطى فيه (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر) بأنني وتيمور كنا أوهن من عبد الرحمن عزماً وألين عوداً
وبدأ الدور الثاني من جهاد عبد الرحمن وبدأت معه الجمعيات التمثيلية مرحلة جديدة اتسمت بالجهاد الصادق وبوفرة عدد العالمين في الجمعيات، وجعلهم من صفوة المتعلمين طلبة كانوا أو موظفين
ونضجت لعبد الرحمن طريقة في التمثيل حاكاه فيها ضعاف الشخصية من الهواة والممثلين، وتنبهت الأقلام المصرية إلى واجبها فقام الأستاذان إبراهيم رمزي ولطفي جمعة يدعوان إلى استقلال المسرح المصري برواياته
أيها السادة:
يقولون إن التاريخ يعيد نفسه. . . وما أصدق هذا حتى في أتفه الأمور!
لم يمض وقت طويل على عبد الرحمن في هذه الفرقة حتى اضطر إلى تركها لأسباب لا يسمح المقام بذكرها، ولكنها أسباب تشرف عبد الرحمن، الرجل والممثل، الذي لم يعمل في التمثيل ليجمع المال من ورائه، وليستثمره كما يستثمر التاجر الملهوف على الكسب متجراً انتهى إليه في آخر الزمان!
ورجع عمر سري بك إلى قصره العاجي ينفض عن أقدامه غبار طريق شائكة بعد أن ضاق ذرعاً بالفرقة وبنفسه، وبقى عبد الرحمن واقفاً مثبتاً في حلبة الجهاد رجله، وليس لديه ما يدفع عنه غائلة الأيام، بل وآلام الحاجة والضيق إلا قلب كبير يعمره الإيمان بالله، وبالمبدأ، وبالفكرة العاملة
أيتها الحاجة، أنك قاسية!
أيها الجوع أنك كافر، إنك كافر!
ولكن يشاء الله أن يسكب في نفوس أصفيائه من البشر ما يجعلهم يزدرون بالمحن، فتراهم يدفعون الحاجة بالصبر، ويستعينون على الجوع بالكفاف من العيش.
وقف عبد الرحمن هذا الموقف الرائع، فتجلى عناد التصميم وثبات العقيدة وجلال الرجولة في اكمل معانيها.
كان في وسعه أن يعود إلى المحاماة، أو أن يلتحق بوظيفة حكومية تقيه شر ما يلقي. كان سبيل الخلاص ممهداً أمامه، ولكن عبد الرحمن أبى أن يفعل شيئاً من هذا، لأن رسالته في المسرح المصري لم تكن قد تمت فصولها، وصاحب الرسالة مجاهد وشهيد، والشهداء يأبون إلا أن يكونوا شهداء وقد يكون خلاصهم بين أيديهم.
وسرعان ما انتهى دور الاستجمام والتفكير إلى دور الوثوب والعمل. فألف عبد الرحمن فرقة تمثيلية باسمه، على نظام الحصص وهو نظام جديد، يقضي بتوزيع قدر من الدخل الوارد من أيراد الحفلات تبعاً لما خصَّ به كل ممثل أو ممثلة.
فلا مرتبات ثابتة، ولا أجور مقيدة.
كان تأليف هذه الفرقة حدثاً جديداً في المسرح المصري، لأنها لم تتألف من أنقاض الفرق العاملة، وإنما تألفت في جملتها ولا سيما في عنصر الرجال فيها من شباب جدد مثقفين، ينتمون إلى بيئات اجتماعية لم تسخ بأبنائها على التمثيل، جمعت الفرقة الجديدة الموظف الذي هجر وظيفته، والطالب الذي قطع دراسته العالية أو الثانوية، اجتمعوا كلهم في صعيد واحد، بعد أن أنضجتهم الهواية الصادقة بالعمل في الجمعيات التمثيلية، اجتمعوا بعد أن ترسموا طريق الفداء الذي شقه الزعيم المجاهد عبد الرحمن فضحى كل منهم بما كانت تعده لهم وظائفهم أو دراساتهم من مستقبل زاهر، أقل مزاياه أنه مستقبل لا يسلم أصحابه إلى العيش من وراء مهنة مضطربة حائرة، غرمها مضمون، وغنمها مشكوك فيه، تكابد إغفال الناس، بل واذدراءهم.
على هذا النحو، ألفت أول فرقة مصرية من عناصر نابهة، فما لبثت أن أثبتت حسن اضطلاعها بمهمتها، واستطاعت أن تشق طريقها، وتركز أعلامها في القطر، من الثغور إلى أقصى الصعيد، ورددت أرجاء هذه الدار نبرات حارة لأصوات فنية، وصارت الفرقة بهيئتها ورئيسها رمزاً للتضحية في سبيل المبدأ، ومظهراً من مظاهر النهضة المصرية، ووجهاً من وجوه اليقظة القومية
في هذا الفرقة عمل الأساتذة سليمان نجيب مدير هذه الدار، ومحمد عبد القدوس، ومحمد فاضل، ومحمد وفيق، والمتكلم أمامكم، عملوا ممثلين محترفين!
أيها السادة
حاذروا زوالاً إذا قيل تم الأمر وبلغ مداه. وحقق مقاصده!
