انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 329/رسالة العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 329/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 10 - 1939



لحظات الإلهام في تاريخ العلم

بقلم مريون فلونس لانسنغ

ثناء على علبة الصفيح

الصفيح خادم متواضع للإنسانية، فنحن نتلف العلبة بعد فتحها ونلقي بها دون أي احترام ودون أن يكون في أنفسنا لها موضع للشكر على الخدمة التي أدتها. ولكن نابليون لشدة شغفه بالحصول على مادة تؤدي إلى حد قليل مثل الخدمة التي تؤديها اليوم علبة الصفيح، قد عرض هو والحكومة الفرنسية في سنة 1800 أو ما حولها جائزة قدرها 12000 ألف فرنك لمن يخترع وعاء يمكن حفظ الطعام فيه من التلف في زمن الحرب

إن تعاقب مواعيد الغراس والحصاد التي عرفها آباؤنا الأولون كان نعمة عظيمة على الإنسان. ولكنه من جهة أخرى يفرض عليه واجبات معينة ويلزمه عناية خاصة، فالرجل الذي يعيش في المناطق المعتدلة لا يستطيع أن يجعل مائدته مبسوطة على الدوام على الرغم من كل جهوده الزراعية

يجب أن يكون لديه خبزه كل يوم ولكن الثمار والمحاصيل لا تخرجها الأرض يوميّاً بل في مواعيد معينة. وكما يختزن السنجاب البندق في ثقب بجذع الشجرة انتظاراً للوقت الذي تخلو فيه الفروع من ثمرها فكذلك يجب أن يختزن الإنسان من نتاج الموسم ما يكفي احتياجاته بقية فصول العام المجدبة

وكان تجفيف الطعام من أقدم الوسائل للاحتفاظ به. وقد وجد الفريق الأقدم من المستعمرين الأمريكيين جماعة الهنود يتبعون نظاماً لتجفيف القمح والسمك والفواكه واللحوم بحفظها من العطب مدة طويلة. وتوجد وسيلة أخرى لحفظ الطعام هي تثليجه، ولكن هذه الوسيلة لا تمكن مزاولتها إلا في الأجواء التي يمكن فيها ترك الطعام في الماء البارد والثلج أو في أنابيب في أعماق الأرض

وتوجد وسيلة أخرى لحفظ الطعام مناقضة للوسيلة الأخيرة وهي حفظه بواسطة الحرارة. ووجد الطباخون في العصور القديمة أن اللحم المطبوخ يبقى مدة أطول من اللحم النيئ فوصلوا بهذا الاستكشاف إلى أول حلقة من سلسة الاستكشافات التي انتهت اليوم إلى حفظ المجففات في علب الصفيح

إن سر نجاح الحفظ في تلك العلب هو أن الطعام يمنع فيها عن التعرض للهواء منعاً محكماً. وفائدة منع الطعام عن الهواء ليست بالاستكشاف الحديث فقد وجدت في جزيرة كريت بالبحر الأبيض المتوسط آثار قصر قديم يرجع عهده إلى 1500 أو 2000 سنة قبل المسيح ووجد في حجرات باردة تحت أرضه أوان كبيرة من الطين يختزن فيها الطعام ويمنع عن الهواء

ولكن الذكاء والنجاح اللذين ظهرا في حفظ الطعام بعلب الصفيح لم يكونا قبل الحروب النابليونية في فرنسا حتى رأت الحكومة - والحكومات بطيئة دائماً في بذل الأموال للاختراعات المشكوك في نفعها للجماهير - أنه من المجدي بذل جائزة للوسيلة الناجحة في حفظ المأكولات بالتخزين

وكان مبلغ اثني عشر ألف فرنك مبلغاً عظيماً في ذلك العهد من القرن الثامن عشر. وقد تسابق صناع الحلوى وصناع الجعة وأصحاب معامل التقطير بنشاط وجِد علهم يحصلون على هذه الجائزة، وقد نالها بعد اثني عشر أو خمسة عشر عاماً رجل اسمه فرانسوا إيبرت وهو صانع حلوى وقد قضى كل حياته في حل هذه المسألة

وربما كان ما يشاع عن جهود إيبرت هو الذي حمل نابليون ومستشاريه على التفكير في قيمة المشروع الذي يمكن به النجاح في حفظ الطعام، وعلى كل حال فقد عرضت الجائزة واستمر إيبرت يزاول عمله في صبر حتى كان عام 1810 فتقدم بالدليل على نجاحه ونال الجائزة

