مجلة الرسالة/العدد 327/من وحي الحرب
مجلة الرسالة/العدد 327/من وحي الحرب
وَدَاعْ!. . .
للأستاذ محمود الخفيف
أفاقَتْ عَلى صَيْحةٍ رَوَّعتْ ... لَدَى سَكرةِ الوصلِ أحلامَها
وَطافتْ بِها النُّذُرُ الغاشياتُ ... تُجَدِّدُ فِي العَيْشِ آلاَمَها
وَكانَ صَفا دَهرُها واغتدَى ... وَضِيَء الملاَمِحِ بَسَّامَها
تهاوَتْ طُيوفٌ تَدَلْت لَها ... مِنَ الخُلدِ في أمْسِها الناعِمِ
تَألُفُ مِنْ لَمحَاتِ الخْلودِ ... ومِنْ رَوْعةِ الأمَلِ الباسِمِ
وَتَنْسِمُ بِالْحُبِّ أنفاسُها ... عَلى عُشِّها الهْانئِ الحالِمِ
أفي وَمْضةٍ تَتلظَّى الجَحيمُ ... وفي خطرة ترجُفُ الراجِفةْ؟
وتمضِي رَحَى الموتِ في ضجَّةٍ ... تَبيتُ القلوبُ لها واجِفَة؟
إذا أوحَشَ البيتُ مِن بَعدهِ ... فمنْ يُؤنِسُ الزوجةَ الخائفة؟
أفاقَتْ عَلى الهَولِ ملْهوفةً ... وَما كَانَ في العيْشِ بِالمنتظرْ
ألاَ شَدَّ ما تَفجعُ النَّائباتُ ... عَلى غِرَّةٍ ساقَهُنَّ القَدَرْ
وَيا قُبحَ مَوقعهُ في النُّفوس ... إذا جَاَء بَعدَ الصَّفاءِ الكَدرْ
وأكدرُ ما كانَ لونُ السحابِ ... إذَا مَرَّ عَارضُهُ بالْقَمرْ
ترَدَّى لِباسَ الوَغى مُعْجلاً ... وَهَمَّتْ لِتثْنِيَهُ ضارِعَهْ
فلا قولَ إلاَّ الدُّموعُ السِّجالُ ... تَفيضُ بِها المُقَلُ الهامِعهْ
وَمَا حِيلةُ الَّلفظِ في موْقفٍ ... تذوبُ بِهِ الأنفُسُ الجازَعه؟
إذا هَمَّ لا يَستجيبُ اللَّسانُ ... وَمَا عَيَّ في مَوْقفٍ قَبلَهُ
وَماذا عَسَى أنْ يقولَ ... وهَلْ تَتأسَّى فَتُصغي لَهُ؟
هُنا الصْمتُ أبلغُ في لحْظةٍ ... توَزّعَ فِيها الأسَى قَوْلَهُ
تَلاَصَقَ قَلباهُما في عِناقٍ ... يَزيدُ الأَسى فيهما والضّنى!
