انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 339/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 339/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1940



دراسات في الفن

388

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- حقك اليوم أن أبخرك. . . كتاب في يدك، وتقرأ في الطريق؟

- ليس هذا كتاباً، وإنما هو دليل المعرض الدولي لفن التصوير الشمسي الذي تقيمه الآن جمعية محبي الفنون الجميلة. . . هل لك أن تصحبيني إليه لعلنا نرى شيئاً جميلاً؟

- يسرني هذا. . . هيا. . . فهي فرصة قد أقتنع فيها بأن التصوير الشمسي فن.

- أو لم تقتنعي بذلك إلى اليوم؟

- أحياناً أقتنع، وأعود في أغلب الأحايين فأشك، وتجئ أحيان أنكر فيها إنكاراً.

- ما دمت تقتنعين أحياناً، ولو قليلة، فإن هذا يدل على أن التصوير الشمسي فن، أما هذه الأحيان التي ينبعث فيها الشك من نفسك، والتي ينبعث فيها الإنكار، فلذنب فيها ليس ذنب التصوير الشمسي، وإنما هو ذنب المصورين الشمسيين، ولكي يتضح لك هذا عودي بالذاكرة إلى الصورة التي أعجبتك، والى الصور التي لم تعجبك، وحاولي أن تلمسي الفروق بين هذه وتلك لترى أنها كانت إصابات من مصورين وإخفاقات من آخرين. . . فبين المصورين من يطوف بآلته يلتقط الصور لكل ما يراه، وهذا يشبه في الشعراء الدكتور زكي أبا شادي الذي لا يستعصي شئ على شعره، فهو يستطيع بقوة الله أن يقول الشعر في الزهرة، وفي السحابة، وفي النملة، وفي البلاطة، وفي القمر، وفي القلقاس وفي كأس الخمر، وفي (كوز حمام)، وفي الراقصة الرشيقة، وفي (الترسة) المتثاقلة، وفي الزمرد والياقوت وكلورور الصوديوم وبيكربونات الصودا وهناك نوع آخر بين المصورين للواحد منهم محل يذهب إليه الناس ليصورهم بالأجر، وأغلب هؤلاء يشبهون الكتاب العموميين الذين يكتبون للناس ما يريدون كتابته بالأجر أيضاً، والذين يكتبون فيما يكتبون فرحاً وحزناً، وبشرى وإنذاراً وحوادث وأخباراً من غير أن تهتز في أنفسهم خلجة ولا عاطفة، وأقلهم تطيب لهم بعض الوجوه فيخرجون لها أحسن الصور. . . وفي الكتاب العموميين أيضاً من يفعل مثل هذا إذ تطيب له بعض الموضوعات فينطلق قلمه بأحسن ما يكتب. . . وهناك نوع ثالث بين المصورين له اتجاه خاص، فهو لا يصور كل شئ، وإنما يصور ما يروقه فقط، وإنما تنجذب نفسه إلى معان خاصة يرتاح لها، ومن هذه المعاني ما قد يُسعد ومنها ما قد يغذي الألم في نفس الفنان ويسقيه، وهؤلاء المصورون يشبهون كل فنان من أولئك الذين يمتاز الواحد منهم بطابعه الخاص وبلونه النفساني. . . وفي هؤلاء المصورين جميعاً الصادقون، وفيهم الكاذبون، وفيهم الهادئون، وفيهم المتكلفون وفيهم الجادون، وفيهم الساخرون. . . وللتصوير الشمسي بعد ذلك عالم كما أنه لكل فن عالم، وفي عالم التصوير الشمسي تجار يبيعون ويشترون، وفيه سماسرة يروجون، وفيه ناس طيبون يستهلكون، وفيه أدعياء يتحككون بالفن ويقتنون الصور، ويتأنقون في صنع (براويزها) وهم أبعد ما يكونون عن الفن، أبعد ما يكونون. . .

