مجلة الرسالة/العدد 341/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 341/رسالة النقد
كتاب (الإمتاع والمؤانسة)
أتحدث إلى القراء عن طرفة من أثمن طرائف الأدب القديم يعد ظهورها في هذا العصر من خير ما أثمرت المطابع المصرية من كتب الأدب الرفيع، كما يعد الاتجاه إلى نشرها من أحسن ما وقفت إلى التفكير فيه لجنة التأليف والترجمة والنشر، على كثرة ما وفقت إليه في تفكيرها. وتلك الطرفة النفيسة هي كتاب:
(الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي)
وإنك لتقرأ هذا الكتاب من أوله إلى آخره، فيملأ نفسك روعة، قبل أن يروعك أدب مؤلفه الفذّ بما تراه فيه من براعة الحسن في جودة طبعه، ودقة في تصحيحه، وصدق النظر فيه، وكمال العناية بكل لفظ من ألفاظه.
وقد قرأت الجزء الأول من هذا الكتاب، وكنت قد اطلعت على عدة صفحات من نسخته الأصلية المأخوذة بالتصوير الشمسي المحفوظة بدار الكتب المصرية، وهي النسخة والوحيدة لهذا الجزء رغبة في تتميم بعض البحوث عن مؤلفه أبى حيان التوحيدي، وإذا بي أرى جميع سطورها مغمورة بالتصحيف والتحريف، والنقص والزيادة؛ فلا يهتدي الساري في ظلمات هذه النسخة إلا بمصباح قوي من الأدب القويم، والذوق السليم، والمران الطويل، والصبر الذي لا يعرف الضجر.
وقد بعثني على تناول الكتاب من هذه الناحية مقالان قرأتهما في مجلة الرسالة للدكتورين زكي مبارك وبشر فارس تغاضيا فيهما كل التغاضي عما ملئت به صحفه من حسن وإحسان رائعين، وأغفلا كل الإغفال تلك الجهود القوية الملموسة في كل ناحية من نواحيه، وشغلا بعدة كليمات تافهة قد تسقطاها في هذا الكتاب، زاعمين في بعضها زعماً لم يؤيده الواقع في شيء أن مصححيه الفاضلين قد فاتهما تصححيه أو شرحه، وفي البعض الآخر منها أنهما قد صححاه تصححياً أو شرحاه شرحاً لا يلائم الصواب.
وقبل أن أتحدث إلى القراء عن هذين المقالين أريد أن أنبههما وأمثالهما من النقاد إلى أنه لا ينبغي أن ينشر في الصحف في نقد أي كتاب إلا ما يتعلق بقيمته الفنية ومنزلته بين أشباهه من الكتب، والمميزات التي تميز بها عن غيره من المؤلفات في فنه، وما كان يفقد هذا الف لو أن هذا الكتاب لم ينشر، والفائدة التي تعود على القارئ من قرأته، ثم الحديث عن مؤلفه ومنزلته بين أشباهه من علماء هذا الفن، والباعث له على تأليف هذا الكتاب؛ وما إلى ذلك من الأمور التي تعني جمهور القراء عامة دون فرد أو أفراد
أما تلك الأمور التصحيحية التي تعتبر من جزيئات الجزيئات والتي لا يعنى بها غير مصحح الكتاب وحده دون غيره من القراء، فإن نشرها في الصحف ليس مما تقتضيه العقلية العلمية
وذلك كأن يذكر الناقد كلمة محرفة - في زعمه - بين ملايين من الكلمات الصحيحة، أو حرفاً معجماً حقه الإهمال، أو مهملاً حقه الأعجام بين ملايين الحروف التي روعي إعجامها وإهمالها، أو نقطة في موضع شولة، أو العكس، أو قوسين وضعا موضع خطين، أو خطين وضعا موضع قوسين، أو تفسير كلمة قد استظهره مصحح الكتاب، ثم بدا للناقد تفسير آخر، فإن أمثال هذه الملاحظات لا تساوي ما يبذل فيها من ورق ومداد. وأيضاً فأنه لا يمكن قراء هذه الملاحظات في الصحف معرفة صوابها من خطئها، ولا تميز حقها من باطلها، إذ لا يمكن ذلك إلا بقراءة الملاحظة، ثم مطالعة موضعها في الكتاب وأصله معاً حتى يتبين للقارئ صواب النقد من خطئه، ولا يتأنى ذلك لقراء الصحف غالباً كما هو معروف
