انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 326/رسالة النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 326/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 10 - 1939



فصل المقال

فيما دار من نقاش حول (مباحث عربية)

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

أخذنا في نقدنا لكتاب (مباحث عربية) أن مؤلفه في بحثه عن (المسلمين في فنلندة)، وقف عند مجرد الأقوال التي سمعها، ولم يتعدها إلى التحقيق. والحق أن هذا المبحث لا يتعدى كونه استطلاعاً صحفياً، ومن هنا جاء ما فيه من الضعف. فالدكتور بشر يرى أن المسلمين الذين اكتشف وجودهم في فنلندة أصلهم من (الترك - التتر)، الضاربين أصلاً فيما وراء جبال أورال، رحلوا إلى فنلندة عقب الثورة الاشتراكية الكبرى في روسيا. وقد لاحظت أنا أن المسلمين من (الترك - التتر) ينتشرون في شمال وشرق أوربا بكثرة. فمنهم جموع في لابلاند وفي فنلندة وفي استونيا وفي ليتونيا وفي بولندة. . . وقد تحدث عنهم المستشرقون الروس والبولنديون كثيراً - خصوصاً اليهود من الأخيرين - وكان من الروس المستشرق بارثولد، وهو من شيوخ الاستشراق في أوربا؛ فقد كتب بحثاً نفسياً عن (الأتراك في أوربا الشمالية) تجده في مجلة الشرق الجديدة الروسية م 8 ج 4 ص 311 - 336 كذلك كتب بحثاً قيماً الأستاذ فيسفولد كزمبرسكي، وهو من أعلام الاستشراق في روسيا الآن في نفس المرجع. م 10 ج 2 ص 101 - 140 وهو عن (بقايا جموع التتر القديمة في دويلات البلطيق) واعتماداً على هذه المعرفة نظرت في المراجع التركية التي تحت يدي، فوجدت أن جموعاً من الأتراك المسلمين، رحلوا إلى الشمال في القرن السادس عشر، واستمروا في بلاد الفنوا (فنلندة)، ومن هنا جاء تساؤلي: هل تأكد الدكتور بشر فارس من المعلومات التي ألقيت إليه من الأشخاص الذين قابلهم في فنلندة من جمهور (الترك - التتر) فيها عن أصلهم؟

وقد عمد الدكتور بشر إلى المغالطة في رده فقال: إنه اهتدى إلى هؤلاء المسلمين، وأنهم خبروه بما دوَّن. وأنا وإن كنت لا أحب أن أشجب رواية الدكتور بشر واتهمه في كلامه، إلا أن الذي أحب أن أقوله: إنهم قد يكونون خبروه أن أصولهم من وراء جبال أورال، وأخطأ هو فهم كلامهم فظن أن هذا يعني أنهم حديثوا العهد بفنلندة أتوها بعد الانقلاب السوفيتي من وراء جبال أورال!. . .

2 - قال الدكتور بشر: إن بعض هؤلاء الأتراك (التتر) يقيمون بمدينة أعمال فنلندة. وقد علقت على هذا الكلام في ردِّي فقلت: (ما صلة اسم هذه المدينة بلفظة ترك)، لأن المشابهة قوية بين اسم المدينة واسم الأتراك، مما يدل على أن المدينة اشتق اسمها من جموع الترك - التتر - التي نزلتها في زمن من الأزمان فجاء الدكتور بشر في ردّه يغالط ويقول: إن مدينة توركو كانت عاصمة فنلندة في المائة الرابعة عشرة للمسيح، وبذلك ينفي تأثير جماعة الترك الذين نزلوا ربوع بلاد الفنوا في القرن السادس عشر

والمغالطة واضحة، لأننا لم نقل في ردّنا إن هنالك صلة بين نزول الجموع التركية في القرن السادس عشر وبين تسمية المدينة باسم توركو، ذلك أننا نعرف أن المدينة أقدم عهداً من ذلك التاريخ، وإليك الدليل:

قلنا: (ومسألة أخرى في هذا البحث، فالباحث يذكر أن جموع هؤلاء المسلمين الأتراك تنزل العاصمة ثم بمدينتي تميري وتوركو. وهو لم يذكر لنا شيئاً عن المدينة الثانية، وهل هنالك صلة بين اسمها ولفظة (تورك)