- كأني بك تريد أن تقول شيئاً في نفسك ولكنك تمسكه

- وهل خلًّيت شيئاً لم أقله؟ إلا أني معجب برئيس مجلس شيوخنا الذي يهتم كثيراً بالفنون الجميلة، وبهذه الروح الطيبة التي يرعى بها الفن كل من المسيو مارسيل فنسينو رئيس البنك العقاري المصري، ورينيه قطاوي بك مدير شركة وادي كوم امبو ويوسف قطاوى باشا الوزير السابق، والدكتور على باشا إبراهيم، وحافظ عفيفيي باشا، وسعادة محمد طاهر باشا رئيس لجنة الرياضة الأهلية، وفؤاد أباظة باشا المدير العام للجمعية الزراعية الملكية والمسيو نوس مدير شركة السكر، والمسيو ريشارد موصيري الوكيل المفوض لبنك يوسف نسيم موصيري (أولاده وشركاهم)، وسائر أولئك النبلاء الذين يعطفون على الفن. . . ليس في نفسي إلا أن أنتهز هذه الفرصة لأشكر فيها هؤلاء الرجال الكبار باسم الفن. فهم من غير شك يضحون كثيراً من وقتهم الغالي، والغالي حقاً في سبيل التهذيب الروحي يرقون عن طريقه بأبناء هذه البلاد.

- هل تعرف أن هؤلاء لو اهتموا بالفنانين الذين تؤثر فنونهم في الشعب تأثيراً قوياً لأجدوا على بلادهم خير جدوى. ولازدهر الأدب والتمثيل والموسيقى و. . .

- الله حبب هؤلاء في التصوير الشمسي، وللفنون التي تتحدثين عنها قضاء آخر عند الله هو مقدِّرُه، فاشكري الله على ما قُسم. . واسكتي الآن فقد وصلنا. . .

- الله. . . تعال هنا. . . عند (41) إنها فتاة حلوة رائعة، أليس كذلك. . .

- من غير شك. . . و (28) أيضاً رائعة. . . وأظنك ترين الفرق واضحاً بين هذه وتلك. . (41) فتاة مليحة اعجب بها مصورها (عزام جمال)، ولا ريب أنه شاب عذب القلب فيه كثير من أخلاق الصبيان. . . و (28) شاب في أواخر الشباب أعجبت به مصورته (آسيا)، وهي لا ريب فتاة عاتية، فإذا كانت رجلاً متنكراً باسم مؤنث، فهو رجل فيه رحمة وفيه حنان ولين. . .

- وهل تعرف أنت (عزام جمال) و (آسيا) وتعرف أخلاقهما؟. . .

- لا يا روحي. . . وإنما نفساهما في هاتين الصورتين. . . فالذي اختار هذا الوجه الصبوح الضحوك المنبسط الذي لا تجاعيد فيه ولا حزون تصوره هذه الصورة، لا بد أن يكون من عشاق الصباحة والضحك والانبساط والصراحة والوضوح. . . وإلا فلماذا اختار هذا الوجه وصوره؟. . . أما (آسيا) فقد صورت هذا الشاب المتكسر الشباب الذي يطل الشقاء من إحدى عينيه ويطل الصبر من الأخرى، فلا بد أن تكون من اللواتي يستهويهن الشباب الموَلى واللواتي يطربن إذا رأين في عيون الناس صبراً وشقوة، وهذا لا تحبه إلا نفس الأنثى العاتية. فإذا طرب له رجل فبالرحمة يطرب له، وبالشفقة يستجيب إلى صبره، وبالتعزية يواسي شقاءه.

- ولم لا يكون الرجل قاسياً عاتياً هو أيضاً يحب أن يرى في عيون الناس الصبر والشقاء

- هذا لا يكون إلا في الرجال الجلادين، وأنا لا أظن أن الذي صور هذه الصورة هو (عشماوي) متنكراً باسم آسيا. من يدرى. . . تعال إلى (38) هذه. . . امرأة تنظر من النافذة مهتمة متلهفة هذه الصورة روماني اسمه افرامسكو ويسمنها (انتظار)

- ليت هذا المصور ذاد هذه المرأة عن النافذة قبل أن يلتقط هذه الصورة. . . فقد كانت عندئذ تظهر صورة ساكنة لبيت ساكن. . .

- ولكنه يخيل إلى أنه هو الذي دعاها لتقف في النافذة هذه الوقفة، ولتطل هذه الإطلالة، ولتهتم هذا الاهتمام، ولتتلهف هذه اللهفة. . .

