انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 329/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 329/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة - العدد 329 المؤلف زكي مبارك
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 10 - 1939


للدكتور زكي مبارك

- 19 -

رأينا في المقال السالف كيف أخطأ الأستاذ أحمد أمين حين زعم أن الأدب العربي على اختلاف عصوره ليس فيه إلا شاعر واحد يهتم بتحليل المعاني

فهل نجاه الله من الخطأ حين زعم أن الأدب العربي لم يعرف غير كاتب واحد يهتم باستقصاء الأغراض؟

إن الله لطف بابن خلدون فشغل به قلب الدكتور طه حسين لتعلو منزلته في نظر الأستاذ أحمد أمين، فأغلب الظن أن احمد أمين لم يكن عنده مانع من القول بأن الأدب العربي في جميع العصور وفي جميع الأقطار لم يخلق فيه كاتب يعرف كيف يشرح المعاني والأغراض على نحو ما يصنع الكتاب في هذه الأيام!

والحق أن بُعد الدكتور طه حسين عن مصر في أيام الصيف عرض الأستاذ أحمد أمين للمعاطب، فلو أن الدكتور طه بقي في مصر لكان من الجائز أن يعلن إعجابه بكاتب آخر غير ابن خلدون، وعندئذ كان يصح للأستاذ أحمد أمين أن (يتفصل) فيقول إنه لا يعرف في الأدب العربي غير كاتبين اثنين؛ وكان من الجائز أيضاً أن يعلن الدكتور طه حسين إعجابه بكاتب ثالث فيقول الأستاذ أحمد أمين إنه لا يعرف في الأدب العربي غير ثلاثة من الكتاب!

فهل نرجو أن يتلطف الدكتور طه حسين فيقول إنه لا يُعقَل ألا ينبغ في الأدب العربي غير كاتب واحد في ذلك الأمد الطويل الذي سيطر فيه على أقطار أسيوية وإفريقية وأوربية؟

إن الدكتور طه لو قال هذه الكلمة - وهي حق - لسرت عدواها إلى روح الأستاذ أحمد أمين فاندفع يثني على الأدب العربي بما هو أهله، ولكان من الممكن أن يصرح بأن الأدب العربي نبغ فيه من الكتاب عشرات أو مئات

ولكن الدكتور طه يترفق بأصدقائه أشد الترفق، ويحرص على ستر ما يقعون فيه من أوهام وأضاليل، وقد يقدمهم إلى الجمهور في جلبة وضوضاء، فكيف ننتظر أن يقول في الأدب العربي كلمة حق تشجع رجلاً مثلي على مهاجمة رجل يستبيح في الغض ما لا يباح؟

لقد قضيت أعواماً طوالاً في محاربة الدكتور طه حسين، واستطعت أن أعدل مسالكه الأدبية بعض التعديل، فهل أستطيع اليوم أن أخوفه من عواقب السكوت على أغلاط بعض زملائه الأعزاء؟

إن الدكتور طه هو المسئول عن احمد أمين، فهو الذي قال: (إن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهديناه إليها) ومعنى ذلك أن أحمد أمين لم يكن يعرف أنه أديب قبل أن يدله الدكتور طه على الكنز المدفون في صدره

كنت أعرف أن الدكتور طه على خطأ يوم ظن أنه استكشف (الأديب) المدفون في صدر احمد أمين، ولكني رأيت ألا أسارع إلى تخطئة الدكتور طه، علماً بأن الأيام سترد الدكتور طه إلى الصواب، فهل ردته إلى الصواب؟

لقد حدثتكم من قبل أن أحمد أمين لم يكن أديباً، وإنما كان موظفاً مخلصاً للوظيفة لا يرى ما عداها من الشؤون، ثم قال له طه حسين: كن أديباً، فكان

واليوم أحدثكم أني أخطأت، والصواب أن أحمد أمين لم يكن أديباً، وإنما قال له طه حسين: كن أديباً، فلم يكن!

