انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 341/تلك أيام خلت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 341/تلك أيام خلت

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1940


للدكتور زكي مبارك

في الكلمة الماضية دونت بعض ما ربحت وبعض ما خسرت؛ وسأقصر كلمة اليوم على التنويه بأمور ينفعني النظر فيها من وقت إلى وقت، فأن صح أني قليل الاعتبار بحوادث الأيام، فقد يكون في القراء من ينتفع بالعبرة التي يسوقها هذا الحديث. وآفة الأدب في بلادنا أن الأدباء لا يتحدثون عن عيوبهم إلا قليلاً، وهذا التحرز من سرد العيوب قد يوهم فريقاً من القراء بأن الأدباء تعصمهم مواهبهم من الوقوع في الأغلاط والهفوات. ولو أنهم عرفوا أن الأديب يخطئ ويصيب كسائر الناس، لأدركوا أن التفوق في الأدب ميسور لكل من يتوجه إليه، وهو مزودٌ بقوة العزيمة، ورجاحة العقل، وصدق الوجدان.

فما الذي فاتني من الفوز والنصر في السنة الماضية حتى أرجع على نفسي باللوم والتثريب؟

أعتقد أني ضيعت على قلمي فرصاً لن تعود: كنت في العام الماضي مرهف الإحساس، ولكن قلمي لم يستفد من ذلك.

والكاتب المخلص لفنه لا يترك عواطفه تتبخر وتضيع، وإنما يسارع إلى الاستفادة من فورتها، فيكتب وهو مشبوب القلب ليستطيع السيطرة على القلوب. . .

وما أقول: إني انصرفت عن مصاولة الأزمات الوجدانية، فقراء (الرسالة) يذكرون أني كنت أواجههم بهذه الشؤون من حين إلى حين، ولكني أعترف بأني ظلمت نفسي أقبح الظلم حين تغافلت عن تسجيل ما كان يثور في صدري من العواطف في بعض الأحايين.

حدثني الأستاذ الزيات قال: إن بعض القراء لا يستريحون إلى بعض ما تكتب في الشؤون الوجدانية، وإن من الخير لمن كان في مثل مركزك أن يقف عند حدود الأدب الرزين!

و (بعض القراء) هم المشايخ الذين يسمرون في نادي (الرسالة)، ليجادلوا الزيات فيما يباح وما لا يباح من المذاهب والآراء، وفيهم من لا يرضى عن كاتب مثلي إلا إن شغل نفسه بشرح (دلائل الخيرات)!

والحق أني راعيت رأي هذا الصديق بعض المراعاة، والزيات صديقٌ أمين، والانتفاع برأيه من أوجب الفروض، ولكن كيف كانت العواقب؟ أضعت على نفسي وعلى (الرسالة) فرصاً لن تعود. . . وهل أملك ردّ العواطف التي ثارت ثم خمدت في تباريح السنة الماضية؟

(تلك أيامٌ خلت) ولن يردها أسفٌ ولا بكاء!

إذا صح أني مفطور على إحساس الفرح والحزن في الحياة، وإذا صح أني أقوى ما أكون حين أفرح أو حين أحزن، فكيف يضيق صدر وطني وزمني عن سماع سجعاتي وزفراتي؟ وبأي حق يحرم عليَّ ما يباح للشعراء في جميع البلاد؟

وهل تصدقون أن الناس يكرهون حقيقةً أن تحدثهم عن أزمات الأفئدة والقلوب؟

وهل صدق الأستاذ فكري أباظه حين حدّث الناس عن طريق المذياع باندهاشه من أن يسمع أغاني الهجر والوصل والدنيا في حرب؟

وهل تظنون أن هذا الخطيب يقضي أيام الحرب في التخشُّع والقنوت أمام المحراب؟

الدنيا في حرب، وسيعقب الحرب سلامٌ بعد عام أو عامين، ولكنكم تنسون أن الشاعر يعاني حرباً لا يصد شرها عنه غير الموت، إن صح الموت يريح أرواح الشعراء من البلاء بالتفكير في أسرار الوجود