- وأنا يخيل إليّ هذا أيضاً، وهذا هو ما يفسد عليّ الاستمتاع بهذه الصورة، ذلك أن هذه السيدة عند ما أرادت أن تلبي دعوة هذا المصور لبتها بإخلاص شديد جداً له هو، فقد مطت نفسها في النافذة مطة ثعبانية، ثم نثرت في وجهها من علامات الاهتمام ما لا يمكن أن يبدو على وجه إنسان إلا إذا كان يرقب موكب الملائكة يوم الحشر، وتلهفت تلهفاً لا يمكن أن يتلهفه إنسان إلا إذا كان يرقب انشقاق السماء ليلة القدر حسبما يقولون ويروون. . . ومع أنها أدت هذه النوازع هذا الأداء المكبر، فإنها لم تستطع أن تخفي ما كان يجب عليها أن تخفيه وهو شعورها بأنها تعمل هذا كله كي يصورها الأستاذ أفرامسكو

- إذن فهذه صورة فاشلة. . .

- يؤلمني أن أقول هذا. . . ولكني أعتقد أن في هذا تعزية كبيرة للأستاذ أفرامسكو، فهو دليل صادق جداً على أن هذه الشابة مطاوعة له مخلصة لفكرته تود له من صميم قلبها أن ينجح. . . وهذا أمر من غير شك يرضيه. . .

- من يدري مرة أخرى. . . فلربما كان يريد أفرامسكو أن تفوز صورته بإعجابك وإعجاب غيرك من النقاد، ولو كان ثمن هذا الفوز روح هذه التي تقول إنها مخلصة. . . الست تعرف أصحاب الفن وسخفهم. . . من منهم جازي المخلصة إلا بكارثة. . .

- خذا موضوع آخر لا أوافقك فيه على رأيك هذا على الرغم من أن بعض الظواهر قد تؤيده. . . ولكن هذا ليس وقته. . . تعالى. . . سأختار أنا لك صورة. . .

- تعالى، انظري إلى هذه. . . (388). . .

- انتظر لأرى من صاحبها. . . إنها من رسم سيدة أسمها مدام رايفون وهي من لندن، وقد سمت هذه الصورة (صورة). . فقط. . . وهي صاحبة (389) أيضاً وقد سمتها (عيد). . .

- عظيم. . . وهل تعجبك (389) هذه؟ فيها جمال حقاً ولكن (388) أبدع، وهي من غير شك أبدع ما في هذا المعرض. . .

- ولكن لا يزال أمامنا جزء من المعرض لم نره لعل فيه ما هو أبدع من هذه الصورة

- قد يكون هناك ما يساويها. ولكن لا أعتقد أن هناك ما هو أبدع منها. . . فقد قالت المصورة في هذه الصورة كل ما يمكن أن يقال.

- ولكني أرى في هذه الصورة تكلفاً كالذي رأيته أنت في صورة التي تنظر من النافذة. . .

- خسئ ما ترين. . . أين هو التكلف؟. . .

- الصورة صورة شاب لا شك في أنه أوربي، ومع هذا فهو يلبس ملابس المماليك الأتراك أو الشركس، طربوش يوناني أو عثماني كبير كطربوش تمثال إبراهيم باشا، وقميص من الحرير، وصديري مفتوح، وحزام حرير يطل منه خنجر، و (سروال) ارتفع إلى مادون ركبتيه بقليل من أثر جلسته، فظهر جزءان من ساقيه. . . ثم هذه (البلغة الفاسية) التي أظن أنه كان يجب أن يكون مكانها (مركوب) أحمر أو أخضر ليماشي هذه الملابس التي لم يكن أهلها يعرفون (البُلغ) وأخيراً هذه الجلسة نفسها على هذه القطعة المخروطة من الخشب التي لا طبيعة فيها ولا صناعة والتي لا تشبه جذع الشجرة، والتي ليس مثلها كرسي، التي تكاد تكون صنعت خاصة لهذه الصورة. . . أو هناك تكلف بعد هذا كله؟

