انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 337/الفروق السيكولوجية بين الأفراد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 337/الفروق السيكولوجية بين الأفراد

مجلة الرسالة - العدد 337
الفروق السيكولوجية بين الأفراد
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1939



للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

ومن بين علماء النفس الألمان الذين ساهموا بنصيب في دراسة الفروق السيكولوجية بين الأفراد ووضع مقاييس للذكاء كريبلين وكانت مقاييسه لاختبار سرعة الإدراك أن يطلب إلى المختَبر (بفتح الباء) أن يعُدَّ بأسرع ما يمكن حروف الكاف (ك) الموجودة في مقالة، أو أن يضع بقلم الرصاص علامة على كل حرف (راء) في قطعة مكتوبة، أو أن يعرض على المختبر قطعة مطبوعة بها بعض الأغلاط الإملائية أو الحروف الساقطة ويطلب إليه أن يوجد مواضع الأغلاط والحروف المفقودة. كذلك وضع اختبارات لقياس الذاكرة الرقمية ليكشف الحد الأعلى من الأرقام التي تستطيع أن تستعيده ذاكرة الفرد إذا عرضت هذه الأرقام مدة خمس عشرة ثانية مثلاً، واختبارات أخرى لقياس القدرة على تذكر الكلمات (الفارغة) مثل: غضذ، ثظ، قصخ خخق الخ، وغير هذه الاختبارات التي أسفرت عن أن لكل فرد خواص عقلية وذوقية تميزه عن غيره. ولكن كريبلين أدركه اليأس حينما ساقه البحث إلى أنه لا يوجد تلازم مطرد بين نتائج هذه الاختبارات المختلفة للفرد الواحد. وقد حكم من عدم اطراد التلازم أنه لا يمكن الاعتماد على مجموعة هذه الاختبارات في قياس الذكاء. وهو يقول في ذلك: (إننا لا نستطيع أن نخفي عن أنفسنا أن النتائج التي وصلنا إليها بعد هذه الاختبارات والبحوث الطويلة لم تحقق ما كنا نتوقع من وضع مقاييس مضبوطة للذكاء، تقاس بها العمليات العقلية البسيطة).

