انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 337/التاريخ في سير أبطاله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 337/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة - العدد 337
التاريخ في سير أبطاله
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1939



مازيني

(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل

بلاء الأنبياء)

للأستاذ محمود الخفيف

عول مازيني على استغلال هذا الحادث ليلفت الأنظار إلى حركته وأخذ ينشر الأحاديث عما يجب أن تسلكه الحكومة البريطانية تجاه الحركات القومية في القارة؛ وتزايد عدد محبيه في العاصمة الإنجليزية، وسعى كثير من ذوي المكانة والرأي إلى رؤيته؛ وكان الإنجليز يعجبون بمرأى هذا الزعيم الغريب في ملابسه السوداء ويرونه بمظهره وبما يرتسم على وجهه من سمات الصبر والعزيمة، ومن إمارات التعب وأثر الفاقة أقرب إلى القديسين منه إلى رجال السياسة.

وكان مازيني فضلاً عن اهتمامه بمسألة إيطاليا لا يفتأ يتصل بكثير من ذوي الأفكار الحرة في أنحاء القارة، يريد بذلك أن يزيد شعور القومية والحرية في أوربا نماء وانتشاراً، ليكون من حياته حرباً متصلة على الرجعية والاستبداد الغاشم؛ ولذلك يعد مازيني إلى جانب كونه زعيم إيطاليا من أكبر المؤثرين في نمو الحركات القومية في القرن التاسع عشر. وظل مازيني يشكو العسر وما يجره العسر من إبطاء في السير نحو هدفه، وكان يفكر في بعث حركة ثورية جديدة في إيطاليا يقودها بنفسه. فأوحى إلى بعض صديقاته من الإنجليز أن يقمن سوقاً إيطالية خيرية بدعوى جمع المال لمدرسته وكان يريد من وراء ذلك جمع مبلغ أهلي يسعى به إلى الوصول إلى غرضه، وافتتحت تلك السوق عام 1847، ولكن ما جمعه من المال من ذلك المبلغ الأهلي الذي منى به نفسه لم يزد على مائة من الجنيهات!

وكانت الأنباء التي تأتيه من إيطاليا في ذلك العام تزيده غضباً ونكداً؛ فلقد اشتدت فيها دعوة المعتدلين، وكان هؤلاء المعتدلون فريقين: فريق الملكيين الداعين إلى الالتفاف حول شارل ألبرت ملك بيدمنت، وانتظار ما عسى أن تأني به الأيام؛ وفريق الاتحاديين المنادين ببقاء إيطاليا وحدات مستقلة بعضها عن بعض في شؤونها الداخلية مع ارتباطها في شؤون القومية بإقامة اتحاد عام من ممثلين للولايات؛ وكان هؤلاء الاتحاديون يدعون إلى الالتفاف حول البابا ليكون زعيم الاتحاد المطلوب، وكان زعيمهم في ذلك جيوبرتي.

وكان مازيني ينكر دعوة هؤلاء وهؤلاء، فلم يكن يرضى إلا بأن تتحد إيطاليا جميعاً فتصبح شعباً واحداً وقطراً واحداً يخضع لحكومة واحدة جمهورية لا ملكية، حكومة مستقلة عن نير الأجنبي ونفوذه، وتستمد سلطانها من الشعب، وتعمل لصالح الشعب؛ على أنه في سبيل الحرص على مبدأ الوحدة قد صرح ذات يوم أنه يقبل أي شكل من أشكال الحكومة ما دامت تقوم على أساس وحدة البلاد. وكان قد استوى على كرسي البابوية عام 1846 بيوس التاسع، وكان معروفاً بعدائه للنمسا وبآرائه الحرة ورغبته في الإصلاح، فسرعان ما اتجهت الأنظار إليه في إيطاليا حتى خيل إلى الناس أن دعوة جيوبرتي وأشياعه هي الفائزة بين الدعوات؛ وخطا البابا بعض خطوات حرة كإصدار العفو العام عن جميع المجرمين السياسيين مما انزعج له كبير الرجعيين مترنخ أشد انزعاج قائلاً: (لقد كنا على أهبة للقاء أي نبأ إلا أن نعلم نبأ ظهور بابا حر، أما وقد ظهر هذا البابا، فلا حد لما سنراه في المستقبل).