فأين هذه الملاحظة من ردّ صاحبنا القائم على المغالطة والإيهام والتهويل؟

3 - نعرف من كتب الأثنولوجيا أن الفنلنديين يردّون إلى أصلين: الشمال من فنلندة تنزل بعض الجموع الذين يردّون إلى قلة ضئيلة في فنلندة اليوم. ونزول النورديين في دويلات البلطيق من القرن الخامس عدل الصفات الاثنولوجية للفينوا الأول. ومجيء بعض الجموع من (الترك - التتر) إلى دويلات البلطيق واستقرارهم فيها، وكان من الموجتين المغوليتين العظيمتين اللتين جرفتا روسيا عام 1237 وعام 1239، إذ نزل شواطئ البلطيق جماعات من (الترك - التتر) الذين دفعتهم أمامها الموجة المغولية. ثم جاء من الشرق ومن الجنوب عبر بحر البلطيق عن طريق بولندة جموع من الأتراك العثمانيين، نزل بعضهم بولندة واستقر فيها والبعض الآخر ركب البحر إلى الشمال واستقر في استونيا ولتوانيا ولتفيا وفنلندة. وكان مجيء هذه الجموع على دفعات. ولا شك أن بعض هؤلاء كانوا من الأتراك العثمانيين الذين أسروا في الحروب التي شنها الأتراك على أواسط أوربا وعلى جنوب بولندة (التوران في مجرى التاريخ - ج 3 المقدمة بعدها وكذا بارولد في مبحثه السابق الذكر)

ومن هنا يتبين قيمة رد الدكتور بشر من الحقيقة. هذا إلى أن أصل اشتقاق الفنلندية يعود إلى مادة ترك كما تحقق هذا معنا من مراجعة مادة (ترك) من أعمال معهد التاريخ التركي (السلسلة الأولى - المجلد 4 ج 3 ص 117 - 118)

4 - قلنا إن الدكتور بشر فارس لم يتعمق في بحثه، وكان آية ذلك عندنا أنه يقول: إن لغة التعليم عندهم هي التركية وحروف هجائهم هي الحروف اللاتينية التركية التي وضعت وشاعت بأمر أتاتورك (ص 24) وهو يستدل بهذا على أنهم صرفوا هواهم عن روسية الجنوبية (ص 23) لأننا نعرف أن هناك ضربين من الهجاء اللاتيني للغة التركية، الأول يتخذه أتراك الاتحاد السوفيتي والثاني يتخذه أتراك الجمهورية التركية. وهنالك من الفروق بين الضربين ما يجب تفرقة بعضها عن بعض. وقلنا في ردنا عليه: (وفي إمكان الباحث بمراجعة هذه الفروق أن يدلي برأي نهائي في الموضوع) فحرف الدكتور بشر كلامنا فقال: (إنني أخذت عليه عدم التثبت في بحثه لأنه لم يقرر أن الحروف التي يستخدمها هؤلاء المسلمون في فنلندة، ليست هي تلك الحروف التي توافق عليها أتراك الاتحاد السوفيتي) وأين هذا الكلام من كلامي؟!

إن الكماليين استعملوا الهجاء اللاتيني في 3 نوفمبر عام 1929 288 سطر 24 الاتحاد السوفيتي اتخذوا الهجاء اللاتيني في مؤتمر باكو عام 1924، ثم حدث بعض الخلاف سوّه في مؤتمر تفليس عام 1925 ومصطفى كمال اعتمد على الهجاء اللاتيني الفرنسي في وضعه الهجاء اللاتيني التركي، وإن نظر لنظام أتراك الاتحاد السوفيتي

ولا زلت أنا عند رأيي الأول أنه كان في مستطاع الدكتور بشر أن يرجع لنظام الهجاء اللاتيني لهؤلاء المسلمين، ويقارنه بما يقابله عند أتراك الاتحاد السوفيتي ثم أتراك الجمهورية التركية وبذلك يدلي برأي نهائي في الموضوع. أما القول بأنهم أخبروه بذلك، فهو من اجتلاب القول، فضلاً عن أنه موضع نظر حتى يمكن الجزم في نظام أحرف الهجاء اللاتيني التي يستخدمونها في الكتابة

وإذا كان عند الدكتور بشر فارس نماذج من كتاباتهم فليبعث إلي بواحد منها، وأنا ضمين بأن أقطع الشك في هذه المسألة بحكم درايتي بهذه الدقائق نتيجة تقلبي في بيئات تركيا والاتحاد السوفيتي ردحاً من الزمان