كان لتقدم علم النفس التجريبي في أواخر القرن التاسع عشر أن ظهر علم النفس التطبيقي وفكر العلماء في كيفية الاستفادة من نتائج قياس الفروق السيكولوجية بين الأفراد، ومعرفة الخواص العقلية والجسمية والخلقية لكل فرد للاستفادة منها في المهن والصناعات، وكانت غايتهم هي أن يختاروا لكل مهنة الفرد الصالح لها، أو كما يقولون ومن الغريب أن أول من قام بتجارب الاختيار المهني هو مهندس ميكانيكي أمريكي لا علاقة له بعلم النفس، يسمى تيلور كان موظفاً في شركة لصنع العجلات. وكانت في مصنع العجلات مهنة فنية تحتاج إلى أفراد سريعي الرجع (رد الفعل). وقد اختبر المائة والعشرين فتاة المشتغلات في هذه المهنة فوجد أن عدداً كبيراً منهن بطيء الرجع، فاضطر إلى فص البطيئات وإبقاء السريعات، وعددهن خمس وثلاثون. وكانت النتيجة أن هؤلاء الفتيات الخمس والثلاثين أمكنهن أن يعملن نفس العمل الذي كانت تقوم به المائة والعشرون فتاة وفي زمن أقل. وقد نشرت نتائج هذه الاختبارات في سنة 1903، وأثارت اهتمام علماء النفس وبخاصة القائمون منهم بدراسة الفروق الفردية السيكولوجية ومن بين هؤلاء الأفراد البروفيسور هوجو مونستربرج الألماني. وكان حينئذ أستاذاً لعلم النفس في جامعة هارفرد بأمريكا، فأجرى عدداً كبيراً من التجارب لمعرفة الفروق الفردية، وخصائص كل فرد، والمهنة التي تليق له أو يليق لها. وطبع في ذلك كتاباً سماه (علم النفس والكفاية الصناعية). وقد عالج مونستر برج في هذا الكتاب موضوع المواهب الطبيعية واللياقة المهنية. وهو يرى أن لكل فرد خواص ومميزات تجعل شخصيته أو تكوينه صالحاً لنوع من العمل دون نوع آخر. ومن العبث والإسراف الاقتصادي ألا يكون الفرد صالحاً للمهنة التي يقوم بها، أو أن يُعَدَّ لغير المهنة التي يصلح لها بطبيعته، ولا بد إذاً من اختبار الأفراد، ومعرفة مواهبهم واستعدادهم، ومقدار ذكائهم، ونوع ميولهم ومقدرتهم الجسمية وأمراضهم وأخلاقهم حتى يوكل إلى كل منهم العمل الذي يصلح له. فمن المعقول أن الرجل الذي يصلح لأن يكون سائق ترام قد لا يصلح لأن يكون ناظر زراعة، ومن يصلح لأن يكون محامياً قديراً قد لا يمكن أن نخلق منه طبيباً نطاسياً. وإذاً فلا بد من اللياقة المهنية - حتى يستطيع الفرد أن ينتج أكثر ما يمكن من إنتاج في أقل ما يمكن من زمن، وبأقل ما يمكن من مجهود، وهو في أكثر من راحة وسعادة. فلو نجحنا في كشف الرجل الصالح لمهنة بذاتها لأمكننا أن نقتصد في الزمن والمجهود والمال، وأن نرقى من نوع الإنتاج وكميته، وكذلك نجعل العامل سعيداً في عمله. يقول مونستربرج: (حينما نبحث في الفروق السيكولوجية بين الأفراد ونذكر كلمة (خصائص) الفرد نستعمل هذه الكلمة في معناها الأعم. فهي تشمل القوى العقلية للفرد التي قد تكون كامنة، والتي قد تظهر وتحيا تحت ظروف خاصة، وتشمل أيضاً الصفات الثابتة لشخصية الفرد مزاجية كانت أو خلقية، كما تشمل معارف الإنسان وتجاربه المكتسبة. ويدخل ضمن ذلك كل أنواع الإرادة، والشعور، والإدراك، والتفكير، والانتباه، والعاطفة، والذاكرة، والخيال. إن العالم النفسي حينما ينظر إلى الفرد يجده مجموعة من هذه القوى السابقة؛ ولكنا في الحياة العملية وحينما نريد أن نكل لفرد عملاً يجب أن ننظر أولاً إلى أخلاط الخصائص التي تكون شخصيته بغض النظر عما إذا كانت هذه الخصائص وراثية أو مكتسبة، وعما إذا كانت خاصة بالفرد أو شائعة في أسرته، أو في قبيلته، أو في جنسه ومن دراسة هذه الخصائص المتداخلة يتضح لنا أن بعض الناس أصلح من بعض للقيام بنوع من العمل).

ويحتج مونستربرج على جعل الامتحانات المدرسية والشهادات العلمية مقياساً لكفاية الفرد وصلاحيته للعمل الذي يقوم به، إذ أنه ليس من المعقول أن الامتحان المدرسي يقيس غير المعلومات المكتسبة، ولا يكشف لنا شيئاً من خصائص العقل وخصائص الخلق. ويعيب أيضاً على الآباء أن يختاروا لأبنائهم الدراسات التي يرغبون فيها، فإن مجرد الرغبة ليس معناه أن هناك ميلاً طبيعيّاً حقيقياً إلى الشيء. فالأولاد في سن الصغر لا يعرفون شيئاً عن استعدادهم وميولهم الطبيعية. وقد يرغب اليافع في أن يكون طبيباً لأن أخته تتحدث بإعجاب عن زوجها الطبيب، أو أن يكون ضابطاً حربياً لأن قريبه ضابط حربي جميل المظهر. وقد يعرف الآباء حقيقة ميول أبنائهم واستعدادهم ولكن ذلك يجيء في الغالب متأخراً.

وضع الأستاذ مونستربرج اختبارات مختلفة لقياس الذكاء، ولقياس المواهب الخاصة، كاختبار القراءة المرتفعة السريعة، وكمطالبة المختبر بذكر ألوان الأشياء التي تتلى عليه، وكتقسيم مجموعات من النباتات أو المعادن إلى أنواعها المتشابهة، واختبار القدرة على الجمع والطرح بسرعة. وكذلك وضع اختبارات لقياس القدرة على تقسيم الخطوط إلى أقسام متساوية، أو رسم خطوط تساوي خطوطاً أخرى معينة، واختبارات أخرى لمعرفة مكان صدور الصوت ونوعه.

