مجلة الرسالة/العدد 330/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 330/رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
بقلم مريون فلورنس لانسنغ
قصة العجلة
أبونا النيل - الريح والتيار
كان الإنسان الهمجي لا يضع على جسده ستراً سوى جلد الحيوان، وكان إما دافعاً صخرة أكبر من أن يستطيع حملها وإما حاملاً عبئاً ينوء بحمله - هذه أول صورة نتخيلها للرجل القديم أثناء مزاولته عمله
ما أضأل وما أعيى ما يبدو لنا الإنسان الأول عندما نتصوره واقفاً بالعراء وليس لماضيه تاريخ يفيد منه وليس له إلا جسمه القوي وإلا مواهبه الذهنية التي عليه أن يقهر بها الدنيا ويخضعها له! وكان لا بد له من قهرها لأنه إذا لم يحصل على الطعام والمأوى والدفء فإنه ميت لا محالة
إن الدنيا حافلة بالكنوز التي فيها وسائل نعمته وراحته. ولكن كيف يستطيع ذلك؟ لم يكن لديه مفتاح تلك الكنوز ولا لديه المرشد لمصادرها، ولا غرابة في أن يكون بطيئاً في الوصول إلى شيء ما وإنما الغرابة في سرعته - على الرغم من قلة التجريب ذهنياً ويدوياً - في الوصول إلى أشياء يقضى بها حاجياته
يقف الرجل الهمجي أمام عبء أثقل مما يستطيع حمله كما تصورناه في بداية المقال، وليس لديه من الآلات إلا أجزاء جسمه وليس يستطيع السفر إلا إلى حيث تستطيع قدماه حمله ولا يحمل إلا ما تقوى ذراعاه على رفعه ولا يدفع إلا ما يندفع أمامه. هذه صخرة أمامه وهاهو ذا لا يستطيع أن يحركها
ربما وجد هذا الإنسان القديم غصناً ساقطاً من شجرة فوضع طرفه عند تلك الصخرة ودفعه فوجد الصخرة تتحرك. . . إن حدث ذلك فإن دهشة ستعروه وسيجرب غصناً قصيراً فلا يجد له فائدة وسيجرب غصناً أطول فيجد فائدته أكبر. وإذا صادف وجود صخرة أصغر من الأولى على مقربة منها ووضع الغصن فوقها ووضع طرفها تحت الصخرة الكبيرة فقد يجد أنه يستطيع رفع تلك الصخرة عن موضعها بإحداث ثقل من جسمه على الطرف الآخر من الغصن دون أن يحمَّل عضلاته مشقة الدفع والرفع
إن فعل ذلك فإنه يخطو خطوة عظيمة في سبيل الابتعاد عن مستوى الحيوانات التي تعيش معه في نفس الغابة لأنه باستكشافه هذا يكون قد عثر على قانون من قوانين الطبيعة هو نظرية الرافعة التي بواسطتها يمكن استخدام ثقل ضئيل لرفع ثقل أكبر بالضغط على الطرف الآخر
لم يكن ليعرف في ذلك العهد أن هذا قانون من قوانين الطبيعة فقد مضت مئات كثيرة من السنين حتى ظهر العلامة اليوناني أرخميدس وتبين هذه النظرية وما يمكن أن يترتب عليها من النتائج المدهشة فقال: (لا أريد إلا مكاناً آخر أضع عليه الرافعة فيصبح في وسعي تحريك هذه الدنيا
وكانت لحظة عظيمة تلك التي عرف فيها أرخميدس قانون الروافع، ولكن ألم يكن أكبر من هذه اللحظة تلك اللحظة الأخرى التي احتاج فيها الصياد القديم إلى شيء فوق طاقته فصنع رافعة وهو يجهل كنهها من الخشب وحرك بها الثقل
كان هو البشير بالرجل الذي رفع الصخور الضخمة ليبني بها أهرام مصر كما كان هو البشير بمهندس القرن العشرين الذي يرفع القوائم الحديدية إلى قمة ناطحات السحاب
وإنما نجح ذلك الرجل لأنه لا يريد أن يفشل في واجب لم يستطيع أداءه، وربما كان العبء الذي أراد الصياد القديم أن يحمله إلى كهفه صندوقاً فيه جثة وحش ليقتات من لحمه، وربما كان قد أعانه على تحريك هذا الصندوق عمودان من الخشب وضعهما تحته فاستطاع بواسطتهما نقل الصندوق إلى مكان ابعد من الذي يستطيع نقله إليه لو حمله على ظهره