- هذا الذي تسمينه تكلفاً هو ما أسمه أنا إخراجاً. . . فصاحبة هذه الصورة لها خيال تحبه حققته فيها بهذا الأسلوب الذين ترين. فاختارت هذا الفتى الذي فيه ملامح خيالها المحبوب والذي تتعسفين كثيراً إذ تؤكدين أنه أوربي، لأنه قد يكون كما تقولين وقد يكون شرقيَّا أيضاً، وهو كما ترين ممن يشهد الرجال لهم بالحلاوة والعذوبة، فما بالك بشهادة النساء؟ جبهة عريضة لم يغطها هذا الطربوش العميق الضخم وإن كان أخفى منها جزءاً وهي جبهة تدل على الذكاء والذكاء محبوب، وعيناه دعجاوان تنبعث منهما نظرة مرتاحة متأنقة كأنما تنتقي وتختار، وأنفه دقيق منتظم جميل، تناسق بتناسق نفسه واعتدل باعتدال مزاجه، ووجنتاه بارزتان بروزاً خفيفاً ينفي عن وجهه تراكم اللحم وغلظ الجلد، وعن روحه ثقل الظل وجمود الحس، وفيه واسع ولكنه يبدو كالضيق لأنه مكون من ثلاثة مستقيمات: واحد منهما متقدم والآخران منكسران عنه بزاويتين إلى الوراء فكل منهما في جانب والفم الواسع ترينه دائماً للمغنين والمتحدثين ذوي اللباقة وحسن التأثير، كما أن له أذنين مرتفعتين غير صغيرتين تفتحتا للسمع والإصغاء وشفتاه لا هما رقيقتان قاسيتان ولا غليظتان بربريتان، وذقنه صغير طرى كذقون الأطفال الأصفياء، وأصابعه طويلة دقيقة خلقت للترفه والعبث وفي إحداها هذا الخاتم المرصع باللآلئ والياقوت استغراقاً منه في جو النساء واصطناعاً منه لما تحبه النساء، وصدره قد انكشف عن القميص فبدا شعره كما بدا الشعر في ساقيه، والشعر في الرجل خشونة تنجذب إليها المرأة الناعمة. . . وهذه الملابس الشرقية التي تسخرين منها هي حلم من الأحلام يتردد في نفوس أهل الغرب، كما يتردد في نفوس الشرقيين الأمل في مشاهدة باريس وفيينا وبوخارست. . . وهذه القطعة من الخشب التي تعيبينها هي القاعدة التي أقامت المصورة عليها هذا الموضوع كله بما فيه من الفكرة والعاطفة والخيال بهذا الأسلوب الواضح المستقيم، والذي لا أظن أن غيرها يشاركها فيه إلا من كان مثلها منساقاً في فنه إلى طبيعته وفطرته. وهذه هي المرتبة العليا من مراتب الفن

- وما رأيك في (389)؟

- هي غطاء لهذه الصورة الجريئة الحلوة، فالسيدة رايفون لم تشأ أن تعرض (388) وحدها لئلا يفهم أن لها اتجاهاً نفسانياً خاصاً فجاءت بهذا (العيد) كما تسميه، وصورته فتاتين أسبانيتين بينهما شاب جميل المظهر حقاً، ولكنه كالدمية البلهاء، حتى إذا رأى الناس هذه الصورة رأوا فيها طهارة تجري مع التقاليد والعرف والآداب العامة، وتمحو أثر الصورة السابقة أو ما يمكن أن يكون لها من أثر، ولعلها جعلت (العيد) تالياً لصورة هذا الفتى تجيء بعدها في الترتيب لهذا الغرض نفسه، ولعلها أمسكت عن تسمية صورة الفتى بأي اسم من الأسماء تكتما أيضاً. . .

- وهل الفن عيب يتكتمه الناس؟

- ليس فيه من عيب، ولكن ناسا يخشون ما فيه من الحق وناساً يسيئون تفهم هذا الحق، وناساً يتخذون الحق سلاحاً يقتلون به الفنانين في نظر الجمهور قتلاً باطلاً وبهتاناً. . . على أي حال. . . إنك فتاة وتستطيعين عني أن تشيعي قبلة الإعجاب إلى صاحبة (388). . .

عزيز أحمد فهمي