وما الذي يوجب الخضوع للأفكار العاتية التي تتوهم أن الحرب تقدر على زلزلة السريرة الإنسانية؟

الحرب تستطيع أن تصنع بالسريرة الإنسانية ما تصنع العواصف بأمواج المحيط، فهي تقلقل المنافع من وقت إلى وقت، ولكنها تعجز عن اقتلاع ما في السرائر من جذور الحب والبغض والهدى والضلال

والشاعر ينظر إلى من حوله من الناس نظرات مختلفات: فيرى بكاءهم مرةً كبكاء أطفال، ويراه مرةً زئير اسود. فالطفل لا يذكر من الحرب غير تنقل (التسعيرة) من وضع إلى وضع، ويكون مثله مثل الطباخ الذي انزعج لارتفاع أسعار القطن لأنه رأى ذلك نذيراً بارتفاع أسعار الزيت!

أما الرجل - والشاعر الحق هو الرجل الحق - فيرى أن الحرب لا تكون سيئة العواقب إلا أن استطاعت بفواجعها أن تقتلع من السريرة الإنسانية جذور الإحساس بمعاني الحياة.

وهل في الحياة معانٍ أشرف وأفضل من الحرص والشره والطمع في أنتهاب أطايب الوجود؟

شغلت نفسي مرةً بتأريخ ملاهي الحي اللاتيني في باريس، فجمعت أكثر من خمسين كتاباً تحدث مؤلفوها عن ملاهي ذلك الحي، ثم راعني أن ألاحظ أن تلك المؤلفات كتبت قبل الحرب العالمية، فعرفت أن الباريسيين بعد تلك الحرب فقدوا شعورهم بتذوق الحياة فلم يعودوا يهتمون بتسجيل ما يصادفهم من النعيم في ذلك الحي البهيج

فإن استطاعت الحرب الحاضرة أن تشغلنا عن أحاديث الهجر والوصل فسيكون معنى ذلك أننا صرنا أطفالاً ضعافاً لا يهمهم من الدنيا غير اعتدال أسعار (اللِّعب والصواريخ)!

أقول هذا وفي مكتبي مقال لم يسمح بنشره الأستاذ الزيات، لأنه خشي أن يفتح لخصومي باب الأقاويل والأراجيف، وهو مقال سجلت فيه إحساسي بفراغ شارع فؤاد من أقدام الملاح يوم تجربة الغارة الجوية. فهل من الحق أن الحرب رجت مصر رجةً تذهب بما يملك شعراؤها من عواطف وأحاسيس؟

وهل من الحق أن أهل مصر لم يعودوا يأنسون بغير حديث البقول؟

أعترف بأني توجعت مرة على صفحات الرسالة من غلاء الورق، وذلك توجُّع مشرِّف، لأن الأمة التي تشكو غلاء الورق هي الأمة التي تُعزّ الأفكار والعقول، وكل شيء في دنيانا من الكماليات إلا الورق فهو عندنا من الضروريات، والمصري المثقف قد يكتفي بالقليل من القوت، ولكنه لا يستغني أبداً عن زاده من الحبر والورق

ونحن قومٌ آذتنا الظروف الدولية أقبح الإيذاء، فليس لنا من السيطرة الاقتصادية أو الحربية ما للأمم الديمقراطية أو الدكتاتورية، ولكن لنا مع ذلك سيطرة عقلية نصول بها في أقطار الشرق.

