انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 34/حجاج الخضري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 34/حجاج الخضري

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 02 - 1934



للاستاذ محمد فريد أبو حديد

قد تكلم المتكلمون في وصف أهل مصر فأكثروا في وصفهم من المبالغات، وذهبوا في التعميم مذاهب مختلفة، فمنهم من أغرق في المحدح حتى لم يترك فضيلة الا وصفهم بها، وهؤلاء قد غاب عنهم من وجه الحق مثل ما غاب عن الفريق الآخر الذي أغرق في الذم والتجريح. وقد تناول أفاضل كتاب الرسالة هذا المعنى فضربوا فيه بسهم.

ولعمري أنه لم يخطئ كاتب خطأ كتاب العربية قديماً إذا هم تناولوا قوماً بالوصف، فانهم إذا وقعت أنظارهم على جماعة أو عاشروا فئة من الناس وصفوها وصفاً يخيل إلى من يسمعه أو يقرؤه أنه وصف شامل لكل أهل البلد، أو أنه سمة ثابتة لكل الجنس، في حين أنهم إنما كانوا يصفونه من اتفق لهم الامتزاج به أو من ألفتهم الظروف في سبيلهم.

إن العالم الذي يحاول وصف الشعوب إنما يصل إلى حكمة على مميزات الشعب بعد أن يدقق في بحثه ويفحص من أفراد الجنس عدداً يستطيع بعد فحصه أن يقول بحق إنه قد عرف نسبة محترمة من أفراد ذلك الجنس، فاذا ما قال إنه رأى في ذلك الجنس صفة لازمة يشترك فيها الافراد جميعاً أو أغلبهم كان ذلك الحكم جديراً بالوثوق والتصديق. وشعب مصر إذا ذكره الذاكرون إنما يعني به شعب تلك الأرض الممتدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وليس من السهل على أحد أن يصف مثل ذلك الشعب بوصف شامل يعم أفراده جميعاً، أو يصدق على أغلبهم. فأمثال ابن خلدون والمقريزي ممن وصفوا أهل مصر إنما يصفون من رأوه من أهل الدولة أو من الأعيان أو من أهل العلم، وهؤلاء ان صدقت علهيم كلمة أو شملهم وصف لم يصح أن يكون وصفهم وصفاً لبعض الأمة فضلاً عن كلها. وذلك لان أغلب أهل هذه الطبقة في مصر لم يكن في تلك العصور من جرثومة البلاد وأبناء شعبها الصميمين، بل كانوا أخلاطاً من مشرق الأرض وغربها قد اجتمعوا فيها بين مجندين في جيشها أو غالبين على حكومتها أو مقربين في بلاط حكامها الاجانب، أو علماء يجمعهم الاسلام من كل الامصار والأقطار في صدره الرحب السمح.

ولقد أهمل مؤرخو مصر ذكر ابناء البلاد الصميمين اهمالا يكاد يكون ازدراء لهم واحتقاراً لشأنهم، إذ زعموا أن مهمة المؤرخ محصورة في حدود رجال الدولة وأهل الحكم ومن يلحق بهم أو يطيف بأبوابهم من رجال الدين والعلم. غير أنا نجد بين حين وحين اسماً من اسماء الدهماء والعامة يذكره المؤرخ عفوا، وهو امل في نظرنا على صفة أهل مصر من تلك الأعلام العالية والاسماء الضخمة التي ملأ قدماء المؤرخين كتبهم بوصفها، وبنوا عليها أحكامهم لان تلك الاسماء المشهورة لم تكن في أغلب الاحوال من أهل وان كانت من أهل مصر، فهي غير جديدة بأن نتخذها أساساً للحكم على أهل مصر. واني ذاكر هنا اسماً من هذه الاسماء المتواضعة لعلي أبين من وصفه ان شعب مصر الحقيقي كان فيه رجال، وان البطولة كانت تسري في عروق عامته الذين لم يحظوا بتخليد التاريخ.