لكن هذا العمود كان في البداية شجرة طويلة غير مشذبة تتدحرج باليد على أرض غير ممهدة، فَنَقْل الصندوق على عمودين من هذا النوع أمر يشق على صياد مُتْعَب. لكن صادف أن كان العمود ناعم الملمس حسن الاستدارة، وكان وضعه تحت الصندوق بشكل حسن، فسهل تحريك الصندوق الذي كان تحريكه صعباً من قبل
في تلك العصور المظلمة التي نتخيل حدوث هذه القصَّة فيها كانت توجد كتل من الخشب مستديرة وهي مقطوعة من جذوع الأشجار وكان في ذلك العهد رجل أذكى من رفاقه، فبعد أن نقل الأثقال على أشجار تتدحرج حتى كاد ظهره أن ينكسر، رأى أن يحفر اثنتين من هاتين الكتل وأن يصل بينهما بعمود يمر بوسط كل منهما لا يكون كجسم الشجرة التي تجر على الأرض. هذا هو أول نوع من أنواع العجلتين ومن المحور الواصل بينهما
وبهذه الوسيلة عرف الإنسان قانوناً آخر من قوانين الطبيعة هو نظرية الاحتكاك، والاحتكاك معناه تمرير سطح على سطح. وهذه النظرية تفيد الإنسان من عدة وجوه، وقد كنا ننزلق على الثلج بغير قبقاب (الباتيناج) لولا معرفتنا تلك النظرية
لكن إنسان ما قبل التاريخ كان يستخدم كل قوته ضد قوة الاحتكاك، فكان يوجه جهد عضلاته لجر الأثقال على الأرض، فلما رفع الأثقال عن الأرض استفاد كثيراً ووجد الدحرجة على أشياء مستديرة أسهل من الجر على الأرض، فلما عرف العجلتين المتصلتين بواصل يوضع تحت العبء تضاعف كسبه، فقد أضاف قوة العجلة إلى قوته وطبق نظرية الرافعة مرة أخرى لرفع الثقل عن الأرض حتى لا يجر جسماً مسطحاً على جسم مسطح
وشتان بين تعلم هذه النظريات من كتب الطبيعة بطريق الدرس وبين معرفة الرجل القديم لها واحدة بعد واحدة، معانياً الكثير من الفشل في مقابل القليل من النجاح. وهو في أثناء ذلك يحتال على تخفيف الجهد القاصم للظهور والمستنفد للقوى
إننا نجل الذين كان لهم من الحكمة ما ساعدهم على أن يفهموا وأن يستنبطوا القوانين العظيمة التي أقيم عليها بناء هذا العالم فلا تنسى أن تكرم ذلك المخترع المبتكر الذي كان له من الذكاء ما مكنه من صنع العجلة
أبونا النيل
(أقبل الفيضان! أقبل الفيضان! أبونا النيل يعلو)
هكذا كان يقول الأطفال في مصر فيترك كل عامل عمله ويذهب ليشهد النيل العظيم وقد بدأ يقيض ماؤه على جانبيه
وقد كانت أرض مصر مدة اشهر عشرة قبل الفيضان جافة بتأثير الشمس الجنوبية المحرقة، وهاهو ذا الصيف قد أقبل وارتفع ماء النهر المعبود جرياً على عادته التي لم يخلَّ بها؛ وهاهو ذا يترك مجراه ويصل إلى أماكن بعيدة من أرض البلاد التي يهبها الحياة، ويظل النيل خمسين يوماً ينُعم على الناس ببركاته. وعندما يعود إلى مرقده الآمن بين شاطئيه اللذين أنشأهما لنفسه، يحجب ظاهره بطبقة غنية من الطمى الأسود تستمد منها الحياة فواكه الربيع وزهوره وحبوبه، فينعم بها الناس إلى العام المقبل حيث يعود إليهم مرة أخرى بهدايا مائه الغالي. أما في نظر الذين تمطر في بلادهم الدنيا في الربيع والصيف والخريف، ويتساقط البرد في الشتاء، وفي أرضهم الماء غير منقطع، فإن الفيضان بالنسبة لهم إخلال بنظام الطبيعة ونكبة على الجنس الإنساني، لأنهم لا ينتظرون ولا يريدون المفاجأة التي تجلب لهم النكبات والخسائر، وتهلك محاصيلهم وتكتسح مساكنهم