ولو شئت لقلت أننا نملك من هداية الشرق ما لا يملك الإنجليز والفرنسيس والألمان، ولهذه الدولة الروحية سلطانٌ يحسدنا عليه من يملكون في تصريف السلم والحرب ما لا نملك، فليس من العجيب أن نشكو غلاء الورق في زمن لا يشكو فيه المسيطرون غير غلاء القوت

والشرق ينتظر أن نحدثه عن نفسه بما لا يعرف

فكيف يغيب عنا أن من الواجب أن نكون أفصح من يذيع في الشرق أحاديث السريرة الإنسانية؟

استيقظوا، أيها الغافلون، واعلموا أنكم لن تكونوا شيئاً مذكوراً إلا إذا استطعتم أن تشغلوا الشرق عما في الغرب من ألحان وأغاريد

هل فكر واحد منكم فيما عرف الشرقيون من الآداب الفرنسية والإنجليزية؟ وهل خطر في بالكم أن الأقطار الهندية والأفغانية والإيرانية أقواماً يقرؤون عن العقول الفرنسية والإنجليزية أضعاف ما يقرؤون عن العقول المصرية؟ وهذا يقع مع أن مصر في هذا العهد تستطيع أن تكون قيثارة ترجِّع ألحان السماء لو تركت التزمت الممقوت الذي يفرض التغاضي عن أحاديث القلب والوجدان

سألني أحد الأصدقاء منذ أيام عن الظروف التي ألفيت فيها كتاب التصوف الإسلامي وهو يتوهم أنني لم أذق قطرة من رحيق التصوف، فقلت: ذلك كتابٌ زكّيتُ به عن قلبي. فقال: وهل على القلب زكاة؟

فقلت: آفة الآفات أن تظن أن الزكاة لا تجب على القلوب

والأحاديث الوجدانية التي أهتف بها من حين إلى حين هي نفحة من نفحات التصوف، فكيف يراها بعض القراء من مظاهر الفتون؟ وكيف يرى صديقي الزيات أن نشرها يقوى حجة خصومي واعدائي؟

بل كيف استبحت ظلم نفسي فلم اهجر مجلة الرسالة لأتحدث عن فؤادي بما أشاء؟

تلك أيامٌ خلت! فمتى أرجع إلى مناجاة أو ما هي وأحلامي؟

إن الحديث عن الظواهر لا يحتاج إلى عبقرية، أما الحديث عن ضمائر النفوس وسرائر القلوب فلا ينهض به غير أفذاذ الشعراء. فمتى أجد آذاناً تطرب لأسجاع الروح المفتون بتهاويل الوجود؟ ومتى أجد قلباً يسمع وسواس قلبي؟ ومتى أجد روحاً يأنس بغناء روحي؟

هل سمعتم بما صنعت وما تصنع مشيخة الأزهر؟

هي تستعدي الحكومة المصرية على كل من يطبع كتاباً دينَّياً تقع فيه غلطة نحوية أو صرفية أو إملائية!

فهل علمتم في يقظة أو في حلم أن مشيخة الأزهر شغلت نفسها بطبع طائفة من الكتب الدينية؟ كذلك يصنع معي خصومي واعدائي، فلا هم يؤدّون زكاة القلوب، ولا هم يسكتون عمن يؤدي زكاة القلوب

زرت السيد آل كاشف الغطاء في النجف على غير معرفة فقال: من أي بلد قدمت أيها السيد؟ فقلت: قدمت من وطن أبن الفارض. فقال: وطن الذي يقول:

كل من في حماك يهواك لكن ... أنا وحدي بكل من في حماكا

فقلت: بل وطن الذي يقول:

أنت ورد فَهَب محبَّك شوكاً ... أترى الوردَ عاش من غير شوكِ

فإن كنتُ من الشوك فلا بأس، فالورود لا تعيش إلا في حماية الأشواك، والروح اللطيف لا يعيش إلا في قفص من الجسم الكثيف

وسمعت في الأيام الأخيرة أن إحدى المجلات تنوشني منذ أسابيع فرفضت الاطلاع على تلك المجلة لأني أخشى أن تروضني على الشراسة والحقد، وأنا أحب مسالمة الناس لأفرغ لمحاربة قلبي، القلب الجامح الذي يقهرني على الوفاء لأقوام لا يعرفون معنى الوفاء

ثم ماذا؟ سأتحدث في الأسبوع المقبل عن لواعج وشجون يضيق عنها حديث اليوم

زكي مبارك