يا دكتور طه:

هل تصدق القول بأن اللغة العربية لم يكن فيها كاتب يحلل المعاني غير ابن خلدون؟

أحب أن أساجلك الحديث، فقد ضجرت من مساجلة أحمد أمين

ما رأيك في الرعيل الأول من الكتاب بعد عصر النبوة؟

ما رأيك في الخطاب الذي وجهه عبد الحميد بن يحيى إلى الكتاب؟

ألا تراه غاية في تحليل المعاني وتشريح الأغراض؟

وما رأيك في طريقة عبد الله بن المقفع وهو ينثر الحكم أو يكتب العهود؟

إن كتاب كليلة ودمنة هندي الأصل، فليس لابن المقفع غير الترجمة والتهذيب، ولست من القائلين بأن كتاب كليلة ودمنة من إنشاء ابن المقفع، ولكن ما رأيك في مقدمة ذلك الكتاب، وهي بالتأكيد من إنشاء ابن المقفع؟

أليست تلك المقدمة شاهداً على أن ابن المقفع يجيد الاستيعاب والاستقصاء؟ وما رأيك في الكتاب الذين عرفتهم اللغة العربية بعد ذلك؟

هل يستطيع إنسان أن يقدم ابن خلدون على الجاحظ إلا وهو محروم من نعمة الفهم والذوق؟

إن الجاحظ كاد يستوعب جميع المعارف في عصره، وكاد ينطق جميع الأحياء والأموات بما عرفوا وأحسوا من دقائق الأشياء. والذي يقرأ رسائل الجاحظ ومؤلفاته يشهد المعارك والمصاولات بين أصحاب المذاهب والآراء، ويرى كيف تصطرع الطبائع والنحائز والخصال

فهل يحوز القول بأن اللغة التي عرفت أدب الجاحظ ليس فيها كاتب غير ابن خلدون؟

وما رأيك في ابن قتيبة؟

هل تذكر مقدمة كتابه (أدب الكاتب)؟

إن (أدب الكاتب) هو في الأغلب دراسات لغوية وصرفية ولكن ما رأيك في مقدمة ذلك الكتاب؟

أليست غاية في التحليل والتشريح؟

وقبل الجاحظ وابن قتيبة عرف الأدب العربي (مشاورات المهدي لأهل بيته) وأذكر أنك حاورتني في صحة هذه المشاورات وصح عندك أنها من الأدب المنحول، وكانت حجتك أنها لم تذكر في غير كتاب العقد الفريد. وقد ضاق وقتي عن تعقب المصادر التي وردت فيها إشارة إلى تلك المحاورات، فهل تظن أنها من بعض ما اخترع كتاب الأندلس؟

المهم، يا سيدي الدكتور، أن نتفق على أنها سبقت القرن الرابع، ولا يهمنا بعد ذلك أن تكون مشرقية أو مغربية، كما لا يهمنا أن تكون من نتاج القرن الثاني أو الثالث، فما يعنينا في هذا المقام إلا أن نتخذها شاهداً على أن من كتاب العرب من أجادوا التحليل والتشريح قبل ابن خلدون بأجيال طوال

ومن المؤكد أن مشاورات المهدي لأهل بيته ليست أول وآخر ما عرف العرب من هذا الطراز، فلها أشباه كثيرة منها (حديث السقيفة) الذي قصه علينا التوحيدي والذي نقده ابن أبي الحديد

ولولا خوف الفتنة لأشرت إلى قصة دينية كثر فيها الحوار والتمثيل، وهي من الشواهد على أن العرب تنبهوا من وقت مبكر إلى تحليل المعاني وتشريح الأغراض

وما رأيك في أبي حيان التوحيدي؟

ألا ترى أن أعماله في القرن الرابع تذكر بأعمال الجاحظ في القرن الثالث؟

كان الجاحظ ينطق العلماء والفقهاء والأدباء، وكذلك كان التوحيدي ينطق من عاصروه بألوان كثيرة من صور الفكر والبيان

ومن المؤكد أن التوحيدي أكتب من ابن خلدون وأسبق إلى تشريح الآراء والأهواء

ومن المؤكد أيضاً أن التوحيدي لا يقل عن أعظم كاتب عرفته اللغات الأجنبية، وشمائله في الأسمار تذكر بشمائل أناطول فرانس

وهل يذكر الدكتور رسالة الطير والحيوان بين رسائل إخوان الصفاء؟

لقد دلنا ابن أبي الحديد على واضع (حديث السقيفة) فمتى نعرف الكاتب المجهول الذي وضع (مشاورات المهدي لأهل بيته)؟ ومتى نعرف الكاتب المجهول الذي وضع (رسالة الطير والحيوان)؟

قد نتعزى حين نيأس من معرفة المهندس الذي وضع تصميم الأهرام، والمهندس الذي وضع تصميم إيوان كسرى والمهندس الذي وضع تصميم قصر الحمراء، ولكنا لن نتعزى أبداً عن اليأس من معرفة الكاتب الذي وضع (رسالة الطير والحيوان) لأنه عندنا أعظم كاتب عرفته الآداب العالمية بعد أفلاطون

