انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 332/من هنا ومن هناك

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 332/من هنا ومن هناك

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 11 - 1939



الحيلة في تقليد السياسة الألمانية

(عن (ذي ايفننج استاندر))

للسياسة الألمانية طرائق وأساليب قلَّ أن يعتريها التغيير وإن تغير

الجيل واختلفت العصور. وقد مر سبعون عاماً منذ اعتزم بسمارك

محاربة فرنسا، مدفوعاً بفكرة ضم الولايات الألمانية المتحالفة التي

حازتها ألمانيا، نتيجة لحروبها السابقة التي وضع خطتها بعناية

وإتقان. وكان بسمارك يطمع في تقوية مركز بروسيا للسيطرة على

هذه الولايات. فأشعل نيران الحرب في أوربا من أجل هذه الأسباب

التي تتعلق بسياسة ألمانيا الداخلية.

وقد كتب الكثيرون في موقفه هذا والطريق التي سلكها لتحقيق بغيته، ولكن تلك القصة العجيبة مازالت قابلة لأن تعاد. كانت أسبانيا تقطع مرحلة من مراحل السلام والهدوء فأظهرت حاجتها إلى حاكم عادل يسوس أمورها. فعرضت عرشها على أمير من أسرة (هوهنزلرن). ومن الجلي أن الفرنسيين لا يرحبون بفكرة مثل هذه الفكرة ولا يسمحون بتحقيقها، إذ أنها تبيح لأسرة واحدة أن تحكم على الرين والبرانس.

فلاقى بسمارك صعوبة في تحقيق مطلبه - لا من ناحية الفرنسيين الذين لم يكن يعبأ بهم - ولكن من ناحية (سيك) ملك بروسيا الذي يقول عنه في مذكراته: (لقد كان رجلاً في الثالثة والسبعين من عمره محباً للسلام، فلم يشأ أن يخاطر بأكاليل النصر التي نالها في حرب عام 1866. ويشير بسمارك هنا إلى الفوز الذي أحرزته بروسيا على أوستريا عام 1866 في حرب قصيرة المدى.

فلما رأى الملك المعمر أن حرباً أوربية توشك أن تقع من جراء قبول أحد أقربائه عرش أسبانيا، اعتزم أن يمنعه. فما كاد يصل احتجاج فرنسا إلى يده حتى استدعى (البرنس ليوبولد أوف هوهنزلرن) وما زال به حتى رفض ما عرض عليه. ورأى بسمارك أ الأمر قد انتهى عند هذا الحد، وأنه لا يجد أمامه ما يحارب من أجله فانتهز فرصة غياب الملك للاستشفاء بمياه أحد الأنهار وأخذ يدبر الحيل لإثارة الحرب. وبينما هو والكونت مولتكي وفون ردن القائدان الألمانيان يتناولان العشاء ويتباحثان في شؤون الحرب، إذ وردت برقية من سفير فرنسا يطلب على لسان حكومته بعض تأكيدات في موضوع عرش أسبانيا، فرأى بسمارك أن الفرصة سانحة للتدبير لبغيته، فأدخل بضع كلمات على برقية السفير الفرنسي، ثم التفت ذات اليمين وذات اليسار إلى القائدين الألمانيين متسائلاً عن مبلغ استعدادهما للحرب فأجاباه بما يؤيد رغبته. فلما أطلع المليك على الرسالة الفرنسية اعتبر ما فيها حاطاً للكرامة، ورفضها رفضاً باتاً. ثم أمر أن يمنع سفير فرنسا من المثول في حضرته. وقد كان بسمارك قد أعد اللازم لظهور هذه الرسالة في الصحف الألمانية في اليوم التالي، ومن ثم أعلنت الحرب بين فرنسا وبروسيا. إنها لصورة خبيثة بالغة حد البشاعة تلك الصورة التي ظهر بها هؤلاء الشيوخ الثلاثة وهم يتجرعون كئوس الخمر ويهنئ بعضهم بعضاً لنجاحهم في إشعال الحرب بين هاتين الأمتين العظيمتين.

ليس من الصعب علينا بعد هذا أن نتصور موقفاً مشابهاً لهذا الموقف فيما حدث في أوربا منذ أسابيع، إذ قامت تلك العصابة المتعطشة إلى سفك الدماء بوضع شروطها الستة عشر التي بنت عليها إنذارها النهائي لبولندا بحيث لم تطلع عليها بولندا نفسها أو الحلفاء إلا بعد فوات الوقت اللازم للرد عليها.