وأولى بهذا الصنف من النقاد أن يبعثوا بجميع ملاحظاتهم التي من هذا النوع إلى مصحح الكتاب ليدرسها ثم يستدركها في الطبعة الثانية إن كانت مما يستحق الاستدراك، كما فعل الأستاذ محمد على بك في ملاحظاته على الكتاب الذي نحن بصدده، فإنه بعث بها جميعاً إلى الأستاذ أحمد أمين مختتمةً بعبارات الإعجاب والتقدير والشكر، وقد نشرها الأستاذ أمين في آخر الجزء الأول من هذا الكتاب مقدمة بالشكر الجزيل والثناء الجميل على صاحبها
وبعد، فالمطلع على هذا النقد اطلاعاً منصفاً يرى أنه - على طوله واتساع كاتبيه في شرحه وتبرير ما فيه من الملاحظات - يرجع في جملته إلى اختلاف وجهتي النظر بين المصحح والناقد، والتباين في ذوقيهما أكثر مما يرجع إلى حقائق علمية أو نصوص ثابتة، ولا يعترض بنظر على نظر ولا بذوق على ذوق
ومن أمثال ذلك ما أطال به الدكتور بشر في مقاله من ذكر شولات ونقط، وما إلى ذلك مما يسمه أرباب الطباعة بالترقيم وضعت في غير مواضعها من عبارات الكتاب كما زعم، وقد استغرق منه هذه الإحصاء قرابة نصف صفحة من مقاله؛ ولم يدر أن هذا الترقيم إنما يمليه الذوق وحده، ولا يرجع وضعه إلى قواعد ثابتة إلا في رسم العلامات؛ فربما قرأت عدة عبارات فتفهم أن بعضها متصل ببعض، فتضع بينها شولات؛ ثم يقرؤها آخر فيفهم أن بينها اتصالاً من ناحية وانفصالاً من أخرى فيضع شولة منقوطة وهكذا، وكلا الفهمين صحيح لا يعترض بأحدهما على الآخر
وقلّما رأيت مصححاً قرأ صفحة ووضع هذه الفواصل بين عباراتها حسب ذوقه في فهم الكلام، ثم عرضت على آخر بعده فوافقه على ذلك؛ بل لا بد أن يجري قلمه في هذه العلامات بالمحو والإثبات حسب ذوقه هو أيضاً؛ وكذلك لو عرضت هذه الصفحة على ثالث ورابع
وأشهد لقد حسدت الدكتور بشر أشد الحسد على ما منحه الله من أتساع الزمن ورحابة الصدر وقوة الصبر وطول البال حتى استطاع أن يفرغ لتسقط هذه العلامات التافهة الضئيلة والتقاطها من كتاب كهذا فيه الألوف منها
ومن هذه الأمثلة أيضاً ما سماه (تباعداً عن سياق النص) في عبارة أوردها من كلام المؤلف يخاطب الوزير أبا عبد الله العارض قال (أي التوحيدي): (فقلت قبل: كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري) الخ. وقد فهم مصححا الكتاب من هذه العبارة أن التوحيدي يريد من الوزير أن يجيبه إلى كل شيء يريده، ليكون ذلك معيناً له وناصراً على ما يريده الوزير من الإمتاع والمؤانسة بمجلس التوحيدي؛ وقد ضبطا تلك العبارة على هذا الوجه تبعاً لما فهماه منها، وهو فهم صحيح لا غبار عليه ولا مطعن فيه وقد رأى الناقد أن تضبط العبارة هكذا: (فقلت قبل كلٍ شيءٌ أريد أن أجاب إليه) ألخ فاهماً أن أبا حيان يريد إلى الوزير أن يجيبه إلى شيء واحد قبل إمتاعه ومؤانسته، وهو فهم صحيح أيضاً مع شيء من الضعف، ولا يعترض بفهم على فهم كما قدمنا
وإذا بحثنا كلا الفهمين وأردنا الترجيح بينهما وجدنا أن الفهم الأول أليق بحال أبي حيان مع الوزير أبي عبد الله كما يتبين ذلك من ثنايا كتابه
وأيضاً فلا شك في أن إرادة أبي حيان من الوزير أن يجيبه إلى كل شيء يريده خير من أن يريد منه الإجابة إلى شيء واحد.