لكن أبانا النيل لم يكن بالضيف غير المرحب به على هذا الاعتبار بالنسبة لأرض مصر التي لفحتها الحرارة فلو أتى فيضانه مرة في كل عام بمقدار أربعين قدماً لأصبحت البلاد صحراء كالصحاري المجاورة لها. فلا عجب إذن في تقديس المصريين له واعتبارهم إياه أباً عطوفاً مكللاً بالفواكه والورق الأخضر. وتصويرهم إياه وحوله الأرواح السعيدة تلعب في مرح وهي وافرة العدد
ولكن مع كثرة ما يجود به النيل فإنه يعم جميع البلاد، ومع أن مدة الفيضان مطلوبة مهما طالت فإنه يظل كالنائم في مجراه الضيق عشرة أشهر في كل عام. وعندما ينتهي عمل النيل يبدأ عمل الإنسان وقد كان عملاً مجهداً
هذا الماء الغالي الذي يأتي في وقت قصير يجب أن يحتفظ به، من أجل ذلك كان الأرقاء ينشئون ما يشبه أن يكون بحيرة حتى لا يضيع ماء الفيضان بدداً في الرمال. ويجب أن يحمل هذا الماء إلى الدور والحدائق والمزارع التي تخرج عن المنطقة التي ينالها الفيضان. ومن أجل ذلك كان يكلف الأرقاء بحمل هذا الماء في أوان على رؤوسهم
وقد كان الجهد الإنساني رخيصاً في تلك الأيام وكان للملوك والنبلاء في مصر مئات ومئات من العبيد لا يعدونهم أفضل من المواشي: هم آلات إنسانية لم توجد إلا لتؤدي مالا نهاية له من الخدمات لساداتهم. وعلى النقوش المصرية القديمة على الأحجار صفوف وصفوف من العبيد حاملين أواني الماء على رؤوسهم
لكن حتى الأرقاء ومن يعهد إليهم بأن يسوقوا العبيد كانوا أهل ذكاء ولم يكونوا حيوانات تعمل بلا عمل ولا فكر ولا محاولة للتغيير. وفي يوم من الأيام حدث أن رجلاً ذكياً من بين اللذين كان من واجبهم اليومي رفع المياه من المجرى المنخفض إلى الحقول العالية، حدث أن هذا الرجل علق دلوه بطرف عمود خشبي مستند وسطه إلى الجسر وتعلق بالطرف الآخر من هذا العمود وها أنت ذا تراه الآن يطبق نظرية الرافعة مرة أخرى، فعلق الدلو في سهولة في الهواء ثم سكب في الموضع الذي أراد الرجل أن يرويه من ماء النهر
وقد كانت مصر موصولة الأجزاء على ضفتي نيلها بترع وجداول تروى بواسطة الشادوف (الدلو والعمود)، وتوضع هذه الشواديف أما فرادى وإما أزواجاً لرفع الماء من مستوى إلى مستوى آخر. لكن كان لا يزال الرفع بواسطة رجال، وكانت كل القوات الدافعة التي يجب استخدامها من نشاط العضلات
ثم جاء رقيق لعله أذكى ولعله اضعف جسماً من غيره، فظن سيده أنه أكسل من رفاقه، راقب هذا العبد وهو يؤدي عمله إحدى العربات المصرية وهي تسير بخفة بسبب عجلاتها الدائرة فأخذ عجلة قديمة سقطت من إحدى العربات وعلقها في عمود فوق حفرة الماء وعلق بها الدلو ووجد بذلك أن الدلو يهبط ويعلو في سهولة وأن المشقة قد قلَّت
كان الرجل يندفع إلى الأمام ثم إلى الوراء في أثناء إخراجه للدلو ووضعه في الماء، ويتكرر ذلك طول مدة السقي فيفقد قواه شيئاً فشيئاً لطول هذه الحركة، وهو فضلاً عن ذلك مضطر إلى الوقوف بين دفعة ودفعة
فلما عرف طريقة العجلة التي تدور دون أن تقف أو تعاود البدء، لما عرف هذه العجلة (الساقية) أضيف فصل آخر إلى قصة العجلات التي مكنت الإنسان بسبب ما فيها من سرعة الحركة من جر أثقاله ومن الانتقال على عربة، ومن رفع الأثقال عن الأرض هذا فضلاً عن أن العجلة يمكن أن تدار سواء بواسطة الإنسان أو بواسطة حيوان يساعد الإنسان في هذه المهمة، ولكنها في مصر كانت على الغالب تدار بواسطة الإنسان وحده لكثرة الرجال ورخص الجهد الإنساني.
(يتبع)
ع. أ