وحتى مع حصوله عليها فقد أنفقها كلها على اختراعه مجرباً أساليب أحسن من التي عالجها من قبل، إلى أن مات في فاقة وهو يشكو قلة التشجيع بعد بضع سنين، وذلك على الرغم مما كان يبدو من أن مبلغ الاثنى عشر ألف فرنك مبلغ كبير

ومن حسن حظنا نحن الذين انتفعنا بنجاحه أن الحكومة الفرنسية نشرت له في الوقت الذي عرضت فيه الجائزة كتاباً يوضح على وجه التفصيل تجاريبه ونتائجها، فأمكن بذلك أن نعرف عن تجاريبه أكثر مما نعرف في العادة عن التجاريب السابقة وتبين أنها تجاريب مماثلة تمام المماثلة للمشاريع العظيمة التي اتسعت في القرن العشرين لحفظ البضائع وإرسالها إلى أرجاء الأرض وحفظها إن دعت الحاجة عدة أشهر أو سنين

لم يكن لدى فرنسوا إيبرت علب ملائمة ليضع فيها بضائعه. فكان يضع كل أنواع مصنوعاته في علب من الزجاج أو الفخار ثم يحكم غطاءها ويضع العلب في ماء يكفي لتغطيتها ثم يضع الوعاء الكبير الذي به الماء وفيه العلب فوق نار حتى يسخن إلى أن يصل إلى درجة الغليان. ويتركها بعد ذلك في هذا الوعاء أوقاتاً تختلف قلة وكثرة ثم يسد الزجاجات ويختمها في أثناء حرارتها

وربما بدا لك أنه ليس في هذا ما هو جديد أو غريب يستحق أن ينال الرجل بسببه جائزة بل يصنع هذا في كل مطبخ أيام الخريف عند ظهور الفواكه الجديدة لحفظها في الشتاء. والواقع أنه ليس في هذا الأمر ما يعد اليوم جديداً ولا غريباً وإنما ذلك لأن الفكرة شاعت وأصبحت مقبولة. ولكننا الآن في القرن العشرين وهذا العالم الفرنسي كان يشتغل في معمله سنة 1800 وبسبب جهده وصبره في العمل أصبح استكشافه سهلاً وأصبح يؤدى في مطابخنا كأنه أمر طبيعي. وكانت التجاريب تتقاضاه وقتاً طويلاً لأنه كان لابد من تجريب درجات مختلفة للحرارة وأساليب متباينة للصنع. وكان لابد كذلك من بقاء الزجاجات مغلقة عدة أشهر أو عدة سنين ليتضح مبلغ النجاح في كل تجربة. وقد قضى إيبرت اثني عشر عاماً حتى عرف خير الوسائل لمعرفة المدد التي يقضيها كل طعام على الحرارة ليكون عند استخراجه من الوعاء في مثل عذوبته وصلاحيته عند وضعه فيه

وقد رأى إيبرت أن نجاح تجاريبه يتوقف على إخراج الهواء إخراجاً تاماً، وقد رأى كما كان يرى العلماء في عصره أن الهواء يحدث عطباً في الفواكه والخضر وكانت وسائله صحيحة، ولكن مضى خمسون عاماً أخرى قبل أن يستكشف العالم الفرنسي الشهير لويس باستور ذلك الاستكشاف المميز لعصره وهو أن الفساد لا يحدثه الهواء بل الميكروبات التي تعيش في الهواء

كان إيبرت يجري تجاريبه على الطريقة الصحيحة الوحيدة ولكنه كان يخطئ في تفسيرها وكانت النتيجة واحدة لأن التجربة نجحت وحفظ الطعام

ولكن العالم الكبير باستور بشرحه القانون المسيطر على نماء البكتريا والميكروبات قد أحدث ثورة في علوم الطب وبدأ عهداً جديداً في حفظ الطعام بطريقة علمية مجدية، وهذه الطريقة كان إيبرت هو المبشر بها

ولعله ليس في تاريخ الإنسانية يوم أعظم من اليوم الذي بيَّن فيه باستور أن التغيرات التي تطرأ على المواد الغذائية عند تعريضها للهواء إنما هي نتيجة لعمل أحياء بكتيرية صغيرة، فإذا ما أزيلت هذه الأحياء بواسطة الحرارة وأزيل الهواء في الوقت نفسه فإن الطعام لا يفسد إلا عندما يتعرض للهواء مرة أخرى فيتعرض لهذه الأحياء. وقد نال باستور جائزة على استكشافه هذا في فرنسا سنة 1860 - على أننا لم نبدأ إلا الآن فقط في فهم ضخامة التغير الذي أحدثه استكشاف باستور في المعارف الإنسانية وفي أساليب الحياة بتطهير اللبن وبتعقيم الأدوات الجراحية. ومن الممتع أن نلاحظ أن الأرجح أن ينشأ في وقت واحد اختراعان يساعد أحدهما على نجاح الآخر، ففي الوقت الذي كان فيه إيبرت جاداً في صنع الأواني من الزجاج والفخار كان في إنكلترا ميكانيكي أسمه بطرس دوراند يصنع أول ما عرف من علب الصفيح، وقد عرض علبته الأولى في سنة 1807 وكانت عملاً غير متقن فهي ثقيلة الوزن مصنوعة باليد، وكان لها غطاء ضخم قبيح الشكل ولكنها كانت على كل حال علبة من الصفيح

