انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 334/رسالة العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 334/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 11 - 1939



لحظات الإلهام في تاريخ العلم

بقلم مريون فلورنس لانسنغ

اختراع الألوان

تتعلق قصتنا التالية بالعصور الحديثة فقد حدثت في المائة والخمسة والسبعين عاماً الأخيرة. لكنه للوصول إلى مصدر هذه القصة يجب أن نعبر جسراً ضيقاً من الزمن يمتد إلى ألف عام

وكان في خلال هذه المدة فنان يتدرجان في سبيل التطور كلاهما يصلح للاستخدام في تهيئة الثياب للحالة التي هي عليها اليوم

أما أحد الفنيين فهو فن الصناعات الآلية فإن اختراع الآلات الميكانيكية في القرن الثامن عشر قد أفسح المجال للحذق في فن النسيج. وإذا أردنا أن نحدد تاريخ بدايات العهود لصناعة القماش وجدنا أنه من فجر التاريخ أي في القرن الرابع عشر قبل الميلاد كانت عناصر النسيج في كل العالم بسيطة أولية هي المغزل بأنواعه ومنها المغزل الصيني للحرير والمغزل الهندي للقطن. ولم يكن أهل القرون الوسطى في أوربا قادرين على إحداث تغيير عملي كبير في صنع ألوانهم

فظل النسيج إلى منتصف القرن الثامن عشر على طريقته القديمة طريقة عجل النسج والنول الذي يدار باليد. وكان هذان العنصران هما كل ما لدى الغزالين والنساجين في إنكلترا من أدوات هذه الصناعة. لكن الناس كانوا قد بدءوا يسائلون أنفسهم: أليس من الممكن اختراع وسيلة يمكن بها أن تظل عجلة النسيج دائرة وأن تظل الوشيعة (المكوك) تتحرك فيصبح النسج أسهل مما كان بواسطة اليدين؟

وكان أحد الضباط البحريين في فرنسا في القرن السابق واسمه (دي جانس) قد اخترع آلة لصنع الأقشمة التيلية لا تحتاج إدارتها إلى عامل ولكن فكرته في الاختراع لم تنجح عملياً. وفي سنة 1733 اخترع جون كاي في مدينة بوري في مقاطعة لانشستر نوعاً جديداً من الوشائع وقد سمي باسم (مكوك الذبابة) لسرعته في الحركة سرعة خارقة للعاد وبعد اثني عشر عاماً صنع بالاشتراك مع جوزيف ستيل نولاً وصفه بأنه (يشتغل باليد أو بالماء أو بأية قوة أخرى) وكانت لحظة أحق بالذكر في تاريخ العلم الصناعي تلك اللحظة التي جاءت في سنة 1764 إذ اخترع (جيمز هارجزيفر) دولابا. وهو نساج يشتغل على النول وهو في الوقت ذاته نجار. وكان يقيم في بلاكبيرن. وقد قبل أن الفكرة قد أُوحى إليه بها عندما رأى عجلة المغزل يقلبها أحد أبنائه فرأى عند ذلك أنها استمرت تدور أفقية وأن المغزل ظل يدور عمودياً

وبواسطة هذا الدولاب صار في الإمكان غزل عشرين أو ثلاثين خيطاً في وقت واحد بنفس السرعة وبنفس السهولة التي يغزل بها خيط واحد

ولما عرفت هذه الحقيقة لدى زملاء هاجريفز انزعجوا خشية أن تكون نتيجة الاختراع تخفيض أجورهم وكثرة العاطلين بينهم فهاجموا بيت المخترع في أحد الأيام وأتلفوا جهازه

وكانت الخيوط التي يخرجها النول قبل أن يبدأ النساج عمله تعرف باسم السدى. أما الخيوط التي يخرجها المكوك فتعرف باسم (اللُحمة) لكن الخيوط التي يخرجها دولاب الغزل كانت كلها من نوع اللحمة فليست متينة ولا قوية مثل السدى الذي يمتاز بالطول وبالقوة

وجاءت لحظة أخرى من اللحظات العظيمة في تاريخ الصناعة عندما قدر أن يؤثر رجل آخر في حياة الملايين من زملائه، وهذه هي قصة صبي الحلاق الذي مات وهو حامل للقب ورتبة فارس وأصبح من كبار الأغنياء

كان رتشارد اركرايت (1732 - 1792) أصغر الأبناء في أسرة عدد أبنائها ثلاثة عشر. وكان أبواه فقيرين فلم يستطيعا تعليمه إلا إلى الحد التافه فاشتغل رتشارد صبياً لحلاق؛ فلما بلغ العشرين من العمر أنشأ لنفسه حانوت حلاق في بولتون ولم يكتف بأن يحلق لعملائه، ويمشط لهم الشعر المستعار بل كان يبيعهم شعوراً مستعارة مصبوغة على طريقة ابتكرها. وبهذه الوسيلة أدرك ثروة وصار في وسعه بعد ذلك أن يترك حرفة الحلاقة، وأن تنصرف عنايته إلى غزل القطن، وكان قد اهتم جد الاهتمام بدولاب الغزل فأخذ يجري تجاريبه ليعرف هل في وسعه أن ينشئ دولاباً من هذا النوع يخرج خيوطاً قوية تصلح للسدى، وقد استعان برجل اسمه جون كاي (وهو غير جون كاي مخترع المكوك السريع وربما كان من أقاربه) فصنعا دولاباً كان لأول مرة في تاريخ النسيج يخرج الخيوط القوية اللازمة بطريقة آلية