قلنا إن مونستربرج عالج موضوع اللياقة المهنية، ونادى بضرورة اختيار أنسب رجل لكل مهنة. ومن الأمثلة التي يسوقها لتأييد رأيه أن من الناس من هم (عمى الألوان) - فلا يستطيعون أن يفرقوا بين اللون الأحمر واللون الأخضر. فهؤلاء لا يصلحون لوظائف إشارات السكة الحديدية، ولا سياقة السيارات والقاطرات، إذ لا يخفى ما يحدث من خطر إذا التبس اللونان على السائق، وكذلك لا يصلحون لمهنة النقاشة التي تحتاج للتمييز بين الألوان في التصوير والتلوين.

وقد أجرى بعض التجارب لمعرفة الصفات العقلية الضرورية لسائق الترام والسيارات، فوجد بطريق الإحصاء أن بعض السائقين لم يحدث منهم أي خطأ طول مدة سياقتهم، بينما غيرهم عرضة دائماً للأخطاء بالرغم من حرصهم الشديد. ووجد أن أهم صفات السائق هي حدة الانتباه واستمراره، وعدم تشتت الفكر بما يحدث في الطريق أثناء السياقة، ودقة الحكم في تقدير حركات الراجلين والسائقين، وسرعة الرجع وضبط الأعصاب. واخترع آلة بسيطة أمكن بها معرفة خير الأفراد لمهنة السياقة.

كذلك أجرى تجارب لمعرفة الصفات الضرورية لرّباني السفن الذين قد تودي غلطة واحدة منهم بأرواح الآلاف من الناس. واخترع لعبة مكونة من أربع وعشرين بطاقة استطاع بها أن يعرف الأفراد الصالحين لقيادة السفن.

وقد وُكِلَ إليه أن يضع مقاييس لمعرفة أليق العاملات في مركز التليفون (السنترال) فوضع مجموعة اختبارات للذاكرة والانتباه والذكاء والدقة والسرعة. وأجرى هذه التجارب على فَصْل من العاملات مكون من ثلاثين وهي تتلخص فيما يأتي:

الذاكرة: قراءة عددين مكونين من أربعة أرقام وعددين من خمسة وعددين من ستة وهكذا إلى اثني عشر، ثم مطالبة العاملات بكتابة ما يذكرن من هذه الأعداد كل واحدة في ورقتها.

الانتباه: أعطى كل عاملة نسخة من المقالة الأولى في جريدة يومية، وحدد لهن زمناً، وأمرهن أن يضعن علامة بقلم الرصاص على كل حرف في هذه المقالة.

الذكاء: قرأ على العاملات أربعة وعشرين زوجاً من الكلمات وكان بين كلمتي كل زوج ارتباط منطقي مثل: جوع وأكل، ونار واحتراق، وعين ودموع، وماء وبخار، وأسود وأبيض الخ ثم ذكر بعد ذلك أربعاً وعشرين كلمة مفردة على أن تقترح العاملة لكل كلمة كلمة أخرى ذات علاقة منطقية بها.

الدقة: تقسيم خطوط مختلفة الطول إلى أنصاف.

السرعة في حركة اليد: أعطى كل عاملة صفحة من أوراق المربعات، وطلب إلى كل العاملات في الفصل أن يرسمن في زمن مخصوص أكثر ما يمكن من أقطار المربعات على أن تكوِّن خطوطاً متصلة منكسرة.

ثم تبع هذه الاختبارات الجمعية باختبارات أخرى فردية لقياس دقة الحركة وسرعتها معاً.

أما مقدار نجاح هذه الاختبارات فيحدثنا عنه مونستربرج بقوله: (لقد قارنت نتائج هذه الاختبارات بتقارير شركة التليفونات بعد أن مضى على هذه العملات الثلاثين ثلاثة أشهر في العمل فوجدت أن نتيجة المقارنة تؤيد تجاربي بصفة عامة).

(بخت الرضا. السودان)

عبد العزيز عبد المجيد