مجلة الرسالة/العدد 338/من وراء المنظار
مجلة الرسالة/العدد 338/من وراء المنظار
حلاقو القاهرة. . .!
لا تفهم يا قارئي العزيز أني أعقد لك فصلاً تاريخياً عن منظر من
مناظر القاهرة العظيمة في زمن ابن طولون أو في زمن الحاكم بأمر
الله أو في زمن قلاوون عليهم رحمة الله، فإني لا أكتب هنا إلا عما يقع
عليه منظاري. . . وإنما أنا محدثك عن منظر من مناظر هذه
العاصمة الكبيرة في القرن العشرين بل وفي عام 1939 الذي أوشك
أن ينطوي على وجه التحديد.
ولا تتوهم أني فيما أصف لك أذهب بك إلى تلال زينهم أو إلى أعلى الدراسة أو إلى جوار المحمدي أو إلى ما وراء سيدي الحِلّي؛ فإنك قد تنكر على ما أقول لجهلك فيما أظن مظاهر العيش في هاتيك البقاع. . . على أنه لا يكون جهلك بها أكثر من جهلي.
وإن لك في أقرب شوارع المدينة غنية عن الذهاب إلى أطرافها فسر في شارع ماسبيرو على ضفة النيل أو في شارع شبرا حيث المدرسة التوفيقية أو في شارع الملكة نازلي أو حول حديقة الأزبكية وانظر ماذا ترى.
لاشك أنك رأيت هؤلاء الحلاقين الذين يتربعون على الأرض أو على الأسوار ويأخذون في حلق رؤوس زبائنهم ولحاهم في صورة تدعو إلى الاشمئزاز والأسف والضحك جميعاً.
وقفت على مقربة من أحدهم ورأيته وقد شمر عن ساعديه وأمسك بالموسى ودعا إليه من زبائنه الجالسين حوله من جاء دوره. ومثَل الرجل بين يديه وله لحية ما أحسبه أجرى الموسى عليها منذ مثل هذا اليوم من العام الماضي؛ ووضع الحلاق كفه في إناء بجواره فاغترف غرفة من الماء بيده ورشها على تلك الأشواك الكثيفة في وجه صاحبنا وأجرى عليها قطعة من الصابون، ثم شحذ الموسى على ذراعه بأن حكها بها عدة مرات في سرعة عجيبة ولما استيقن من مضيها راح يقطع هاتيك الأشواك، ثم يمسح ما تجمع منها على حافة سلاحه في ظهر يسراه أو يأخذها على سبابته ويقذف بها في الجو لا يبالي أين تقع ولا من يصيب برشاشها. . .
ونظرت إلى الحلاق وزبائنه أتبين ماذا كان يخالجهم شعور من المبالاة، فلم أصب في وجوههم إلا مثل ما يرى في الحيوانات من عدم المبالاة فيما تأتيه من أعمالها جميعاً على أعين الناس؛ وكأن هؤلاء الناس جلوس في دكان لا تقتحهم فيه الأعين!
وهممت أن أدور بمنظاري عن هذا المنظر الذي لست أدري لم وقفت إليه تلك اللحظة، وقد كنت أبداً أمر به مسرعاً، وإني لأضيق به أشد الضيق، وكأن الظروف أرادت أن تكيد لي أشد الكيد فلا تقلع عن العناد حتى في مثل هذا الموقف التافه؛ فهذا غريب مقبل ومعه سيدة وفي يده آلة تصوير، وإنه ليضحك ملء شدقيه كأنما يقع من الحلاق وزبائنه على بغية طالما تمناها.
وأعد الفرنجي آلته للتصوير، ولشد ما غاظني أن أرى الحلاقة ومن حوله يضحكون ضحكة البلهاء كأنما يفرحهم أن يأخذ (الخواجة) صورهم، وسمعت ذلك (الخواجة) يقول لصاحبته بالإنجليزية ما ترجمته: (انظري فسنحصل على صورة ظريفة لحلاقي القاهرة).
ودنوت منهما فسلمت وتكلفت الابتسام أولاً، ثم عبست وبالغت في العبوس لأعبر عن احتجاجي، وتكلمت في لهجة استخذى لها ذلك الغريب، وحار ماذا يقول؛ وأشارت إليه صاحبته فطوى آلة التصوير؛ وكأنما أملى عليه إحساسه بالغربة أمام احتجاجي الشديد أن يتلطف فاعتذر، ولكنه أعقب اعتذاره بقوله: (جميل منك أن تغضب لسمعة شعبك ولكن أجمل من ذلك أن تزيحوا عن الأعين ما يشوه هذه السمعة).
وجميل من الرجل قوله هذا لا شك عندي في ذلك؛ ولكن ما حيلتي وما أملك غير القرطاس والقلم؟
ليس يهمني من هذا المنظر وأشباهه ما عسى أن يقول عنا الأجانب من أجله فحسب، وإنما أراه على ذلك شيئاً تتأذى به العيون وتشمئز منه النفوس. ولئن لم تقع عليه وعلى أمثاله أعين غير أعيننا، ففيه مما يشعرنا بالضعة والهمجية.
(عين)