تُلِحُّ وَتَسْأَلُهُ المُستحيلَ ... فَيا لَيْتَها طَلَبتْ مُمْكنا
أهَابَ الحِمى بالشُّبولِ الحُماة ... فَما يَمْلِكُ اليومَ أن يُذْعِ إذا هَان دَاعِيهِ في قلبهِ ... غَدا كلُّ شَيءٍ بِهِ أهْونا
أكانَ يُعجِّل لولا الفِداءُ ... فيُفلتُ من سحرِ هذا الجمالْ؟
ويمضي إلى حيث شبَّ اللَّظَى ... وجُنَّ الردى واستحرَّ القتال؟
إلى حيثُ لا يهدَأ الجاهدون ... سوى غفوةٍ في الليالي الطوال؟
وَيُنْذِرُ بالويْلِ وجهُ النهارِ ... وتَّمشي إليه جمُوعُ الرِّجال؟
يُؤرِّقُني طيْفُ هذا الودَاعِ ... وتَبعثُ ذِكْراهُ أشجانِيَهْ
أُغَنِّي لِمرآهُ لحْنَ الأسَى ... وكم ألْهَمَ الوَجدُ ألحَانِيَه
وإني لذو كِبْرةٍ في الخُطوبِ ... وإن أغرَقَ الرِّفقُ أجفانِيَه
أرَى منظراً حارَ فيه القرِيضُ ... وأوْشك زَاخِرُهُ يَنضُبُ
قُصاراىَ فيهِ هُتافِي بهِ ... فليسَ إلى وصْفِهِ مَذْهب
لئن كان يوحي البُكَا وَجْدُهُ ... فَكَم خاطِرٍ فيه يُسْتعْذَب
إذا لَم تَرِفَّ قُلوبٌ له ... فهنَّ من الصخْرِ أو أصْلب
ألاَ كَم أراعُ لهذا القَوَامِ ... تَمَشَّى من الهمِّ فيه الوَهَنْ
ويوجِعُ نفسِيَ بَرْحُ العذابِ ... يُلِحُّ على مثل هذا البَدَن
لَها اللهُ يُذْهِبُ عنها الأسَى ... ويَدْرَأُ عنها غَوَاشِي المِحَن
تَفجُّعها - يا غَلِيلي لها - ... لَدَى البَينِ عن غيرها شاغِلي
يُعذِّبُنِي أنهُ رَاحِلٌ ... وأنَّ بُكاها بِلاَ طائِلِ
ودِدْتُ لَو أنّي لبستُ الحديدَ ... وكنتُ فِدى الراحِلِ الباسل!
أمِيلُ بلَحظِي إلى وَجْهِهِ ... فيا حَيْرَةَ اللَّحظِ في أمْرِهِ!
معاني الفجيعَةِ في ناظِرَيْهِ ... وعَزْمُ الكَماةِ على ثَغرِه
يُريها التجَلُّدَ في صَمْتِهِ ... فَتَكشفُ عيناهُ عن سرِّه
وأنّى لهُ الصبرُ في مَوْقفٍ ... سَقاهُ النوَى فيه من مُرِّه
تَجلَّدَ لا من حِفاظٍ فحسْبُ ... ولكن ليَبدُو جَدِيراً بها
فللموْتُ أهَوُن من أن تُحِسَّ ... مَعانِي تَوَقِّيهِ في قَلبِها
وليسَ يَهَابُ الرَّدى قَلبُهُ ... إذا عَوّذَتهُ بإعجَابها هو الحُبُّ حتى لدى الموت يحيي ... نفوسَ الرِّجالِ ويسمو بها
تسائِلُ عيناهُ هلْ تَرْتَجي ... لَهُ أوْبةٌ بعدَ هذا النَّوى؟
ولكنَّهُ لنْ يُطيعَ الخيالَ ... فَكمْ فيهِ قادِحةٌ للجوَى
وهلْ يعصمُ المرَء مِنْ حتفهِ ... جحيمُ الوَغى أو نَعيمُ الهوى؟
تحيرْتُ ماذا أثارَ الجوَادَ ... ولاحَ لِيَ الهوْلُ في وثبِهِ
أذلِكَ دأبُ كِرَامِ الجِيادِ ... إذا الرَّوْعُ أُعلنَ عن قربِه؟
أمِ اهتاجَ مِمْا يَرى حَوْلهُ ... فَجُنّ بما لَجَّ في جَنبِهِ؟
معانٍ يَصِفنَ لِقلبِي العذابَ ... ويمْلأَنَ نَفْسيَ مِن رُعبِه