بقيت بعض ملاحظات على الجملة التي دار حولها النقاش من مبحث الدكتور بشر فارس، من ذلك أنه استدل من أن لغة التعليم عند هؤلاء المسلمين الفنلنديين هي التركية بأنهم صرفوا هواهم عن روسية الجنوبية (ص 23 من كتابه) ولست أعرف ما موضع روسية الجنوبية في هذا التعبير؛ لأن هؤلاء إن كانوا من الترك الضاربين فيما وراء جبال أورال فلا صلة لهم إذن بروسية الجنوبية (القرم وقازان وأكرانيا)، وإن كانوا من الجنوب من روسية فلا معنى للقول بأنهم من الترك الضاربين فيما وراء جبال أورال. . . والذي عندي أن هذا الخلط نتيجة تفسيرات شخصية من الدكتور بشر فلم يحدثوه بأنهم من وراء جبال أورال، وإنما الدكتور بشر قد استنتجه خطأ، لعلمه أن (الترك - التتر) أصلهم من هذه المناطق. وعلى هذا يتسق الأمر في استطلاع الدكتور بشر لشؤون هذه الجماعة المسلمة في أقصى الشمال. أما القول بصرف الهوى عن روسيا الجنوبية. . . فهو الأصل الذي يكشف عن فكرة الاستنتاج في قول بشر أنهم من (الأتراك - التتر) الضاربين فيما وراء جبال أورال. . .!

5 - قلنا في نقدنا لكتاب مباحث عربية: (إن استعمال لفظ (السلوك) لأحد مشتقات المصدر الفرنسي تارة ولفظ (الأخلاقيات) لمشتق آخر لنفس المصدر (وهو تارة أخرى يوقع في اللبس والاختلاط). فكتب الدكتور بشر: (والردّ أن الناقد لم يدرك الفرق بين اللفظتين الفرنسيتين: فالأول يدل على أعمال المرء من الناحية الأخلاقية، والثاني يفيد علم الأخلاق). والمغالطة في ردّ صاحبنا الدكتور بشر واضحة، لأن الأصل في نقدنا أن استعمال لفظ السلوك والأخلاقيات لمشتقتين من مصدر واحد اللاتينية يوقع في اللبس. واللازم أن يشتق من المادة العربية التي ينظران إلى اللفظين الفرنسيين والأول يأتي عندي آداباً والآخر أدبيات، ففي الأول مفهوم حيث هو قاعدة (أو منهج) وفي الآخر مفهوم حيث هو مبدأ وبين الاثنين من الفارق ما لاحظه الدكتور بشر فارس

6 - قلنا: (إن في تعبير الدكتور بشر أن للفظة الشرف مفادات متجاورة تارة، متباينة أخرى) قصوراً لا تستقيم معه الجملة إلا إذا أبدل فيها لفظة المتجاورة بالمتشابهة لأنها أدل على المعنى وأكثر اتساقاً في الجملة من حيث أن التجاور في تعبيره يفيد إفرنجياً يعني:

1 - الألفاظ المفردة الدالة على معنى واحد (مترادف)

2 - الألفاظ المفردة الدالة على معنى متشابه (أو متقارب)

وإذن يكون في العربية الفصحى كل من لفظتي المترادف أو المتشابه (المتقارب) وذلك حسب استعماله. والتعبير الذي استعمل فيه الدكتور بشر لفظة متجاورة سياقها تفيد التقارب أو التشابه. والدكتور بشر يريد هذا، لأن المتباين يقابله المترادف من الجهة الأخرى ويقف بينهما المتشابه والمتقارب. وهذه مسألة لا تحتاج إلى ذلك العلم الدقيق بمفردات اللغة كما يهول صاحبنا في رده. وليس جعلنا المتشابهة بدليل قصور في العلم باللغة. لأن المتشابهة والمتباينة من الألفاظ التي تنظر وليست اللفظة الإفرنجية مفادها قاصراً على المترادفة عربياً. ونحن إن كنا وقفنا في ردنا عليه عند المشابهة (الوجه الثاني من مفاد اللفظة) فذلك لأنها هي المقصودة في العبارة، والسياقة تدل عليها، وما دام الأمر كذلك فأي ضرورة تلجئنا إلى الكلام عن المترادف أو المترادفة من الألفاظ؟

على أن محاولة بشر تخريج الموضوع بقوله: إنه يعني بالمفادات الإفرنجية فلا معنى لها ولا محل، لأن المفادات لا تتجاور ولكن تتشابه (أو تتقارب) وتتباين وتترادف لأن التجاور يغلبها الجانب الحسي والمفادات يغلب عليها الجانب المعنوي. أما أن المتجاورة من تعبيره تنظر فليس ذلك بدليل يلزم أن يكون التعبير فيه لفظ التجاور. لأن التعبير في العربية وليس في اللغة الفرنسية، ولكل لغة أحكامها وأصولها. وأظن أنني لست بذلك الشخص الذي يعطي للدكتور بشر درساً في هذا، فهو أدرى منا في هذا بحكم كونه ابن اللغة العربية، ولكن قل هي الشكلية أفسدت عليه النظر

(لها بقية)

إسماعيل أحمد أدهم