وكان أول مصنع أنشأه اكرابت في نوتنجهام سنة 1768 وكان يديره بواسطة الخيل. وبعد ثلاثة أعوام أنشأ مصنعاً في كروفورد في دربشابر، وكان يدار بالماء. وقد تعرض أيضاً لسخط الجماهير وتحطمت مصانعه أكثر من مرة بسبب غضب الجماهير

ولكنه عاش العمر الكافي للانتصار على كل المصاعب ولإنشاء مصنع بخاري للنسيج في نوتنجهام سنة 1790

وجاءت لحظة أخرى من اللحظات العظيمة في تاريخ الصناعة وهي قصة قسيس أديب هادئ هو الأب أدموند كارترايت وقد تغير كل نظام حياته بسبب زيارة زارها لمصانع السير رتشارد اركرايت

اخترع هذا القسيس في سنة 1785 نولاً آلياً كان على الرغم من كل عيوبه بشيراً بالنول الذي يستعمل اليوم. واشتد به التحمس للفكرة فأنشأ مصنعاً في دونكاستر وآخر في مانشستر، ولكن الرعاع المتسخطين الذين يرون في هذه المعامل عدوّاً لهم قد حطموها

على أن كاراترايت استمر على خطته وتحول من القطن إلى الصوف وعكف على دراسة مباحث وتجاريب كان يجريها مهندس أرلندي متأمرك اسمه روبرت فولتون، وهو أول من أدخل قوة البخار في الملاحة

ومع أن اختراعات كارترايت لم تعد عليه شخصّياً بالنفع الطائل فانه لم يمت قليل الاعتبار ككثيرين من المخترعين لأن البرلمان كافأه بمبلغ (10. 000) جنيه في سنة 1809

وآخر قصة نرويها هنا عن تطور الصناعة الآلية لنسيج القطن والصوف في إنكلترا هي قصة العازف على الكمان الذي استكشف طريقة جديدة لصنع القماش. وهو من أهل لانكشاير مثل هارجريفز اركرايت وهو مثلهما من الأوساط الوضيعة

اسم هذا الرجل صموئيل كرمبتون وقد ولد في فايروود بالقرب من (بولتوف أن ذي مورز) في سنة 1753 وقد مات أبوه وهو طفل؛ وكانت أمه الأرملة تشتغل بالغزل فساعدها على ذلك

وبعد قليل اشتغل عازفاً على الكمان في مسرح بولتون. وكان يقسم وقته بين العزف وبين الغزل. وكان يغيظه أن الغزل الذي يصنعه تتهدل أطرافه وخطر له أنه قد يستطيع تحسين عمله على طريقة دولاب هارجريفز فيمتنع هذا التهدل. واستمر خمسة أعوام يعمل على هذا التحسين. وفي نهاية هذه المدة اخترع آلة تغزل خيوطاً رقيقة ناعمة تصلح لنسيج الشاش

أراد أصحاب المناسج أن يعرفوا سره فحاصروا منزله ولما كان المبدأ الذي بني عليه عمله في نهاية البساطة بحيث يستطيع أي خبير بالصناعة أن يعرفه في لحظة فإن هذا المخترع المسكين قد اضطر إلى استئجار حرس حول المنزل طول الليل والنهار، وأخيراً أفشى سره لأحد أصحاب المصانع في بولتون. ومما يدعو إلى الأسف أنه لم يكافئه المكافأة التي وعده بها

وأطلق في إنكلترا وفي إبقوسيا على تلك الآلة اسم بغلة النسيج. وتشجع كرمبتون بما بذله البرلمان الإنكليزي من المكافأة لكارترايت، فاستجمع الأدلة على كثرة ما استُعمل من الآلة التي اخترعها في أنحاء البلاد، وطلب معونة الدولة فمنحه البرلمان ما يعدل نصف المكافأة التي منحها زميله المخترع القسيس وعاد كرمبتون المسكين إلى بولتون وهو يشعر بالخيبة والمضاضة

من الاستكشافات التي استكشفها هؤلاء الأربعة الحاذقون الموهوبون نشأت المراكز الصناعية للصوف والقطن في لانكشاير ويوركشاير وإبقوسيا، وأصبحت هذه اللحظات الهامة في أعمارهم حلقات في سلسلة متصلة في صناعة النسيج الآلي تربط مصانع اليوم بالغزل والطارة اللذين كانا يستعملان في أقدم العصور

وكان على الكيميائي أن يشترك بقسطه الوافر في صناعة القماش، فنشأ كيميائي في السابعة عشرة من العمر كان يشتغل في لندن، واستكشف في سنة 1856 استكشافاً يستحق أن بعد أوانه من اللحظات العظيمة العلمية في تاريخ العالم الحديث

ومن الغريب أنه بينا كان التقدم مطرداً في غزل الأقمشة العظيمة ونسجها كان فن الصناعة يكاد يكون من الوجهة العلمية واقفاً تمام الوقوف

كانت المواد النباتية مثل النيلة والفوة والمواد العشبية كحشيشة البحر والمواد الحيوانية كدودة القرمز والمعدنية مثل الدارصيني، كانت هذه المواد التي تستعمل في الصناعة إلى أن انقضى عهد ليس بالقصير من القرن التاسع عشر، وبهذه المواد المحدودة الناقصة التأثير كان النساجون في أوربا يلونون منسوجاتهم تلويناً بديعاً كما نرى في الحرير والشيت والقماش المطبوع الذي يوجد الكثير منه في المتاحف

ولكن لم يظهر إلى ذلك العهد ذهن عبقري من المخترعين يكشف أن مزج مادتين كيميائيتين يمكن أن يؤدي إلى استخراج ألوان كثيرة أخرى.

(يتبع)

ع. ا