انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 335/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 335/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 12 - 1939



دراسات في الفن:

اليد فاللسان فالقلب

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- أأنت الذي قطعت أوتار هذا العود هكذا؟

- نعم

- وتقول بكل وقاحة (نعم)؟! لم أعد أطيق معك صبراً!

- وبهذا أنذر الخضر موسى. ومع هذا فقد أصر موسى على صحبته. . .

- الخطر وموسى؟ إذن حكمة في هذا الخبل يا سيدي الخضر الثاني. . .

- من غير شك. فالمحروس أخوك الصغير خلقه الله معبداً بالغريزة والسليقة، وقد كان هنا طول الأمس، فلو أنه عثر على العود مشدود الأوتار لأبى إلا أن يطربنا ويشنف أسماعنا بنشيد (العنزة والضفدعة) وأغنية (الجحش النجيب)، وغير ذلك من محفوظاته الرائعة. . . فقطعت أوتار العود، ونجونا بذلك من الكرب

- أما كنت تستطيع أن تخفيه؟

- كان يستطيع أن يجده!

- فإذا وجدته أما كنت تستطيع أن تنهاه عن العزف؟

- بل كنت أستطيع أيضاً أن أدعه يعزف فلا أمنعه، ولا أنهاه، وإنما ادعوا الله في قرارة نفسي أن تنقلب أوتار العود ألغاماً فما يمسها حتى تنفجر في وجهه فنرتاح ويرتاح. . .

- يا حفيظ! ولماذا لم تفعل هذا يا سيدي الخضر فكنت ترينا كرامة من كراماتك؟

- لا يفعل هذا إلا من كان إيمانهم أضعف الإيمان

- الكرامات لا يفعلها إلا ضعفاء الإيمان؟ ما هذا؟ إنما الكرامات للأولياء. . .

- الكرامات للأولياء، وما أكرمه على الله عبده الذي يلهمه الصواب ويوفقه إلى فعله بيده. . . أتظنين أن هذا شيء يسير؟ هذه هي الكرامات، وأولياء الله هم الذين يفعلون الصواب ويقيمون الحق بأيديهم. . . والحق من الله. . .

- كنت أحسب للأولياء آيات

- إن لهم آيات. بل أن الذين أقل منهم آيات أيضاً. . . بل إن في كل الذين ترين وتسمعين من هذا الوجود آيات. . .

- ما هذا التناقض؟ تنكر عليهم الكرامات، وتشهد لهم بالآيات، بل تمضي فتشهد لمن هم دونهم بها. . . ثم تذوب آخر الأمر في هذا الوجود الذي لا يمكن أن نحصره فتقول إنه كله آيات في آيات، فما الذي تحب أن أفهمه من هذا كله؟

- إذا استطمت فافهميه كله، ولكي تفهميه كله اذكري الحديث الشريف من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فأن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان. واذكري إلى جانب هذا الحديث قصة الخضر وموسى، واذكري مع هذا وذاك أن القرآن يروي عن حوار دار بين الكفار وبين النبي (ص) طلب فيه الكفار منه آيات ومعجزات فأوحى إليه الحق الجبار أن يقول لهم إن الوجود ملؤه الآيات والمعجزات. وأعذريني إذا كنت لا أحفظ نصوص الآيات فقد استعصى عليَّ الحفظ بفضل الطرق التي كانوا يحفظوننا بها في المدارس. . .

- إني أذكر هذه الآيات ولكني مع هذا لا أستطيع أن أخلص من جمعها إلى الحديث الذي ذكرته، وإلى قصة الخضر بشيء مما تريدني أن أخلص به. . .

