مجلة الرسالة/العدد 335/من وراء المنظار
مجلة الرسالة/العدد 335/من وراء المنظار
بيني وبين كتبي
ضقت بالكتب حتى لأخشى أن ينقلب هذا الضيق قطيعة ليس بعدها صلة. والحق أني حائر في تعليل هذا الضيق الشديد، وأنا الذي ظل الكتاب زماناً مبعث أنسي وبهجتي، فلا أمله إذا قعدت، ولا أدعه إذا خرجت، كأنما كان صار ضرورة كالهواء الذي أتنفسه، فلا تقوم حياتي إلا به، أو كأنه على أقل تقدير بعض ملابسي فلا أستطيع أن أبرح منزلي إلا وهو معي، بل كثيراً ما خيل ألي رفاقي - كما حدثوني - أني أستغني عن أي شيء ولا أستغني عن الكتاب، وإن لم أفتحه فيما بينهم إلا دقائق معدودات.
أيكون مرد هذا الضيق إلى ما تبعثه طول الألفة من السأم؟ أم يكون مرده إلى أن الكتب وقد صارت عندي درساً وملهاة قد شغلتني من متع هذه الحياة؟. . . فأنا أصدف عنها كيلا أنسى نصيبي من الدنيا فأحرم من زينة الله التي أخرج لعباده؟. . . ولكنني لا أرتاح إلى هذا التعليل ولا إلى ذلك. ففي نفسي مما يبغض الكتب إلى نفسي ما هو أعظم خطراً مما ذكرت!. . فلقد أستحوذ على لبي خيال، لا أدري إن كنت فيه مخطئاً أم مصيباً: وهو أن الكتب على طول صحبتي لها لم تعلمني شيئاً مما ينبغي لي أن اعلمه عن هذه الحياة، ولا يزال هذا الخيال يوسوس إلي أني إن لبثت بعد ذلك بين كتبي، فمصيري أن ينقطع ما بيني وبين هذا الوجود. . . ولا تحمل أيها القارئ كلامي هذا على المبالغة أو المزاح، فلو شئت لجئتك بألف دليل على أن لي العذر على فيما أقول. وحسبك أن الكتب قد بنيت لي كثيراً من أصول الفضائل وقواعد الخلق؛ فلما أتيح لي أن أتبين ذلك في سلوك من أخالط من الناس، وجدتني في حيرة مما تقول الكتب، وأنكرت أكثر هؤلاء الناس وأنكروني، ولا شك أنهم رموني بالغفلة والحمق كما رميتهم بالضلال والسفه. وحسبك أن كثيراً من ذوي قرباى ومن خلاني الأدنين، قد سخروا مني أكثر من مرة سخراً كان ينال من نفسي بعض الأحيان، حتى لأهم بالغضب منهم والثورة عليهم؛ فهم يتهمونني بالغفلة إذا جادلتهم في أمر كما أرى ذلك في أعينهم، وكما تفسره لي ابتساماتهم التي يعلقون بها على كلامي إذا خشوا أن يسيئوا إلي بألفاظهم. وكان مما يريد تبرمي بهم انهم يظنون بي الحمق بينما أعتقد أنا وفق ما علمتني الكتب أنهم هم بما يبدون من آراء أكثر الحمقى. ولقد يصارحني من يجد نفسه في مأمن من غضبي - إما لكبر سنه، وإما لسمو مكانته عندي - أن عيبي الأساسي هو أني رجل خيال، أو بعبارة أصح رجل كتب لا أدري شيئاً مما تقوم عليه الحياة بين من يفهمون الحياة، وهو - كما ترى - سب ولكن على صورة (ذوقية) إن جاز اصطناع الذوق في السب، وإلا فما الفرق بين هذا وبين قولهم: إني جاهل غر مثلاً؟
وأكثر من ذلك لقد كان مرد كثير من أخطائي في معاملة من تربطني بهم صلة العمل الذي أكسب قوتي منه إلي جهلي بطباعهم، وأقل إلي جهلي بمبادئهم. ولطالما سبب لي ذلك كثيراً من العنت. . . فأنا على حق إذا تدبرت ما تقول الكتب، وأنا على باطل إذا قست ما يصدر عني بأقيستهم. وأنا لا أدري أأسير طوع الكتب فلا أفرغ من الخصام والحرب وإن أرحت ضميري بذلك، أم أسير وفق تعاليمهم فأكسب الهدوء والسلام. وكادت تقل ثقتي بنفسي لما رأيت شبه إجماع ممن أخالط على إنكار مسلكي، حتى لقد وقفت أحياناً أسأل نفسي: أأنا الغر حقاً، أم أنهم هم الإغفال الأغرار؟
لذلك طويت كتبي زمناً ورحت أتعلم مكر الناس لا لأمكر مكرهم، ولكن لآمن منهم فلا يكون سبب كثير من متاعبي. ونظرت من وراء منظاري ورحت أتدبر فزادتني هذه التجربة اعتقاداً بأن الكتب جنت علي بقدر ما قدمت من قواعدها إليّ. . .
وما لبثت أن رأيت منظاري يقع على كثير مما أصيب فيه الدرس، حتى لقد أصبحت أشبه نفسي بأولئك الفلاسفة الأقدمين الذين لم يأخذوا فلسفتهم من الكتب، وإنما أخذوها من الحياة!
وليت لي مثل بصير هؤلاء. . . إذاً لأفدت من العلم من وراء المنظار ما لم يأتيني من جميع ما في دار كتبنا العظيمة من كتب، ولكن لا ضير أن أنظر وأن أطيل النظر، وأن أدور بمنظاري هنا وهناك في المدينة وفي القرية، في القصر وفي الكوخ، في (الدواوين)، وفي الطرقات والمتاجر والمنتديات ودور اللهو، في الحقول على المصاطب وفي الأسواق، وفي غير ذلك جميعاً من نواحي هذا المضطرب الواسع، أو هذا المسرح الهائل الذي تمثل عليه الحياة. ولعل طول النظر وتنوعه يعوض على ما فاتني من العلم فيما تصرم من سني عمري بين أوراقي وكتبي
(شين)