هل يذكر الدكتور ما قال يوم لقيته في جريدة كوكب الشرق؟

لقد صارحني الدكتور طه حسين بأن الفصل الذي حللت به رسالة الطير والحيوان في كتاب النثر الفني غير كاف، وقد أجبت بأنه فصل من كتاب، وتحليل هذه الرسالة يحتاج إلى كتاب خاص

فكيف يقال إن اللغة العربية لم ينبغ فيها كاتب غير ابن خلدون وفيها (إخوان الصفاء) الذين سجلوا معارف زمانهم أعظم تسجيل؟

لقد أشرت من قبل إلى الميزة الخلقية التي امتاز بها أولئك القوم، وهي نكران الذات، وإلا فمن الذي يصدق من أهل عصرنا أن جماعة من أهل البصرة أو غير أهل البصرة يخفون هوياتهم عن أعين التاريخ مع تلك القدرة الباهرة على تشريح الحقائق والأباطيل؟ وما رأي الدكتور في ابن شُهيد صاحب (التوابع والزوابع)؟

ألا يسمح لهذا الكاتب المبدع بأن يضاف إلى من يجيدون تحليل المعاني واستقصاء الأغراض؟

إن ابن شهيد في تلك الرسالة قارع المعاني الصعبة مقارعة الفحول، ودخل في شعاب لا يهتدي إلى مسالكها غير المزودين بأضواء البصائر والقلوب، فكيف يُجهل ويُعرف ابن خلدون؟!

وما رأيك في التنوخي صاحب (نشوار المحاضرة)؟

ألا يذكرك هذا الكاتب بكتاب (الصور) من أقطاب الفرنسيس والإنجليز والألمان؟

لو كان التنوخي في أمة غير الأمة التي طبع فيها ديوان ابن خفاجة مرة واحدة في مدى أربعين سنة لجاز أن يخطر في بال الذي قال إن اللغة العربية لم تعرف كاتباً غير ابن خلدون!

وما رأيك في ابن مسكويه صاحب (تجارب الأمم)؟

ألم يهتد ابن مسكويه إلى فلسفة التاريخ قبل ابن خلدون بأزمان؟

وما رأيك في الجرجاني صاحب (دلائل الإعجاز)؟

هل ترضى أن توازن بين الجرجاني وبين لانسون؟

إن الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز أبرع وأعظم من لانسون في كتابه ' ' ولكن لانسون وجد رجالاً يعرفون قيمته الأدبية، أما الجرجاني فله أخلاف ينسونه ويذكرون ابن خلدون!

وهل يمكن لرجل فيه بقية من الفهم والعقل أن يتناسى العظمة الفكرية عند أمثال عبد القاهر الجرجاني؟ ومن قبل الجرجاني عبد القاهر كان أستاذه أبو الحسن الجرجاني الذي فصل ما بين المتنبي وخصومه أعظم تفصيل، والذي أدخل في الأحكام الأدبية روحاً من عدل القضاء.

ومن قبل هؤلاء نشأ احمد بن يوسف المصري الذي برع في تسجيل ما عرف عن معاصريه من محاسن وعيوب، والذي وصل إلى الغاية في شرح أهواء النفوس

وهل ترى أن يقف الأدب عند الرسائل والمؤلفات التي غلبت عليها الصفة الاصطلاحية؟ إن ميدان الأدب أوسع من ذلك، فإليه تضاف أعمال المؤلفين في التصوف والأخلاق

إن صح هذا - وهو صحيح - فهل أستطيع أن أعرف رأيك في الغزالي؟

أنا أعتقد أن الغزالي من فحول الكتاب في اللغة العربية، وأومن بأنه من المبتكرين في تحليل النوازع النفسية والقلبية، وفي كتاب (الإحياء) فصول تشهد بأنه من أئمة الفكر والبيان

اقرأ - إن شئت - بعض ما كتب في الرياء تجده أتى بالأعاجيب في التنبيه على المجهول من سرائر النفوس، وتعرف - وأنت تعرف - أنه في بابه أعمق من ابن خلدون وأقدر على التحليل والتشريح

قلت في محادثة قريبة بأنه لا يسرك أن تراني أعتدي على الناس.

لقد ذهب الناس، يا سيدي الدكتور!