وسرعان ما تحركت الولايات تطلب الإصلاح على نحو ما يصلح البابا في ولايته، ففي الصقليتين أرغم هياج الشعب الملك على إعلان الدستور، وفي نابلي عجل الملك فأعلنه قبل الهياج، وسرت العدوى إلى ولايات البابا فأعلن فيها كذلك، وكذلك أعلن في تسكانيا؛ وما لبث أن خطا شارل ألبرت هذه الخطوة في بيدمنت، فأعلن الحكم الدستوري على نحو ما حدث في تلك الولايات، وهكذا تشيع المبادئ الدستورية في طول إيطاليا وعرضها.

وانبعثت الثورة في فرنسا فطاحت بالملكية هناك وأعلن الأحرار فيها قيام حكومة جمهورية؛ ولم يقف الأمر عند فرنسا، بل لقد امتدت العاصفة إلى النمسا نفسها فزلزلت الحكومة فيها زلزالاً شديداً وأخذت مترنخ أخذاً أليماً فأسقطته من مركزه العتيد بعد طول تربعه فيه وانبعاث سلطانه منه. وهب الناس على أثر ذلك في لمبارديا يضعون عن أعناقهم نير النمسا، فلم يمض أسبوع حتى طردت الحاميات النمساوية هناك، ثم بادر ملك بيدمنت شارل ألبرت فأعلن الحرب على النمسا وتبعه أمير تسكانيا وسرعان ما أتى الناس من كل حدب ينسلون، كأنهم شعب السيل وساروا أنماطاً من كل طبقة ومن كل حرفة عالمهم بين جاهلهم وشيخهم بين فتيانهم إلى حيث يلتقون تحت راية بيدمنت، ولم يبق في إيطاليا ولاية لم تأخذ بقسط في هذه الحرب حتى لقد خيل إلى الناس أن حلم مازيني قد تحقق، فها هو ذا علم إيطاليا يخفق على رؤوس الإيطاليين من كل حزب ومن كل ولاية.

وكان الزعيم المجاهد يومئذ في باريس يؤلف قلوب المنفيين من بني قومه هناك على مبادئه، فما أن جاءه نبأ ما حدث في إيطاليا حتى هرع إليها وإنه ليكاد من فرط فرحه أن يطير ومن فرط حماسته أن يشتعل؛ ونزل الزعيم في ميلان إذ لم يكن يستطيع بناء على حكم الإعدام الذي حكم به عليه عام 1933 أن يذهب إلى بيدمنت أو إلى جنوة؛ وعرفه رجال الجمارك من صوره التي رأوها من قبل فكانوا يحيونه في حماسة بالغة ويسمعونه من عبارات الوطنية، واستقبله أهل ميلان استقبالاً رائعاً ومشى والزحام من حوله إلى الفندق الذي اختاره لإقامته.

وراح الزعيم القائد يعقد الآمال على فوز هذه الحركة، وكأنما حل اليوم الموعود فتمت رسالته بعد جهاد طويل لاقى فيه ما لاقى من أنواع العذاب وصنوف البؤس والشقاء. . . ووقف مازيني أول الأمر من الحرب موقف السياسي الرشيد، فوجه همه إلى نصرة بني قومه وترك الخلاف على الجمهورية والملكية جانباً فإن هذا أمر يمكن النظر فيه بعد النصر، وأخذ الزعيم يحث الرجال إلى التطوع لنصرة قضيتهم المشتركة لا يتوانى عن ذلك ولا يكل.

ولكنه ما لبث أن حاد عن هذه الطريق الخليق به وأخذ يذيع مبادئه الجمهورية على أساس الوحدة راداً بذلك على الملكيين ودعاة الاتحاد؛ وكان عمله هذا وا أسفاه مما يعرقل سير الحرب فإن من شأن هذا الخلاف أن يشيع في الجند وأن يتسرب إلى المتطوعين؛ وكان الزعيم يعتذر عن فعلته بأن مخالفيه في الرأي هم بدءوا بإثارة الخلاف، ولكن عذره هذا سقيم لا يقبل ممن كانت له مثل مكانته ومثل ماضيه في الجهاد. . . ولعل مسلك مازيني يومئذ كان أكبر أخطاء حياته جميعاً.