- هذه هي عادتك. . . فلو كان ما نناقشه حسبة فستان وروائح ومساحيق لخلصت منها كالجن بالذي تريدين. . . وأكثر! لا بأس فلنبدأ معاً. . . أنت تعلمين أن كل ما في هذا الوجود يتبع في حياته قانوناً خاصاً به. وأنه لو حاد عن هذا القانون أختل وأضطرب وفسد وقد يفقد الحياة. وأنت تعلمين إلى جانب هذا أن كل القوانين التي تخضع لها كل الخلائق لها هي أيضاً قانون تخضع له هو قانون التطور والارتقاء الناهض إلى الكمال والموصل إلى الله وأسمه الآخر، تباركت أسماءه. والخلائق متنوعة: منها ما يبدوا لنا بإدراك، ومنها ما لا يبدو له إدراك، ومن الخلائق التي لها إدراك الإنسان، وله إلى جانب الإدراك أو بهذا الإدراك إحساس وإرادة وعقل، ثم إن له آخر الأمر قدره على الإنتاج. وحياة الموجودات في مجموعها حين تنزع إلى الارتقاء والكمال لا تزحف بالتساوي ولا تتماسك في صف واحد، والذي صنع بها هذا هو تشابك القوانين المؤثرة فيها وتعقدها وتكاثر الظروف الفعالة فيها وتباين أصولها وأتجاهاتها، وهذا التشابك وهذا التعقد وهذا التكاثر وهذا التباين. . . كل هذه حين تتفاعل تغلي بالوجود غلياناً، وفي هذا الغليان تتناثر بعض الموجودات فتخرج عن محيط أخواتها متطايرة متطيرة، فأقوى ما في الموجودات هو الذي يستطيع أن يرد هذه الشاذة إلى مرجل الحياة بالدفع أو بالجذب، وأقل قوة من هذا هو الذي يدعوها بالكلام عسى أن تقتنع أو تعود إذا كانت مما يفهم الكلام. . . والأقل قوة من هذين هو الذي ينظر إلى هذه الشاذة نظرة العارف بمروقها والآسف لهذا المروق والراغب في عودتها، والعاجز عن إعادتها بالفعل أو القول. وهذا الذي وصفه النبي (ص) بأنه أضعف الإيمان، وليس الإيمان - كما لعله وضح - إلا الخضوع بالرضى لقوانين الحياة الساعية إلى الله، ومن أقوى هذا الخضوع ما لم يشبه التردد وما صاحبه الإدراك، كخضوع الخضر، ومن أضعفه الخضوع الذي لا إدراك فيه وهو خضوع الجماد والتراب، وبين هذا وذاك درجات للإيمان.

- والآيات. . .؟

- الآيات هي البراعة في هذا الإيمان. . . إن في تتابع الليل والنهار آية، لأن هذا التتابع بارع، فهو ماض منذ كان إلى ما شاء الله لم يضطرب يوماً ولم يتأخر يوماً، ولم يحدث أن تعاقب نهاران أو تلاحقت ثلاث ليال من غير أن يتوسطها نهاران.

- في القطب يطول النهار شهوراً. . .

- نحن نتحدث في التتابع لا في الطول والقصر فلهذين قانون آخر هو أيضاً آية لأنه أيضاً بارع

- طيب. . .