واحتكر رجل إنكليزي طريقة إيبرت بعد عام من ظهورها في فرنسا. وأنشئ أول مصنع لتخزين الأطعمة في العلب بإنكلترا وكانت شركة أمريكية هي التي تقوم بهذا العمل، وربما كانت الحكمة في اختيار إنكلترا لهذه الصناعة هي نشوء صناعة الصفيح فيها، وسرعان ما انتقلت الصناعتان إلى الولايات المتحدة

وفي سنة 1891 أنشأ إزرا داجوت وتوماس كنست في نيويورك صناعة لحفظ سمك السلمون وبرغوث البحر والكابوريا في علب الصفيح، وكلا الرجلين متعلم في إنكلترا

وفي العام التالي أنشأ رجلان آخران هما أندر وود تيشل في بوستون صناعة حفظ الفواكه في العلب الصفيح وقد استعملا في إعلاناتهما كلمة هي التي اشتقت منها الكلمة الإنكليزية (علبة) وأصبحت صناعة العلب من الصناعات الكبرى في الولايات المتحدة

وليس ثناؤنا على اختراع العلب الصفيح من أجل أهمية هذه الصناعة من الوجهة التجارية وإن كانت العلبة ومحتوياتها جديرين بوضعهما في قائمة الاستكشافات الهامة، بل لأن أثرهما في حياة الإنسان أثر بعيد مميز للعصر

كان الإنسان من عهد قديم يعتمد على الأطعمة المحلية والموسمية وكانت حركاته محدودة من أجل هذا السبب. كان لا يستطيع الإقامة إلا في المناطق التي توجد فيها بصفة مستمرة أنواع حاجاته المختلفة من الطعام الملائم لصحته. وكان لا يستطيع السفر والاستكشاف إلا إلى المدى الذي يؤهل له ما لديه من الطعام

وكان لا يمكن أن تتسع المدن إلا إلى الحد الذي تؤهل له طاقة الأراضي الزراعية المحيطة بها على إخراج نبات يكفي للطعام، وقد توافرت الآن كل هذه الشروط وكان لها أثر كبير في حياة الإنسان.

ولكن العلم الذي أذاعه باستور والتجارب العلمية التي أجراها أيبرت والحذق الميكانيكي الشائع الآن - لكن كل ذلك مجتمعاً قد أدى إلى إنتاج مقادير عظيمة من علب الصفيح رخيصة الثمن تتسع لمقادير هائلة من الأطعمة فأصبحت حركة الإنسان سهلة بعيدة المدى

كان نابليون يرى أنه سوف يستطيع التغلب على العالم على صورة نهائية وأن يتولى إدارته لو وثق من أن جيشه يستطيع الحصول على الغذاء وهو في ميادين بعيدة عن وطنه

وكانت رحالات كولومب محدودة بمقدار الطعام الذي يستطيع حمله في سفينته وكان المستكشفون في رحلاتهم الأولى يخفقون لأن رجالهم كانوا يمرضون إن لم يحصلوا على طعام طازج

اقرأ سير الرحلات الأولى تر أن الرجال كانوا يموتون بداء الأسخربوط ولكن المستكشفين العصريين بيري وامندسون وسكوت قد استطاعوا تحقيق حلم الإنسانية منذ قرون في الوصول إلى القطبين لأنهم كانوا يحملون أطعمة مضغوطة في علب مختومة تكفيهم إلى نهاية الرحلة

وقد قيل إن حفظ الأطعمة في العلب هو أكبر الاختراعات أهمية بعد اختراع البخار من حيث تمكين الناس من إنشاء المدن الكبيرة وتسهيل المواصلات إلى أبعد مناطقها المختلفة بتزويد السفن بالطعام المحفوظ

فهل تشترك معنا في الثناء على خادم الإنسانية المتواضع: علبة الصفيح؟

(يتبع) ع. أ