وكتب إليه شارل ألبرت يدعوه أن يحث أتباعه الجمهوريين في شمال إيطاليا على الانضمام إلى القائلين هناك بالاندماج في بيدمنت وكانت قد بدأت تظهر لهؤلاء حركة قوية نحو هذا الغرض؛ وذكر الملك في خطابه إلى الزعيم الكبير أنه مستعد للقائه إذا قبل ذلك وعرض عليه أن يكون وزيره الأول وأن يكون له ما شاء من الرأي في وضع دستور تحكم به المملكة على أساس ديمقراطي.

ورد مازيني بأنه لن يرضى بغير الوحدة للإيطاليين جميعاً وما به حاجة إلى السلطة ولا نزوع إلى الجاه ونعيم الحياة لأن هذه أمور تصغر أمام غرضه الأسمى الذي تحمل في سبيله ما سلف من مصائب الحياة. . . ولم يرد الملك على الزعيم بعد ذلك فقد يئس من ضمه إليه.

ولا ريب أن إصرار مازيني على مبادئه وعدم التساهل فيها خلة من أبرز خلال الزعماء، بل هي عندي أكبر هاتيك الخلال وأهمها، وماذا يبقى للزعيم من زعامته إذا هو تهاون فيما يرى أنه الحق وفيما جاهد فيه جهاده؟

وما لبث أن تجمعت عوامل الهزيمة فأحاطت بجيش الإيطاليين فإن البابا بيوس التاسع ما لبث أن أعلن استنكاره رفع الحسام في وجه النمسا وهي من أكبر الدول الكاثوليكية؛ وقد أدى هذا إلى أن يسحب ملك بيدمنت جنوده من الميدان؛ كما أن الخلاف بين الزعماء قد فت في عضد المتطوعين فتخاذلوا ثم قعدوا وتركت بيدمنت وحدها تحارب جيوش النمسا. وما لبث شارل أن انهزم في كستوزا، فتراجع إلى ميلان وتبعته جنود النمسا إليها فسقطت في أيديهم بعد قتال شديد وانسحب منها شارل وجنوده.

وخرج مازيني من ميلان قبل أن يصل إليها جيش النمسا؛ وذهب يبحث عن المتطوعين من رجال غاريبلدي، وكان هذا المجاهد البطل قد أخذ بقسط من هذا الجهاد القائم، ولكن حماسة المتطوعين لم تغن عنهم شيئاً أمام تفوق النمسا في العدة والعدد فتفرقوا كما تفرق الجيش الرسمي، وتم للنمسا النصر على شمالي إيطاليا، ولحقت بالمجاهدين خيبة أخرى وكانوا من النصر على قاب قوسين. وحار مازيني ماذا يفعل وقد هده الإعياء وأحزنته الخيبة؛ ولكنه فكر في الذهاب إلى الولايات الوسطى ليدعو هناك إلى مبادئه الجمهورية على أساس الوحدة عسى أن يجد في القلوب بقية من العزم أو أثراً من الرجاء، وندم مازيني أشد الندم على أن لم يذهب إلى تلك الولايات الوسطى منذ قيام الحرب ليدعو أهلها إلى الجهاد القومي فتكون منهم قوة إلى جانب قوة الحرب الرسمية.

وكان البابا قد فر من أملاكه واعتصم بملك نابلي، فأمل مازيني أن ينشأ من أملاك البابا ومن ولاية تسكانيا وحدة على أساس جمهوري، وقد كاتب مازيني بعض الأحرار منذ أن فر البابا يدعوهم إلى ذلك، وبعد ذلك بنحو شهرين اتخذ طريقه إلى روما فبلغها في شهر مارس عام 1849 وكان ذوو الرأي من أهلها قد اجتمعوا في مجلس وأعلنوا أن مازيني من مواطني روما كما نادوا بالحكم الجمهوري وطلبوا من الزعيم أن يحضر إليهم.

وقد استقبل مازيني استقبالاً عظيماً في لجهورن وهو في طريقه إلى روما، ولاقى في روما من روعة الحفاوة به والتحمس لمبادئه ما أنساه مرارة العيش فيما مر به من الأيام.

واختاره أهل روما ومعه سافي وأرملليني نواباً عن الجمهورية فتكونت منهم حكومة ثلاثية، وجمعت أزمة الحكم في الحقيقة في يد مازيني فأخذ يتأهب لتحقيق مبادئه وسرعان ما أعد للجهاد عشرة آلاف من المجاهدين.