عرَفتُك يا ساعةَ البيْنِ قَبلُ ... وقَرَّ عذابُكِ في خاطري
غداةَ ذَرفتُ عَصيَّ الدُّموعِ ... فَأرخصتُ دمعي لدى آسِري
وضاقتْ عليَّ الرِّحابُ الفِساحُ ... وأظلَمتِ الأرضُ في ناظري
وَأوْحشَ كلُّ مكانٍ عرَفتُ ... وغاضتْ رُؤى صُبحهِ الزاهرِ
عرَفتُكِ قبلُ وأيُّ امرِئ ... دَهيْتِ فلمْ يكُ بالجازعِ
عرَفتُك حين يرجَّى الإيابُ ... فما كانَ ذِكرُ غَدٍ نافِعي
فَكيف بهذا الذي لا يَرى ... سوى الموتِ في هوْلِه الفاجعِ؟
سيمضي إلى الرّوع ثبْت الجنان ... وإن كان يشقَى بأوهامهِ
تَفيضُ على رغمهِ مُقلتاهُ ... ويذْكرُ ماضيَ أيّامهِ
فيمسحُ عينيهِ خوفَ الرقيبِ ... وينْفي الهمومَ بإقدامه
ويكتئبُ البيتُ منْ بَعدهِ ... فما منْ جليسٍ ولا آنسِ
تطوفُ بأرجائِهِ وحشةٌ ... كما طافَ بالطللِ الدارسِ
وليسَ إذا جنَّهُ لَيلُهُ ... سوى خفقِ مصباحهِ الناعس
تطلُّ إذا الصُّبحُ لاحَ لها ... على شَجَنٍ في جميع النّواحْ
فليسَ الندَى في مآقي الوُرود ... سوَى أدُمعٍ من بُكاء الصباح
وهذى الهواتفُ نوْاحهٌ ... بِأغصانِها لا تَملُّ النُّواح
تعلِّلُ أطفالها تارةً ... وطوْراً تصيحُ بهمْ زاجرَه فَتصْفرُّ منهمْ وجُوهٌ صِغارٌ ... تظَلُّ إلى وجهها ناظرَه
وتجهشُ حيناً إذا أبصَرت ... دموعاً بآماقِهم حائِرَه
يلوحُ لها اليُتمُ في دَمعهمْ ... فَتسقطُ من وهنٍ خائِره
وتَمضي الليالي ثقالَ الخُطَى ... ولا قوْل عن زوْجها الغائبِ
بَرَاها السَّقامُ فليسَ يُرَى ... سوَى اليأس في وجهها الشاحب
إذا الهَمُّ صُوِّرَ تِمثَالُهُ ... فليس سوَى جسمها اللاَّغِب
وما علمت كيف خاض الحُتوف ... سِجالاً وكيف تصدَّى لها
وكيف أحاطَ الرَّدى بالرِّجالِ ... وزلزِلَتِ الأرضُ زِلزَالَها
وكيف تصبُّ السماء الدّخانَ ... تَزيدُ على الأرضِ أهوالها
وكيف يُلاقي الكميُّ الكمِيَّ ... وتمتحن الحرب أبطالَها
إذا الليل أسْدَل أستارَه ... تراءى على الأفْقِ لونُ الدّمِ
ولاحت مخضَّبة بالنجيع ... جحافلُ من خافِقِ الأنجم
يرى كلّ ما حوله قانياً ... إلى الدّمِ في لونه ينتمي
تَناوحُ في مِسمعيه الرِّياح ... فيسمع فيما تقولُ الأنِينَا
وَيَسمع ثَمّ الذين طَوت ... يَدُ الموت أعمارهمْ هامِسينا
يقولون متنا وصرنا عظاماً ... فمن للبنات غداً والبنينا؟
وَتَأخذُ أجفانَهُ غَفْوةٌ ... فيأوي إلى بيته ثانِيَهْ
وتَطْفُر مِن فرح زوجه ... كأن لم تَبِتْ لَيلة عانِيَهْ
تُكَفكفُ أدمعهُ الساخناتِ ... وَيَمسحُ أجْفانَها الهامِيَهْ
ولكنهُ حُلمٌ تنطوي ... على نفخة الصور أفراحُهُ
وينهض كلُّ فتىً للسلاح ... ويوحي له الدَّمَ إصباحُه
فيهزأ بالموت في كرِّهِ ... فليس بِمُثنيه مجتاحه
الخفيف