- وكما أن للشمس والقمر براعة في إيمانهما تحتم أن يكون للناس براعة في إيمانهم ما دام الناس هم أشرف المخلوقات. وقد حدث هذا. فإن من الناس من هم بارعون في إيمانهم براعة هي آية. . . فالخضر الذي ثقب سفينة الفقراء لينقذها من اغتصاب الحاكم الطاغية الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً إذا أعجبته، ولا تعجبه المثقوبة، كان في عمله هذا من أولياء الله، أي من ملازمي الحق، أي من الناس البارعين في خضوعهم لقوانين الحياة الصحيحة التي كان جديراً بالأفراد جميعاً أن يتبعوها فلا يعتدي منهم إنسان على ملك إنسان، أو على جهد الإنسان، والخضر - فيما يروي كتاب الله - كانت له أفعال كثيرة كهذه، وعلل بعضها لموسى حين ألح في سؤاله إياه عنها، وهذا التعليل يدل على أنه كان يستطيع التمييز بين الخلائق والحوادث المنتظمة في النهج الصحيح للحياة - أو بعض ذلك - وبين الخلائق والحوادث الأخرى التي تشذ عن هذا النهج الصحيح - أو بعض ذلك - وبراعة الإيمان في الخضر ليست هي مجرد الإحساس بهذا وإدراكه، وإنما براعة إيمانه في أنه يرد الحق إلى نصابه. . . وهذا فعلاً هو الأمر الجلل الذي لا يستطيعه كل إنسان. . . فنحن في كل يوم نرى عيوباً وشذوذاً عن الحق يصاب بها الناس وتصاب بها الأشياء، ولكن أكثرنا يتشاغل عنها بشئونه هو كأن شئونه لا تتصل بشئون الكون. وقليلاً جداً من الناس هم الذين يلفتون الناس بالكلام أو بوسائل أخرى من وسائل التنبيه تشبه الكلام إلى هذه العيوب ويطلبون منهم أن يصلحوها، وهؤلاء هم الفنانون فهم أيضاً من ملتزمي الحق أي من أولياء الله، ولكنهم ليسوا كالخضر إيماناً ولو كانوا مثله لتحولت فنونهم هذه إلى أفعال يؤدونها بأيديهم؛ فيقيمون بها الحق ويقومون بها المعوج بدلاً من الكلام وما يشبه الكلام، ولكنهم على أي حال أقوى إيماناً ممن لا يفعلون ولا يقولون وإنما ينظرون ويدركون ويأسفون ويعجزون. . . وحتى هؤلاء أصلح حالاً مما ينظرون فلا يدركون، ولا يأسفون ولا يحزنون!. . . وما أسعد الجمهور من الناس الذي يتولى أمره نفر من هؤلاء المؤمنين، أولئك الذين يقومون العوج بأيديهم. . .

- وما حال الجمهور الذي يتولى أمره الفنانون؟

- الفنانون فيهم عيب، وهو أنهم يقولون ما لا يفعلون. . . وقد وصف القرآن الشعراء بهذا. . .

- هذا صحيح، ولكن لماذا؟

- ألم نقل إن درجات الإيمان تختلف في الخلائق، وأن اختلافها يظهر في مدى خضوعها لقوانين الحياة المرتقية إلى الكمال بمظهر القوة على رد غيرها إلى مرجل الحق بالدفع أو الجذب، ثم بعد ذلك بالنداء أو الكلام ثم بعد ذلك بالأسف. . . إلى آخر هذا الذي قلناه

- هيه. . .

- الفنانون إيمانهم من الدرجة الثانية أو ينتجون من الفنون ما يشبه القول، وتنظرين بعد ذلك إلى أعمالهم فترين فيها ما قد يتناقض مع أقوالهم. . .

- أو لا يستطيعون أن يصلحوا من أنفسهم؟

- يستطيعون. . . فالله لا يمنع الرقي عمن أراد، وقد علمنا في القرآن وفي الإنجيل وفي التوراة أن نناديه وأن نطلب منه الهداية إلى الطريق المستقيم، وليس هذا الذي علمنا إياه عبثاً، وهو لم يقل لنا: (أدعوني أستجب لكم)، وفي نفسه ألا يستجيب. . . إنما هو الرحمن يريد أن يستجيب، ويطلب منا أن ندعوه ليستجيب. . . ففي يد كل إنسان إذن أن يطلب من الله ما يريد على أن يكون الذي يريده شيئاً مما يعطيه الله الذي هو الحق والذي هو الرحمن والذي هو العادل، والذي هو الهادي. . . فالهداية إذن بابها مفتوح. . . إنما علينا أن نطلبها. . .

- علمني كيف أطلبها لعل الله يهديني فأكون من أولياء الله الصالحين. . .

- أظن ذلك يكون بأن تعدي لها نفسك أولاً. . . أنت تريدين أن تهتدي للحق، فمهدي نفسك للحق. . . ثم اعرفي الحق ثم ابذريه في نفسك، ثم تعهديه بالحفظ والصون، ثم غذيه واسقيه حقاً وحقاً. . . عندئذ لا بد أن يثمر الحق في نفسه حقاً هو أزهى الحق وأزكى الحق. . . وسترين نفسك بعد ذلك، وتقولين الحق كما يفعل الفنانون، ثم إذا رضي الله عنك رأيت نفسك تفعلين الحق بيدك كما يفعله أولياء الله الصالحون رضي الله عنهم. . . أظن أن هذا هو الطريق. . . بل إنه الطريق

- فلماذا لا يمضي الفنانون في طريقهم هذا إلى نهايته؟ ما دام يستطيعون؟

- لعل إعجابهم ببراعتهم في إيمانهم يستهويهم.