وعاش الرئيس الجديد عيشة في غاية البساطة؛ فكان يخفض جناحه للناس جميعاً، وكان لا يضع بينه وبن أحد حجاباً فبابه مفتوح لجميع من يريدون مقابلته لا فرق بين كبير وصغير؛ وهو في الحكم كما هو في حياته الشخصية مثال للنبل والنزاهة واللطف، أكبر همه أن يعتنق الناس مبادئه فيجعلوا وحدة إيطاليا قبلتهم التي لا يرضون غيرها.

وكان يحرص مازيني أشد الحرص أن تكون جمهوريته مثالاً يحتذى، وأن تكون في أسلوبها وروحها خير داعية إلى مبادئه، لذلك ضرب للناس أحسن الأمثلة في التسامح والعدالة وحب الخير للأهلين جميعاً؛ وكذلك رأى الناس من نشاطه وإقباله على عمله ما زادهم تعلقاً بشخصه وإيماناً بمبادئه.

ولكن هذه الجمهورية لم يقدر لها أن تعيش إذ ما لبثت أن جاءتها الضربة القاضية على يد دولة ما كانت ترجو منها الجمهورية الوليدة إلا العون، دوله طالما ترنم أهلها بالحرية وأشعلوا نيران الثورات في سبيل الحرية والديمقراطية، وأعلنوا أنهم أبداً على أهبة لتعضيد كل شعب يعمل على نيل حريته، وما كانت تلك الدولة إلا فرنسا التي قضت في أمسها القريب على الملكية، وأحلت محلها الجمهورية!

لم تتورع فرنسا عن توجيه حملة حربية لإسقاط الجمهورية في روما وهي بذلك ترتكب إثماً من أكبر آثام السياسة الدولية في العصور الحديثة، وكان ذلك الإثم مضاعفاً لصدوره عن فرنسا ذاتها، وإنما تكون الجريمة من أهل الشر جريمة فحسب؛ أما مجيئها على أيدي من يدعون أنهم أنصار الفضيلة ففيه معنى الجريمة ومعنى الفجور وخيبة الآمال جميعاً.

وأحاط جيش فرنسا بأسوار روما وحاول مازيني وغاريبلدي ومن انضم إليهما من الأحرار الدفاع عن المدينة، وكان مازيني يشخص بنفسه إلى مركز الدفاع، يأكل أكل الجند وينام نومهم ويبث فيهم روح الفداء؛ وجاء كثير من الناس من أنحاء إيطاليا للدفاع عن الجمهورية، ومنهم الملكيون ومنهم الأدباء والكتاب، ولكن المدينة لم تقو على الحصار، ولما رأى مازيني أنها واقعة في أيدي الأعداء لا محالة استقال من منصبه.

وصمم غاريبلدي ومعه ثلاثة آلاف من رجاله على المقاومة إلى النهاية، ودعا مازيني إلى ذلك، ولكن الزعيم رأى مالا يراه ذلك الجندي المتحمس فذهب إلى مرسيليا؛ ثم لم يلبث أن انتقل إلى سويسرا، ولكن الحكومة السويسرية ضاقت بوجوده في بلادها كما فعلت من قبل وهو في أولى سني جهاده، ولذلك اتخذ مازيني سبيله إلى إنجلترا وراح يستأنف العيش فيها من جديد. وعاد إلى القلم والقرطاس يكتب ليعيش مما يكسب ولينشر مبادئه مجاهداً بالقلم بعد أن فشل جهاده بالسيف، وكأنما صارت إنجلترا موطنه الثاني، فلقد استراح إلى العيش فيها وأحبها هذه المرة أكثر مما أحبها من قبل، وكثر في المدينة العظيمة أصدقاؤه من الإنجليز ومن الفرنسيين والإيطاليين، فكانت تخفف صداقة هؤلاء عنه آلام الغربة ومصائب الزمن، تلك المصائب التي ذاق كبراها عام 1852 بموت أمه التي ظلت حتى وفاتها تعطف أشد العطف على حركاته، وتتألم أشد الألم لما يلاقي في سبيل بلاده.

(البقية في العدد القادم)

الخفيف