بعد جهاد مستمر، دام ثلاث سنوات وشهوراً، اضطر عبد الرحمن أمام الأزمة الاقتصادية التي شملت العالم بأسره، بعد انتهاء الحرب الماضية، أن يفض الفرقة، وأن يترك الميدان مفتدياً ذلة الخاضع بعزة المغلوب، لأن الكساد الذي شمل سائر مرافق الحياة الاجتماعية بفعل تلك الأزمة، كاد يفرض عليه فرضاً أن ينزل إلى مستوى السواد الأعظم من الجمهور، وأن يتملق رغباته، وكانت رغبات الجمهور في ذلك العهد، عهد الثورة المصرية، متقلبة لا تستقر على حال، ولا تغنى من التمثيل، وهو لون من ألوان التسلية، إلا بما هو سطحي وعابر، لا يكد الذهن ولا يجهد الخاطر
حلت الفرقة، ولكنها حققت الغرض الأول من قيامها، وهو جعل المسرح في ممثليه والقائمين عليه من الطبقة المثقفة التي اجتلبت حسن الظن بفن التمثيل
حلت الفرقة، ولكن بعد أن جعلت من التمثيل العربي حقلاً جديداً للنشاط الذهني من جانب طبقة من الناس ما كنت تأبه له قبل قيامها. وهكذا بدأ عهد اصطلاح في المسرح المصري، وانفتح باب للتجديد فيه، لم يلبث أن ادخله الأستاذ (يوسف وهبي)، نجل المرحوم عبد الله وهبي باشا، ليأخذ المشعل من يد قائد الطليعة، ويعمل للمسرح مجداً متفانياً في جهاده، مضحياً بثروته الشخصية، وما آل إليه من مال أبيه الراحل
هذا هو مجد عبد الرحمن رشدي، وبهذا يستقر اسمه في رأس قائمة أبطال الطليعة الذين عملوا للمسرح المصري مخلصين للمبدأ
عاد الممثل ومدير الفرقة إلى المحاماة للمرة الثالثة، ولكنه عاد إليها في هذه المرة كسير القلب، لأنه استيقن أن الزمان يضيق به وأن لا سبيل إلى فرض إرادة على هذا الزمان، الذي يأخذ من المصلحين بقدر ما يريد، لا بالقدر الذي يريدونه ويستطيعون تقديمه
وكان ينتابه حنين إلى المسرح، وهو يجالد الأيام وتجالده، فكتب له أحياناً، وعمل عضواً عاملاً في اللجان التي ألفتها الحكومة لترقية التمثيل، وأذكر من مسرحياته:
(تخت العلم)، و (البؤر المرخصة)، و (المأمون)
وألفت الفرقة القومية بمال وزارة المعارف، فلم يتوان عن تلبية النداء، ورجع القائد والزعيم جندياً متواضعاً يعمل في الصف بالإشارة ولا كبر ولا خيلاء!
أحبك يا عبد الرحمن في تواضعك وسماحتك، وأحني الرأس إجلالاً لك، قائداً كنت وزعيماً، ومؤتمراً أصبحت وجندياً
ولم يطل مكث (عبد الرحمن) في الفرقة القومية، لأسباب خاصة، فتركها في نفس الوقت الذي زهدت فيه العمل فيها
وشاء القدر أن يجمع شملي وشمله للمرة الثالثة في مكان واحد، وأن نعمل لغرض واحد في وزارة المعارف، وهو تهيئة جيل جديد للتمثيل، يقبل عليه ويعمل له، إذا استطاع، مخلصاً ومجدداً
هذا هو بعض عبد الرحمن رشدي، الذي اجتمعنا اليوم مختارين لتأبينه، وتكريم ذكراه، فيبكي كل واحد منا في شخصه قطعة من ماضيه، أو صفة من صفات الرجولة الباهرة، أوسمة من سمات البطولة الحقة، أو مظهراً من مظاهر الجهاد والتضحية
هذا هو عبد الرحمن رشدي الممثل فحسب، وأتجاوز عن سائر نعوته وألقابه، وقد كان المحامي القادر، والموظف الكبير، وأبن البيت الكريم. أفعل هذا عامداً مزهوَّاً، لأن الممثل عبد الرحمن رشدي، أكبر من كل هذا، وأنبه ذكرا، وأبعد أثراً من كل هؤلاء في الدور الذي لعبه في حياته، لان الممثل عبد الرحمن رشدي، واحد في نسجه، منفرد بما آل إليه أمره، وما استقام عليه بمحتوم قضائه
وهاأنذا أختم كلمتي بالهتاف لهذا القائد الذي سقط في حومة الجهاد، وسيفه في يمينه، بعد أن أفرغتُ كلمتي هذه في سمع الزمان الواعي، وهي كلمة تتسم بوفاء التابع الأمين، وخبرة الصديق، وصراحة الفنان.
أقف بعد ذلك صامتاً، وأمسك عامداً عن استنزال شآبيب الرحمة على البطل الراحل، كما تجري بذلك تقاليد البيان في هذا المقام، لأن هذا البطل الحر الطليق، كان يمقت التقاليد؛ وكانت حياته حرباً على التقاليد، ولأن العناية الإلهية التي رسمته مجاهداً، وجلبته مصلحاً ومغامراً، أجل وأرفع من أن يتطاول عليها بالنداء والتنبيه صوت شخصي الضعيف الحزين
بل أن هذه العناية الإلهية الرحيمة، قد شملته منذ أن حان حينه، وتهيأ للقاء الرفيق الأعلى، فعجلت نقلته من هذه الدنيا، ومضى عنها ما بين غمضه عين وانتباهتها. وكأني بها نفست به على المرض الطويل، وضنت به على تجارب الأطباء. وعبث الممرضين، وعصمته من عذاب دونه كل عذاب، وهو صمت الجسد المتداعي عن إجابة الروح القوي، والنفس الوثاب
أعود فأقول: إنني لا أفعل هذا، لأن عبد الرحمن رشدي مبعوث عناية، ورجل أقدار، ونفس من أنفاس الرحمن الرحيم.
زكي طليمات