ففوجئ الناس بخبر الحرب ليلة 31 أغسطس عن طريق الإذاعة الألمانية دون مقدمات سابقة. ولكن الأمر تبين بجلاء في خطاب رئيس الوزارة الإنجليزية بعد ظهر اليوم التالي، فتحولت الدهشة إلى احتقار واشمئزاز.

إن ريبنتروب يحاول أن يقلد بسمارك في أحاييله السياسية. ولكن كم من الفروق الشاسعة بين تلك الشخصيات التي بنت مجد الإمبراطورية وتلك التي تذهب بمجدها إلى الهاوية.

أما هتلر فقد عقد نيته على الحرب سنة 1939 كما فعل بسمارك سنة 1870. وقد نستطيع أن نقول: إن ذاك الأرستقراطي البروسي لا يختلف على وجه العموم عن ذلك النقاش الآستوري، فكلاهما على استعداد لإزهاق ما لا يعد ولا يحصى من النفوس البشرية في سبيل المطامع الشخصية.

ألا إن بسمارك كان أكثر تهذيباً وأنضج عقلاً، فقد كان يعرف من أين يبتدئ والى أين ينتهي.

عصبة الأمم ما لها وما عليها

(عن (فيتال سبيتسن))

اختلف الكثيرون في الرأي حول عصبة الأمم فمن قال، إنها أخفقت في تحقيق مهمتها، وقائل أنها نجحت في هذه المهمة، فأي الرأيين الصواب؟

إن أعمال عصبة الأمم في العشرين سنة التي انسلخت منذ ظهورها كثيرة الشعب متعددة الألوان. ويحسن بنا أن نشبهها بمجموعة من الخيطان بعضها أبيض اللون والبعض الآخر أسوده. فالألوان البيضاء تمثل الأعمال التي أدتها العصبة بنجاح في جنيف، والألوان السوداء وهي لاشك أقل عدداً من الأولى - تذكرنا بالأعمال التي أخفقت فيها.

فمن الواجب إذن أن نعترف بأن عصبة الأمم نجحت نجاحاً محققاً في كثير من الشؤون، ومن الواجب كذلك أن نصرح بأنها أخفقت في بعضها.

لقد نجحت عصبة الأمم في عقد اجتماعات دورية في جنيف يحضرها خمسون عضواً يمثلون خمسين حكومة من حكومات العالم. وقد بدأت أعمالها باثنين وأربعين عضواً ممثلين لحكوماتهم، ووصل هذا العدد إلى ستين في وقت من الأوقات. ويبلغ عدد الدول الممثلة في عصبة الأمم الآن خمسين دولة، وهذا العدد يدل على اتجاه الغالبية العظمى التي تؤيدها بين أمم العالم. إذ لا يزيد عدد الدول المعترف بها في العالم اليوم على خمس وستين.

وبعد سنتين من قيام عصبة الأمم أنشأت محكمة العدل الدولية في لاهاي وهذه المحكمة تفصل فيما يقع بين الأمم من المنازعات والخلافات القانونية. وهي مفتوحة الأبواب دائماً لكل دولة تريد الاحتكام إليها. وقد بلغ عدد القضايا التي فصلت فيها هذه المحكمة سبعين قضية.

أما فيما يتعلق بالقضايا الناشئة عن التغييرات الطارئة على مراكز بعض الدول وما يستدعيه ذلك من إعادة النظر في كثير من الحقوق التي تدعو إليها الضرورة فقد توسطت عصبة الأمم منذ سنة 1920 في أربعين مسألة فصلت في ثلاثين منها فصلاً تاماً. وقد قامت عصبة الأمم خارجاً عن ميدان السياسة بكثير من جلائل الأعمال، كمنع تجارة الرقيق الأبيض ومحاربة الأفيون وغيره من العقاقير الضارة وتسهيل المواصلات بين بعض الأمم، وإيواء المهاجرين، وتبادل السكان بين اليونان وتركيا وبلغاريا، والنظر في شؤون الصحة العامة وحماية الطفولة، وتحقيق مصالح العمال.

ومما لا شك فيه أن عصبة الأمم قد ضربت المثل الأعلى في عقيدة التعاون وضرورتها بين الأمم والأفراد.

أما ما يؤخذ على العصبة فعدم نجاحها في منع التسلح الحربي والاقتصادي بين الأمم وإخفاقها في إيقاف الحرب في منشوريا سنة 1931 وفي جنوب أمريكا سنة 1933 وفي الحبشة سنة 1935 وفي إسبانيا واستريا وتشيكوسلوفاكيا وبولنده في السنتين الأخيرتين. إلا أن هذه المنازعات المفاجئة كانت مبنية على مطامع بعض الدول في امتلاك أرض الغير، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تتهرب من التحكيم، وتقضي على كل مجهود يبذل في سبيل التوفيق.