- هذا الإيمان الشفوي الذي لا غناء فيه، والذي لعنهم القرآن من أجله. . .

- ليس إيمان الفنانون شفوياً يا هذا، وإن القرآن لم يلعنهم يا تلك. . . بل إن القرآن وصفهم بأنهم يقولون ما لا يفعلون وهذا حق لأنهم هكذا، وقال عنهم القرآن إنهم يتبعهم الغاوون وهم الذين يستهويهم كلام الشعراء وفنون غيرهم من الفنانين، ويهيمون ورائهم في دنيا كلها خيال تريد الكمال ولكنها لا تطلب الكمال إلا بالكلام، بينما الكلام لا يحقق هذا الكمال، وإنما تحققه الأفعال. . . فالفنانون هم حقاً لا ينتجون إصلاحاً. . . ولكن دعوتهم إلى الإصلاح والكمال لا بد أن تصادف مؤمناً ممن يستطيعون أن يفعلوا بأيديهم فيحقق بهذا الإيمان الذي يستقيه منهم وبإيمانه الذي يهديه إليه الله. . . ذلك الكمال أو جانباً مما كانوا ينشدون. . . وحين وصف القرآن الشعراء بهذا الوصف الذي لا شك أن فيه كثيراً من التعبير كان الإسلام في حاجة إلى الذين يبذلون الأرواح والأجسام في تقويمه وتثبيته، ولم يكن في حاجة إلى من يقول شيئاً، لأن الله عندئذ كان هو الذي يقول. . .

- أذن فليسوا الآن ضالين. . .

- ولم يكونوا يوماً ضالين ما استوحوا الحق فنونهم، وإنما كان على أنوارهم أن تسجد لنور الله حين تجلى الله بنوره على محمد سيد العالمين. . .

- ولكن دفاعك هذا كله عنهم لا يزال عاجزاً عن رفع إيمانهم منزلة على الإيمان الشفوي كما أقول. . .

- أعوذ بالله منك ومن اللوغاريتمات. . . إن لإيمانهم هذا المظهر الشفوي الذي تقولين عنه لأن تعبيرهم عن هذا الإيمان يكون بالكلام، أو ما يشبه الكلام، ولكن إيمانهم نفسه ليس كلاماً ولا شيئاً يشبه الكلام. وإنما هو إحساس وفهم وإدراك وتمييز واهتداء إلى الحق. هم يشعرون بأنفسهم، ويشعرون بما يحيط بهم، ويشعرون بالحق في بعض هذا، وبالشذوذ عن الحق في بعضه، وهم يشعرون بالحق واتباعه خير من الشذوذ، فيرجوا أن يحدث هذا الحق، ويتصورون أنه قد حدث فعله لأنهم يستطيعون بعقولهم أن يرتبوا النتائج على المقدمات، ومتى اهتدوا إلى علاج للعيب الذي يرونه فإن أنفسهم تخيل إليهم أن هذا العلاج قد تم بالفعل وأن الخلائق قد صلحت بعد ذلك واتبعت قوانين الحياة الصحيحة. . . وهم يصفون هذا كله بفنونهم: يصفون رجاءهم، ويصفون علاجهم، ويصفون آثار هذا العلاج ويصفون قبل هذا وذاك الأشياء التي يرونها على ما هي عليه بما فيها من خير وما فيها من شر. . . ولوا أنهم عدلوا عن هذا الوصف إلى الإصلاح باليد لما قلت عنهم أن إيمانهم شفوي، وإنما الذي يسحبك إلى هذا المغالطة هو المظهر الشفوي لإيمانهم. وحرام عليك هذه القسوة

- ولكن من الفنانين عابثين، وإن منهم داعرين. . .

- ليس هؤلاء فنانين، وإنما هم حيوانات يتفننون.

عزيز أحمد فهمي