ومنها ما سماه: (تجافياً عن أسلوب الكتاب) وما أكثر الأسماء لديه وأقربها إلى قلمه! وذلك أنه رأى عبارة من عبارات الكتاب مختتمة بكلمة: (تجدُّها) وبعدها عبارة أخرى مختتمة بكلمة: (تمدُّها)
هكذا ضبط المصححان الفاضلان هاتين الكلمتين
وقد رأى حضرة الناقد أن الأفضل في ضبط الكلمة الأخيرة (تُمِدها) بضم التاء وكسر الميم، معللاً ذلك بأن الازدواج الذي ألتزمه المؤلف في كتابه لا يتم إلا بالتوافق التام بين (تجدُّها) و (تمدها) في جميع الحركات
ولو تفضل حضرته فألم إلماماً يسيراً بقواعد السجع والازدواج في فن البديع، لرأى أنهما يتمان على أكمل وجه وأحسنه بدون هذا التطابق الدقيق في جميع الحركات والحروف، والتزام الدقة في ذلك يعدُّ من لزوم ما لا يلزم، إذ السجع في هاتين العبارتين تام لا عيب فيه وأن لم يتطابق اللفظان في جميع الحركات
على أن المؤلف لم يلتزم في جميع كتابه تلك الدقة في الازدواج والسجع، بل أن كثيراً ما يكتفي باتفاق أواخر العبارات في الوزن وإن لم تتفق في الحروف، بل قد يغفل الازدواج والسجع إغفالاً تاماً
ومنها ما سماه: (تركا للغامض على حاله من الغموض والإبهام) وقد أورد من ذلك عبارة ذكرها التوحيدي في معرض الحديث عن صيانة النفس والقناعة وصعوبتهما على الإنسان، وشدة احتمالهما، والمشقة الشديدة في التخلق بهما، فقال ما نصه: (وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفة محرجةٌ إن لم تكن لها أداةٌ تجدّها، وفاشيةٌ تمدُّها، وترك خدمة السلطان غير الممكن، ولا يستطاع إلا بدين متين) ألخ. وقد خفي على الناقد الفاضل معنى قوله: (وترك خدمة السلطان غير الممكن) ألخ، فألح في السؤال عما يريد المؤلف بهذه العبارة، وهي عبارة في غاية الوضوح والبيان لا تحتاج إلى توضيح؛ وتوضيح الواضح أكثر مشقة من توضيح الخفي المبهم
يريد المؤلف بهذه العبارة أن صيانة النفس وإعزازها عن مواطن المذلة للملوك والأمراء والعزوف عن خدمتهم، كل ذلك غير ممكن، لما تقتضيه ضرورات العيش وحاجات الحياة؛ ولا يستطيع ذلك إلا من عمر الدين المتين قلبه، وملأت الثقة بالله نفسه. وبعد فإن لنا نصيحة نريد أن نسرها إلى الناقد الفاضل، وهي أنه ينبغي لمن يقدم على نقد كتاب كالإمتاع والمؤانسة أن يكون لديه إلمام يسير بأوليات قواعد النحو، فيعرف حكم الفاعل ونائبه، وبماذا يرفع المثنى والجمع، وما إلى ذلك، وإلا رد نقده عليه، وكان حديثه عن الكتب منه وإليه
قال مؤلف الإمتاع والمؤانسة في تفسير معنى الخَلَق بفتح الخاء واللام ما نصه: (وأما قولهم: هذا شيء خَلَق فهو مضمَّن معنيين) الخ
وقد ذكر الناقد هذه العبارة وكتب تحت قوله: (مضمَّن معنيين): (كذا) حاسباً أنه قد ظفر بغلطة شنيعة؛ يريد حضرته أن في قوله: (معنيين) غلطاً نحوياً! وكان الصواب في نحوه هو: (معنيان)! فما أرى سيبويه والخليل والفراء والكسائي ومن إليهم من أئمة العربية في هذا النحو الجديد؟!
وهل في قواعدهم أن للفاعل نائبين: نائب أصيل ونائب مساعد كما لبعض وزارات الحكومة وكيلان: أصيل ومساعد؟!
ألا يعرف الأستاذ أن ضمّن يتعدى إلى مفعولين؟
الحق أن تلك الزلة تهدم مقاله من أساسه، وتجعل صاحبها غير أهل لنقد كتاب كالأمتاع والمؤانسة الذي نحن بصدده
هذا ما يتعلق بنقد الدكتور بشر. وسنتحدث في المقال الآتي عن أمثلة من نقد صاحبه
(ع. ص)