أليس من المحزن أن يحتاج الأدب العربي إلى من يحميه من غطرسة بعض الأساتذة بكلية الآداب؟

إن الأستاذ الذي لم يعرف في اللغة العربية كاتباً غير ابن خلدون لم يطلع أبداً على كتاب الفتوحات المكية، فلو أنه كان اطلع على ذلك الكتاب لعرف أن عندنا كاتباً فحلاً هو ابن عربي الذي طوف بآفاق يجهلها أكثر الأدباء في هذا الجيل

وهو أيضاً لم يطلع على مؤلفات الشعراني الذي صور المجتمع المصري في القرن العاشر تصويراً نعجز عن مثله اليوم، وأكاد أجزم بأن الصحف المصرية على اختلاف ألوانها ونزعاتها لا تعطي من صور مصر في العصر الحاضر ما أعطته مؤلفات الشعراني من صور مصر في القرن العاشر

وما كان الغزالي ولا ابن عربي ولا الشعراني إلا تلاميذ لأساتذة مجهولين وضعوا الأساس لحياة الفكر والتأليف في مختلف الأقطار العربية والإسلامية

هل تذكر المقريزي، يا دكتور؟

أنظر خطط المقريزي، وتذكر العصر الذي عاش فيه المؤلف ثم وازن بينه وبين أي باحث من نوعه عاش في الأقطار الأوربية، فإن فعلت فسترى أن أسلافنا كانوا من أئمة الابتكار والابتداع فبأي حق يقال إن اللغة العربية لم ينبغ فيها كاتب غير ابن خلدون؟

إن ابن خلدون ممتاز في الترتيب والتبويب، وتلك هي الصفة التي يعنيها أحمد أمين، فأين هو من القلقشندي الذي بوب (صبح الأعشى) تبويباً معدوم النظير؟

وأين هو من السخاوي الذي صور القرن التاسع كأنك تراه؟

وأين هو من الحركات العقلية الممثلة في ذخائر التفكير العربي والإسلامي؟

الأدب، يا دكتور، له فنون تتجاوز ما أسلفنا من الفنون، فأين صاحبك من الكتاب الذين شغلوا أنفسهم بتشريح الدقائق النحوية والصرفية؟

إن سيبويه ألف (الكتاب) في القرن الثامن للميلاد، فهل تعرف أن الأقطار الأوربية كان فيها مؤلف يشرح أصول النحو والصرف كما صنع سيبويه في ذلك العهد؟

وهل يمكن أن يقال إن ابن خلدون كان في التشريحات السياسية والاجتماعية أعمق من سيبويه في التشريحات النحوية والصرفية؟

وهل يمكن القول بأن جوهر العقل عند سيبويه أقل قيمة من جوهر العقل عند ابن خلدون؟

إن الأستاذ أحمد أمين لا يرى غير ظواهر الأشياء، ولو كان عميق الفكر لعرف أن رجلاً مثل ابن هشام الأنصاري خليق بأن يوضع في أول صف من صفوف الباحثين الذين يجيدون تشريح المعاني، فهذا الرجل عرض مسائل النحو في صور مختلفات، وبذل في ذلك جهداً يشهد بأنه في غاية من سمو الفهم والعقل، وقد استطاع أن يجعل القاهرة في صف البصرة والكوفة وبغداد، ومجموعة المحاولات التي بذلها في تكييف المعضلات النحوية والصرفية أقوى من مجموعة المحاولات التي بذلها ابن خلدون في تكييف السياسة والاجتماع

إن فقهاء الشرع الإسلامي كان فيهم فحول من الوجهة الأدبية، ولكن أين من يدرك أن البويطي صاحب كتاب الأم كان من أقطاب البيان؟

أين من يصدق أن البويطي عرض الخلاف بين الشافعية والحنفية عرضاً هو الغاية في حسن التعبير، ودقة الوصف، وسداد الأداء؟

ومع ذلك نجد من يقول بأن اللغة العربية لا تعرف كاتباً غير ابن خلدون!

أما بعد فما الذي بقي لأحمد أمين وقد مزقنا أوهامه كل ممزق! بقي أن نبين أن أغلاطه ليست أغلاط الرجل المجتهد - وللمجتهد أجر حين يخطئ وأجران حين يصيب - وإنما أغلاطه مسروقة سرقة حرفية من بعض أدباء هذا الجيل

فكيف سرق أحمد أمين تلك الأغلاط؟ وكيف خفيت سرقاته على الناس؟

سنكشف تلك السرقات في مقال أو مقالين، ثم نتركه في سلام ليتذوق البقية من أطايب رمضان، إن لم يجد ما يوجب أن يفطر يوم العيد على حديث ذي شجون

زكي مبارك