كان من أهل مصر في اول القرن التاسع عشر رجلاً متواضع الصناعة اسمه حجاج. وقد كانت صناعته بيع الخضر فكان اسمه يذكر دائماً مع اسم صناعته، فكان الجبرتي رحمه الله يذكره إذا ذكره بسام (حجاج الخضري)

وكان العصر الذي فيه حجاج عصراً فذاً في تاريخ مصر منذ عهد الفتح العربي الأول. فقد اعتاد اهل مصر منذ قرون طويلة ان يتركوا أمر السياسة والحكم والحرب لمن غلب على البلاد من الدول أو من الجماعات وتمادوا في ذلك الاعتياد حتى صارت عقيدتهم أن الحكم واجب على غيرهم، وان واجبهم الابتعاد عنه وعما يستلزمه من نضال ومغامرة. غير ان غزوة الفرنسيين هزت البلاد هزة عنيفة تصدعت لها العقائد الثابتة. فاذا بأهل مصر يرون الجنود الاجنبية تطرد جنود السلطان الذين اعتادوا الخضوع لحكمه وتشتت شمل المماليك الذين قضوا الاحقاب يتصرفون في أمور البلاد تصرفاً مطلقاً، فأصبحوا وجهاً لوجه أمام حالة جديدة لا تدعمها عقائدهم الاولى ولا عاداتهم الموروثة.

وبدأت روح أهل مصر تتنفس، وبدأت حواسهم تتنبه، فاذا بهم يثورون على الفرنسيين في شوارع القاهرة وأزقتها مرتين في مدى سنتين، وإذا هم يلقون اعداءهم المسلحين وهم لا يحملون الا الهراوي والحجارة، ويحتمون منهم وراء متاريسهم وخنادقهم يقيمونها في عرض الطرق وعند مداخل الميادين. وكان حجاج الخضري من زعماء تلك الثورة الشعبية وأبطالها، فيمز نفسه بقوة الجسم ورباطه الجأش وثبات الجنان، حتى صار أبناء البلد ينظرون اليه نظرهم إلى القائد المحبوب الموثوق به، يهرعون اليه عند الكوارث ويصرخون باسمه عند الهيعات. ثم خرج جيش الفرنسيين وعاد الحكم إلى السلطان وولاته، ولكن مصر شهدت عقب ذلك أشد تطاحن على الحكم والسلطة بين الزعماء والهيئات، حتى انتهى الامر بتطلع مؤسس الدولة العلوية المجيدة إلى الملك.

انتهت هذه الاثناء زعامة الشعب المصري المتنبه إلى الزعيم الجليل السيد عمر مكرم، وهو الصديق الحميم لمحمد علي باشا، وكان حجاج هذا من صفوة أعوان وأشجع جنوده، فعندما تخاذلت جنود الاتراك عن نصر محمد علي باشا في نضاله مع منافسية قام السيد عمر مع أهل مصر الصميمين بحصار القلعة حتى اضطروا القائد المنافس إلى التسليم، وكانوا لا يرجون من جهادهم ذاك مالاً ولا عطاء، بل كانوا يرابطون ويحاصرون ويحاربون من أجل الوطن وحده. وكان حجاج الخضري أظهر الزعماء الشعبيين في هذا الوطن. قال الجبرتي في يومياته:

(فأرسل (أي السيد عمر مكرم) إلى من بالنواحي والجهات وأيقظهم وحذرهم فاستعدوا وانتظروا وراقبوا النواحي، فنظروا إلى ناحية القرافة فرأوا الجمال التي تحمل الذخيرة الواصلة من علي باشا إلى القلعة، ومعها أنفار من الخدم والعسكر وعدتهم ستون جملاً، فخرج عليهم حجاج الخضري ومن معه من أهالي الرميلة فضربوهم وحاربوهم وأخذوا منهم تلك الجمال)

واستمر نضال حجاج على رأس هؤلاء الجنود المصرين الخلص حتى تم الامر بانتصارهم وتوليه محمد علي باشا على مصر، وجاء فرمان السلطان مقرأ بالأمر الواقع، وعند ذلك خرج موكب النصر المصري وعلى رأسه قواده المظفرون: وقال الجبرتي في وصف ذلك:

(اجتمع الناس، وطرائف العامة، وخررجوا من آخر الليل، وهم بالاسلحة والعدد والطبول إلى خارج باب النصر. . . وكثير من الفقهاء العاملين رؤوس العصب، واهالي بولاق ومصر القديمة والنواحي والجهات. . . وكبيرهم حجاج الخضري وبيده سيف مسلول وكذلك ابن شمعة شيخ الجزارين وخلافه، ومعهم طبول وزمور والمدافع. . . إلى ان وصلوا إلى الازبكية فنزلوا بيت محمد علي باشا، وحضر المشايخ والاعيان وقرأوا المرسوم). وبذلك تم انتصار الشعب، واخذ يتطلع إلى الحكم والسياسة. وما كان ذلك ليرضى الجنود الاتراك الذين تعودوا ان يكونوا سادة غير منازعين. فلما انتهى النضال الكبير بدأ التنافس والتنازع بين أهل مصر وبين الجنود. وكان حجاج ممثل ذلك التنازع والتنافس. قال الجبرتي في بعض يومياته بعد ذلك (وقع بين حجاج الخضري والعسكر مقاتلة جهة طيلون وقتل بينهم اشخاص) فرأى أهل الحكم أن يعودوا بذلك الشعب إلى هدوئه الأول، وسكينته القديمة، فبدأوا ينزعون منه السلاح بعد أن انقضت الحاجة إلى حمله. فغضب الناس لذلك حيناً، غير انهم أرغمو على الاذعان فأذعنوا. ولكن نفس حجاج الخضري لم تذعن بتلك السهولة بل قاوم وناضل وكابر. قال الجبرتي في وصف ذلك.

(وفيه بنى حجاج الخضري حائطاً وبوابة على الرميلة عند عرصات الغلة) ولكن ايستطيع فرد أن يقاوم دولة ولو كان من بناتها؟ لا، فان حجاجاً لم يستطع الا الهروب من القاهرة التي جال فيها تلك الجولات، ولجأ إلى جيش الالفي بك، وكان عند ذلك مرابطاً بجيشه يترقب الغرر، ويتحين الفرص، جاثماً طوراً عند إطفيح بالصعيد ومرة عند دمنهور بالبحيرة.

غير ان المقام لم يطلب لذلك البطل المصري في جيش الالفي بك وكيفل يطيب له المقام، وهو ابن البلد الصميم، يقيم بين جيش من المماليك يشمخون عليه بأنوفهم، وهو المعتز بكرامته الذي يرى نفسه مثيلاً وكفؤاً لهم؟ قال الجبرتي في وصف ذلك:

(وفيه أيضاً حضر حجاج الخضري الرميلاتي إلى مصر، وقد كان خرج من مصر بعد حادثة خورشيد باشا خوفاً من العسكر وذهب إلى بلدة بالمنوات. ثم ذهب عند الالفي، وأقام في معسكره إلى هذا الوقت، ثم ان الالفي طرده لنكتة حصلت منه، فرجع إلى بلده، وأرسل إلى السيد عمر مكرم فكتب له أماناً من الباشا، فحضر بذلك الأمان وقابل الباشا وخلع عليه ونادوا له في خطته بأنه على ما هو عليه من حرفته وصناعته ووجاهته بين اقرانه.)

غير أن نفسه لم تكن لترضى بعد ذلك بالبقاء في صفوف العامة الذين قضى عليهم أن يعودوا إلى انزوائهم واكتفائهم بالعيش العادي، فاختفى مرة أخرى من القاهرة، ولا ندري بعد ذلك له مقراً.

أقتله الجنود انتقاماً من كبريائه؟ أهرب إلى وطن غير مصر؟

لنسا ندري غير ما قاله الجبرتي (وفيه اختفى حجاج الخضري أيضاً بسبب ما داخله من الوهم والخوف من العسكر) اللهم ان في صفوف الابطال أفذاذاً لم يسمهم التاريخ ولمتعهم ذاكرة الأحفاد ليؤدوا اليهم ما يستحقون من الاجلال. . . ولئن كان حجاج الخضري أحد هؤلاء، فقد حفظ لنا المؤرخ المصري اسمه في عرض حديثه، وهو يمر به مروراً سريعاً. غير أني أتجه إلى ذكراه بقلب خاشع تملؤه دعوات الترحم، وتتردد فيه أسمى عواطف الاجلال والتبجيل.

ألا يستطيع مصري أن يقول عند قراءة سيرة حجاج إن في المصري أنفة وعزة؟ وإن له نخوة وسطوة؟ وإن بين جنبيه همة وقوة. . .؟

محمد فريد أبو حديد